بعد خمس سنوات من كتابته «الثلاثية»، كان الروائي الكبير نجيب محفوظ ( 11 سبتمبر 1911 – 30 أغسطس 2006) على موعد مع شخصية روائية جديدة مثيرة للجدل، ولما تزل، وهي شخصية «الجبلاوي»، محور روايته الأشهر «أولاد حارتنا»، وهي الرواية التي نُشِرَت أوّلاً، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، في حلْقات بجريدة الأهرام، قبل أن تُنشَر بعد ذلك في لُبنان، لتثير ضجة تُعدّ من أكثر “الضجات” في تاريخ الرواية العربية، بل في تاريخ الأدب العربي الحديث كله!
«أولاد حارتنا»، رواية تحاول رصد تاريخ الإنسانية، من خلال أحداث ملحمية طويلة، تقع في إحدى حارات مصر، التي تقع حدودها بين الجبل والوادي، والحارة هنا رمز، وسكانها من أصل واحد، والأصل الواحد هنا يرجع إلى آدم، فهو رمز أيضا، لكن أولئك السكان يرزحون تحت نِيِر بطش الفتوّات، الذين تزخر بهم عوالم روايات نجيب محفوظ، كما يرزحون تحت نِير جشع وفساد نُظّار الوقف، الذين يسرقون إرثهم بلا هوادة، ولا يملك أولئك السكان سوى الحلم، الحلم بالتخلُّص من لعنة قديمة أورثها لهم جدهم الأكبر «الجبلاوي»، الذي انزوى، منذ سنوات، في قعر بيته الكبير، بعد أن شاخ ووهنت عظامه، لتُنسًج حوله الحكايات والأساطير، ورويدا رويدًا يصبح لغزًا، فلا يعرف أحدْ إن كان حيًا أو ميتًا، لكن أثره لا يغيب قط، حتى وهو غير موجود مرئي، فبعد أن حلّ محلّه ناظر الوقف الجشع وفتواته الأشرار، لم تعدم الحارة أحد البائسين، الذين لا يملكون سوى الشكوى في صمت، يرفع عقيرته بصوت ملأه الخوف والرجاء، لينادي قائلا:
– أيـن أنت يا جبلاوي؟ ليتكرر من بعد ذلك نداء الضعفاء والمعذبين والمكروبين، الذين لا يملكون سوى ذلك الصياح البائس!
تلك الرواية، لا شك، تُدخلنا إلى إشكالية علاقة «الله» بالإنسان في أدب نجيب محفوظ، وقد قدّم لنا الناقد والمفكّر جورج طرابيشي في كتابه “الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزيّة”، الصادر عن دار الطليعة، بيروت 1973، رؤيته حول “علاقة الإنسان بالله في أعمال محفوظ” وهو العمل الذي قال عنه محفوظ، كما جاء على ظهر غلاف كتاب طرابيشي: “بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأن تفسيرك للأعمال التي عرضتَها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها”، ويصل جورج طرابيشي إلى اعتقاده الشخصي أن كاتبنا نجيب محفوظ “طرح مشكلة الله من وجهة نظر تؤمن بالله وبالإنسان معا”، فمحفوظ لم يكن ملحداً ولم ينكر وجود الله، بل آمن بالاثنين معا، ذلك أنه لم يكن متورطاً في مأزق (الله أم الإنسان؟)، لكن كيف عالج كاتبنا نجيب محفوظ تلك المشكلة من وجهة نظره ككاتب درس الفلسفة، وحمل على عاتقه مشروعاً روائياً متعدد الأفكار والرؤى؟
«أولاد حارتنا» في أسلوبها وبنيتها الأدبية تحمل أكثر من مستوى في الفهم والمعنى، ولعل ذلك هو ما جعل قراءاتها النقدية والتأويلية الكثيرة متباينة، لكنها على أي حال تحمل رؤية نجيب محفوظ الفلسفية، وإن بدَتْ رؤية بسيطة ومباشرة، على الرغم من رمزيتها، فالجبلاوي الذي شارك في صنع مأساة تلك الحارة هو نفسه الذي يسعى الجميع إليه، والفوز بمعرفة حقيقة وجوده، والهُتاف باسمه أحيانًا حتى يخرج عن صمته لنجدتهم، الأمر الذي أغرق الرواية في الرمزية المباشرة، فكانت الصدمة، وكانت المُصَادَرة لأكثر من أربعين سنة، وكان التكفير، الذي طال كاتبها حتى بعد وفاته!
«الله» في عالَم نجيب محفوظ يأتي رمزاً تارة، ومباشراً تارة أخرى، وتبقى علاقة الإنسان بالله في أعمال نجيب محفوظ علاقة حاضرة بكثافة؛ فلا يكاد يخلو عمل أدبي لكاتبنا الكبير من إشارة أو دلالة على حكمة وجود الإنسان في هذا الكون، وعلاقة الله بالبشر، وتبايُن الثواب والعقاب، وسر الوجود الإنساني، والعلاقة بين عالم الشهادة/ الدنيا وعالم الغيب/ الماورائيات، وتأتي «أولاد حارتنا» كمقدمة سكب فيها كاتبنا على صفحاتها رؤيته حول «الله»، وعلاقة الإنسان به، فهمها البعض علي أن ((الجبـلاوي» رمز لله، يصفه محفوظ فيقول عنه:
« كان فتوة حقاً، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيما»، واستكمل هذا البعض فهمه للجبلاوي على إنه رمز لله بجعل أولاده رمز لأنبياء، فأدهم عندهم رمز لآدم، وإدريس رمز لإبليس، وكذلك الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام رمز لهم بجبل ورفاعة وقاسم على التوالي، أما عرفة فإنه يرمز إلى العلم الحديث الذى هو أساس العصر الحديث، والحارة ليست كسائر الحارات؛ فهي الأصل، حارة أوجدها الجد الأكبر «الجبلاوي» كما أوجد «الله» الأرض، يصفها كاتبنا فيقول:
«حارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها – الجبلاوي – وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي، كان رجلاً لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره»، وأما البيتُ الكبير فهو يرمز إلى مملكة الله التي لا يدخلها إلا المقربون، وحديقته الغنّاء وارفة الظلال هي جنة الله التى لا ينعم بها إلا من رضي عنهم، لذلك طرد الجبلاوي إدريس من بيته عندما تجرأ عليه، ثم أعقبه بأدهم وزوجه أميمة عندما عصيا أمره.
https://www.youtube.com/watch?v=rnOUVlakZBQ
يروم نجيب محفوظ، من خلال روايته تلك تحديداً، رواية قصة الخلق منذ وجد الإنسان على الأرض، وصراع الخير والشر، والطيبين والأشرار، فقصة البشرية لديه حلقات تسلم بعضها إلى بعض، ويبدو جلياً تبعاً لهذا الفهم أو التفسير للرمز أن محفوظ يؤمن إيماناً ثابتاً بأن حلقة العلم هي آخر حلقات تلك القصة؛ فالعلم هو الذي يبقى، والعلم هو المحرّك لتطور البشرية، فها هو ذا «عرفـة»، الذي يمثل العلم، يؤسس للعلم بقتل «الجبلاوي» ويحل محل جبل ورفاعة وقاسم، يقول محفوظ: «ويوما بعد يوم ، مضت حقيقة عرفة تتكشف للناس، ووقعت الحقيقة من أنفسهم موقع العجب فأكبروا ذكراه ورفعوا اسمه فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم.
وقال أناس إنه لا يمكن أن يكون قاتل الجبلاوي كما ظنوا وقال آخرون إنه رجل الحارة الأول والأخير ولو كان قاتل الجبلاوي، وتنافسوا فيه حتى ادعاه كل نفس لنفسه»، لكنهم اكتشفوا أن العلم بغير الدين الذي تحول إلى أداة شر، أسلمهم إلى الاستبداد وسلب حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي.
محاولة نجيب محفوظ إعادة كتابة تاريخ وقصة البشرية، محاولة جبارة، على حد تعبير جورج طرابيشي، بيْد أن تلك المحاولة، على امتدادها طوال صفحات تلك الرواية أوغيرها من أعمال إبداعية أخرى لمحفوظ، لم تكن على قدر كبير من النجاح الفني، ولا سيما عندما صاغ محفوظ سرديته التاريخية صياغة رمزية مباشرة، لذلك لم يجد طرابيشي بدًّا من الاعتراف بأن نجيب محفوظ لم يفعل شيئا في «أولاد حارتنا» سوى أنه نسخ تاريخ البشرية نسخا، بعد أن حوّره فألبسه جلابيب أولاد حارة الجبلاوي، و«التاريخ» إذا ما أُلبِس الجلباب، يبدو ضامراً هزيلاً، مهما يكن في الأصل عظيما مجيدا»!
وفي الحق، فإن كاتبنا الكبير نجيب محفوظ لم يتعدّ على الأنبياء كما يزعم المتسلّفون، كما لم يقرر «موت الإله»، كما يدّعي الناقمون عليه، بل إنه أراد من هذه الرواية، التي لا نتجاوز إذا اعترفنا أنها ليست في جودة روايته العظيمة (الحرافيش)، نقول: إن محفوظ أراد من روايته تلك أن ينبّهنا إلى أن «الله» لن ينزل من عليائه، فيعمل أو يكدّ أو ينتقم من الظالمين بيديه، ولن يصنع لنا المعجزات؛ لأن عصور الأنبياء قد ولّت، ولم يبقَ إلا العلم؛ فكما كان العلم سلاحا في يد الأنبياء، فهو الآن سلاح في أيدينا، يمكن من خلاله صناعة معجزات جديدة، تفيد منها الإنسانية كلها.
إن رواية «أولاد حارتنا» لا تخلو من خلفية اجتماعية؛ فهي لا تستوحي حكاياتها الملحمية من قصص الأنبياء كما يري البعض، بل إن أحد أهم أهدافها هو محاولة إسقاط التاريخ البشري القديم على الحاضر، لتصوير توق المجتمع الإنساني إلى القيم التي سعى الأنبياء إلى تحقيقها كالعدل والحق والسعادة .
وهنا تفسير آخر ضمن عشرات التفسيرات للرمز في رواية أولاد حارتنا فإدا كان الشيء بالشيء يُذكَر، فلماذا لا نضع تلك الرواية/ الأزمة في سياقها الزمكاني، بحيث نخمّن أن «الجبلاوي»، لم يرمز به محفوظ إلى «الله» أو إلى «الدين»، بل كان يرمز به مثلاً إلى جمال عبد الناصر؟! الذي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية في حارتنا؟ أليس الخيال يقرّ ذلك؟! أليس تأويل الرموز في تلك الرواية، على سذاجتها يتيح ذلك؟