في سبتمبر من عام 1952 صدر قانون الإصلاح الزراعي في مصر أي بعد حوالي شهر ونصف فقط من انطلاق ثورة يونيو 52، على الرغم أن الهدف من القانون كان واضحاً وهو القضاء على نفوذ الإقطاعيين المتحالفين مع الإنجليز، إلا أنه بدا للبعض أنه ذو غرض انتقامي وغير عادل، وتسبب في أزمة سياسية استقال على إثرها رئيس الوزراء علي ماهر باشا، وربما كان هذا هو السبب نفسه الذي دفع محمد نجيب في مذكراته إلى التبرؤ من القانون الذي نزل فيه على رأي الأغلبية –على حد تعبيره- على الرغم من عدم قناعته كما ادعى، فالرجل كان يفضل فرض الضرائب التصاعدية كبديل.
يقول نجيب في الصفحة رقم 97 من مذكراته: “صدر قانون الإصلاح الزراعى رغم معارضتى، ونزولا على رأي الأغلبية، فقد كنت مع الضرائب التصاعدية، وكنت أرى أننا سنعلم الفلاح الذى حصل على الأرض بلا مجهود أو تعب، الكسل والنوم فى العسل… وكنت أرى أن تطبيق القانون سيفرض علينا إنشاء وزارة جديدة لمباشرة تنفيذه «وزارة الاصلاح الزراعى» وهذا سيكلفنا أعباء مالية وإدارية لا مبرر لتحملها”
وعلى الرغم من أن نجيب عزا لنفسه في مواضع أخرى الفضل في إصدار القانون الذي خرج في عهده، إلا أن رؤيته تكشف عن عوار في تقدير حقيقة الأمور، فعندما قامت ثورة يوليو كان هناك نحو (2000) أسرة، أي نحو 10 ألاف شخص يملكون خمس الأراضي الزراعية في مصر، بينما كان نصف إجمالي سكان مصر يملكون أقل من فدانين للأسرة
لم يكن الهدف من القانون فقط إتاحة مصدر دخل محدود لشريحة هي في نهاية الأمر تمثل الغالبية العظمى من الشعب المصري، بقدر ما كان تحرير هؤلاء الذين كانوا يعاملون معاملة أقنان الأرض وعبيدها من قبل الإقطاعيين، وفتح مسار للحراك الاجتماعي الذي أغلق على مدار عقود، فإذا كان من الطبيعي أن تشكل الطبقة الوسطى الشريحة الواسعة من أي مجتمع، فإن التقسيم الطبقي لمصر في المرحلة الملكية يذهب إلى أن نسبة الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى كانت تمثل 1 إلى 5، بينما تمثل نسبة الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا 4 إلى 17.
وعلى الرغم من ادعاء البعض بأن ثمة محاولات لفتح آفاق للحراك الاجتماعي شهدتها مرحلة ما قبل ثورة 1952 متمثلة في إتاحة التعليم المجاني منذ عهدي عبدالرزاق السنهوري وطه حسين في وزارة المعارف، بالإضافة إلى السماح لبعض أبناء الطبقة الوسطى من الشعب المصري للالتحاق بالكليات العسكرية، وهي المرحلة ذاتها التي التحق بها عبدالناصر ورفاقه من ضباط يوليو بالجيش المصري، إلا أن هذه التجارب كانت ضعيفة ومحدودة الأثر فلم يكن متاحاً لغير أبناء أثرياء القرى والأقاليم من الإقطاعيين الكبار أو الصغار الالتحاق بالتعليم، والذين نجحوا من خارج هذه الشريحة الاجتماعية في كسر دائرة الجهل والالتحاق بالتعليم مثلوا استثناءات فردية محدودة مثل السنهوري وطه حسين وغيرهما، واللذين أرادا بعد توليهما لوزارة المعارف أن يلقوا الحبل في بئر المجتمع السحيق لأبناء طبقتهم لمن شاء منهم أن يترقى على سلم الصعود الاجتماعي.
بموجب القانون- وكما هو معلوم- أعيد توزيع الأراضي الزراعية لتنتهي سطوة مجتمع النصف في المائة – على حد تعبير عبدالناصر- وهو تعبير وإن كان به قدر من المبالغة، إلا أنها كانت مبالغة محدودة غير بعيدة عن الواقع إذا ما تدبرنا الأرقام، حيث نزعت ملكية ما يزيد على نصف مليون فدان، أي ما يقرب من 8.4 % من إجمالي المساحة المنزرعة في مصر في ذلك الوقت ليعاد توزيعها على صغار الفلاحين، بعدما حدد القانون الحد الأقصى للملكية الزراعية بـ 200 فدان للفرد، وكان عدد الأسر التي طبق عليها قانون الإصلاح الزراعي في المرحلة الأولى منه عام 1952 يبلغ 336 عائلة كان في حيازتهم 180678 فدانا، وهى قوة اقتصادية وفرت لهم نفوذاً اجتماعياً وسياسياً قوياً على شريحة عريضة من أبناء الشعب المصري من الشرائح الاجتماعية الأخرى.
بحسب وثائق لجنة تصفية الإقطاع فإنه على الرغم من تطبيق القانون كانت بعض العائلات لا تزال تملك آلاف الأفدنة، أما الذين طبق عليهم قانون الحد الأقصى للتملك فقد سمح لهم أن يهبوا أبناءهم مائة فدان أخرى، وترك لهم حرية ببيع الأراضي التي تزيد عن الحد الأقصى المسموح بسعر عادل.
وكلما توغلنا في مواد القانون بدا لنا غياب الهدف الانتقامي من القانون في مقابل وضوح هدف تحقيق قدر من التوازن الاجتماعي ما بين شريحة الأرستقراطية الزراعية التي لا تتجاوز 5 % من المجتمع ونحو 90% من أبناء المجتمع المصري، ثم توالت تطورات قانون الإصلاح الزراعي في نسختيه الثانية 1961، والثالثة 1969، فهل حقق القانون أهدافه؟
ربما لم يتح لصانع القانون –جمال عبدالناصر- أن يرى ثمار ما حققه قانونه الخاص بالعدالة الاجتماعية في حياته، لكن الرؤية الآن أكثر وضوحا بعد خمسين عاما أو أكثر من صدوره، مع تعاقب أجيال من أبناء صغار الفلاحين الذين سمح لهم بتملك عدد من الأفدنة لم يتجاوز الخمسة فإذا بهم يتمكنون من تربية أبنائهم وتعليمهم ليصبح بينهم الطبيب والمهندس والمحامي والأستاذ الجامعي، وهو ما يعني الانتقال بهذه الفئات في السلم الاجتماعي من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى، وليبقى قانون الإصلاح الزراعي أهم مؤثرات الحراك الاجتماعي في مصر في القرن العشرين
في كتابه (ماذا حدث للمصريين) يعتبر عالم الاقتصاد السياسي الكبير وصاحب النظرات الثاقبة في فهم المجتمع المصري الدكتور جلال أمين، أن (قانون الإصلاح الزراعي) كان أهم عوامل الحراك المجتمعي الذي شهدته مصر في الفترة ما بين 1945- وحتى عام 1995، فقد اتسعت شريحة الطبقة الوسطى من أبناء الشعب المصري على مدار هذه السنوات،صحيح أن ملكية الأرض الزراعية لم تعد هي المحدد الأساسي لنوعية الطبقة الاجتماعية بعدما تنوعت مصادر الدخل وأنماط الإنتاج، إلا أن قانون الإصلاح الزراعي كان الأساس الذي قام عليه الحراك والتحول الاجتماعي الاستثنائي الكبير، لاسيما في مرحلة ما قبل النفط والهجرة إلى البلدان العربية التي كان لها من السلبيات ما يفوق إيجابياتها على المصريين في رأي جلال أمين والعديد من علماء الاقتصاد والاجتماع.
في التاسع من سبتمبر من كل عام يحتفى الفلاح المصري ليس بعيد تملكه وإنما بعيد حريته واسترداده لكرامته ولحيز أصيل بات يشغله في مجتمع ظل غريباً عنه لمئات السنين، وهو ما لم يكن يحدث دون إنطلاق قطار الحراك الاجتماعي مع قانون الإصلاح الزراعي يوم التاسع من سبتمبر عام 1952.