فن

أزهريون في حضرة الغناء.. مشايخ الطرب في مصر (2-2)

ونواصل رحلتنا مع  أولئك المشايخ المبدعين الذين تلقوا علومهم الدينية في الأزهر الشريف وارتدوا الزي الأزهري واكتسبوا لقب الشيخ ..

غير أن موهبة الفن والغناء والتلحين غلبت عليهم فتركوا أنفسهم لها واستجابوا لنداهة الفن الجميل، واتجهوا بكليتهم للغناء والتلحين دون خوف ودون تردد.

فقد كان المجتمع يحفظ للفن قيمته ولا يرى في احتراف الشيخ  الأزهري للغناء والموسيقى شيئا يقلل من قيمته أو يسئ للأزهر في شيء.

مكتشف أم كلثوم

بفطرتها وبصيرتها أدركت الطفلة أم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي التي كانت تجوب قرى مديرية الدقهلية وباقي قرى الدلتا تغني وتحيي حفلات الأفراح والمناسبات الدينية؛ أن القدر ساق إليها  الشيخ ” أبو العلا محمد” ليكون نقطة التحول الكبرى في مسيرتها الغنائية بل في مسيرة الغناء المصري والعربي كله .. فذات يوم من أيام صيف عام 1924وكان أبو العلا محمد قد أحيا حفل زفاف لإبنة إحدى الأسر العريقة في الدقهلية وبعد الانتهاء من الفر ح ركب أبو العلا  حماراً حمله إلى محطة السنبلاوين وجلس في  استراحة المحطة انتظارا للقطار الذي سيستقله للعودة إلى القاهرة..

كان أبو العلا في ذلك الوقت واحدا من أشهر المطربين والملحنين في مصر، تحلق حوله جمهور المسافرين يودون سماع صوته الجميل.. وللصدفة البحتة كانت أم كلثوم مع والدها على رصيف المحطة فعرفت بوجود الشيخ أبو العلا الذي ظلت تحلم بلقائه منذ سمعته يغني في الفونغراف قصيدة “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه”، فوقعت الأغنية في أذنها موقع السحر وظلت تسترجعها مبهورة بلحنها وبصوت الشيخ “أبو العلا”..

 انطلقت أم كلثوم إلى استراحة المحطة لتقدم نفسها للشيخ “أبو العلا” ولتصر إصرارًا شديدا على أن تعزم  مطربها الأثير إلى بيتهم في قرية طماى الزهايرة ..

وأمام إصرارها  لم يجد أبو العلا بدا من تلبية دعوة الفتاة المعجبة به وبفنه ..

وفي منزل أم كلثوم بطماي الزهايرة استمع أبو العلا محمد إلى أم كلثوم ليجد نفسه أمام موهبة غنائية خارقة واكتشاف فني مذهل..

 ليصر على ضرورة أن  تسافر أم كلثوم إلى القاهرة وتقيم بها حتى تحقق ما تستحقه من نجاح وذيوع .. وقرر أبو العلا محمد أن يتبنى أم كلثوم بشكل كامل ..وسافرت أم كلثوم إلى القاهرة واستقبلها أبو العلا محمد ووجد لها مكان إقامة بأحد الفنادق بشارع فؤاد الأول وتبنى موهبتها العظيمة وكان يحرص على اصطحابها إلى مسرح الماجستيك كل ثلاثاء حيث كانت تغني هناك ..

ولمدة ما يقرب من ثلاث سنوات احتضن فيها موهبتها الباذخة ظلت أم كلثوم تغنى من ألحان “أبو العلا محمد حتى رحيله في يناير عام 1927 ليقدم هذا الشيخ الأزهري إلى الغناء العربي أهم وأشهر مطربة في تار يخه.

اختلفت الروايات في تاريخ ومكان مولد أبو العلا محمد فهناك من مؤرخي الغناء من يقول أنه ولد عام 1878 وهناك من يقول أنه ولد عام 1884 وهناك من يقول أنه من مواليد قرية بني عدي باسيوط وهناك من يؤكد أنه ولد بمنطقة الناصرية بالقاهرة.. والأرجح بالنسبة لنا أنه ولد عام 1878 بالناصرية .. لكنه ينتمي لقرية بني عدي، وهو حفيد  الشيخ العدوي  مفتي المالكية بالأزهر الشريف من جهة الأب .. وحفيد الأمير حسن كتخدا من جهة الأم.

نشأ أبو العلا محمد بحارة سوق المسك بالناصرية   وفي  صغره  حفظ القرآن الكريم كاملا وتميز بحلاوة صوته وعذوبته في ترتيل القرآن ودرس بالأزهر الشريف وكان شيخا معمما يرتدي الجبة والقفطان والعمة الأزهرية، وعمل في بداية حياته منشدا وقارئا للقرآن ثم اتجه إلى  قصائد المديح والتواشيح، وكان يحيي  الحفلات والمناسبات المختلفة ..

وقد أحيا سبوع الطفل أحمد رامي الذي كانت أسرته تقيم بالناصرية قريبا من محل إقامة الشيخ “أبو العلا ” هذا الطفل الذي سيكون قريبا من الشيخ “أبو العلا ” و شريكا له في مساعدة أم كلثوم وانطلاقها الفني الكبير.

علم أبو العلا محمد أم كلثوم كثيرا من  قواعد الغناء مثل كيفية نطق الحروف والتمرين على قوة الصوت، وعلمها كذلك كيفية مواجهة الجمهور وانتقل بها من غناء التواشيح إلى الأغاني العاطفية، ويقول بعض المؤرخين الفنيين أنه لحن لها ما يقرب من 30 أغنية في أقل من ثلاث سنوات المعروف والموثق منها حوالي عشر أغنيات أهمها الصب تفضحه عيونه لأحمد رامي، والأغنية الأشهر “وحقك أنت المنى والطلب ” التي ألفها شيخ الأزهرعبد الله الشبراوي المتوفي عام 1758 م ..

ويمكننا أيضا أن نقول أن “أبو العلا محمد” كان صاحب  فكرة أول نيو لوك في تاريخ الغناء العربي حين أقنع أم كلثوم بأن تتخلى عن العقال والزي البدوي لترتدي الأزياء الحديثة ولتصبح الآنسة أم كلثوم صاحبة العصمة.

كان أبو العلا محمد أول من طور في لحن القصيدة المغناة عبر مقام موسيقي..

وأول من أنهى سيطرة المطرب على اللحن  فجعل المطرب يلتزم باللحن الموضوع  بعد أن كانت الأغنية تخضع لارتجال المطرب وتصرفه خلال الغناء.. وكان أول من استبدل التخت الشرقي بعازفين متخصصين مثل سامي الشوا على آلة الكمان وأحمد صبيح على آلة القانون ومحمود رحمي على العود،

وأحدث أبو العلا محمد نقلة مهمة حين جعل الاستماع للأغاني متاحا لعامة الشعب بعد أن كان مقصورا على المجالس الخديوية والأعيان والإقطاعيين فظهرت أغنياته من خلال شركات جرامافون وبيضافون وميشيان وغنى له غير أم كلثوم كبار مطربي عصره أمثال منيرة المهدية وفتحية أحمد  مطربة القطرين ..

وكان أبو العلا محمد مريضا بالسكر وأصيب في أواخر حياته بالشلل وتفاقم عليه المرض ويقال أنه أكل كميات كبيرة من الحلاوة الطحينية فاقمت من خطورة السكر ففاضت روحه إلى بارئها في الخامس من يناير عام 1927 وشيعته أم كلثوم حافية القدمين حزنا عليه، وهي التي قالت عنه بعد أن أصبحت سيدة الغناء العربي “إن من يستمع إلى غناء الشيخ “أبو العلا محمد” لا يشعر بعدها بأنه يريد أن يستمع إلى غناء غيره.. وقد رثاه أحمد رامي بقصيدة قال في مطلعها :

كان شعري في فيك عذب الغناء ..فغدا اليوم في فمي للرثاء.. وقد قال عنه بعد ذلك إنه سيد الملحنين وأحسن المغنين.

الشيخ زكريا ..الملهم المعتد بموهبته

حين سئل نجيب محفوظ عن الشيخ زكريا أحمد قال :كان من ألطف الشخصيات وأكثرها حضورا وأطرفها لباقة في الحديث، وكنت أسأل نفسي: متى يعمل وهو يداوم على سهراته اليومية  فاكتشفت أن بإمكانه التلحين في أى وقت، وأذكر أنه لحن أغنية “حبيبي يسعد أوقاته وهو يجلس  معنا على المقهى.. وفي مرات عديدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية واحدة ويعرضها علينا لنختار الأفضل..

 وكان من أسباب تحملنا جميعا لسطوته وسيطرته على القعدة أنه يمثل الحكايات التي يحكيها بخفة دم ليس لها مثيل.. والجميع لا يملك نفسه من الضحك ” .. وقد مثل الشيخ زكريا رواية زقاق المدق التي أغرم بها غراما شديدا على المقهى أمام نجيب محفوظ.

الشيخ زكريا أحمد
الشيخ زكريا أحمد

ولد زكريا أحمد في بلدة سنورس بالفيوم في السابع من يناير عام 1896 لأب كان حافظا لكتاب الله عاشقا للتواشيح والإنشاد الديني وورث عنه ابنه زكريا حسه الموسيقي وحلاوة صوته.. وانتقلت أسرته في طفولته المبكرة إلى القاهرة.. وأراد والده لابنه أن يكون عالما أزهريا كبيرا  فحرص على إلحاقه بالكتاب.. وبعد أن انتهى من المرحلة الابتدائية ألحقه أبوه بالأزهر الشريف.. وأتم الشيخ زكريا حفظ القرآن الكريم وتلقى العلوم الدينية وعلوم الفقه بالأزهر الشريف ..

 وارتدى الزي الأزهري ” الجبة والعمة والقفطان” وأصبح يلقب بالشيخ زكريا وهو لقب ارتبط به طوال حياته.. غير أن الشيخ زكريا وجد في نفسه ميلا شديدا للموسيقى والغناء.. فشغف بهما شغفا شمل حياته كلها.. وكان لابد أن يستجيب لنداهة الفن  فذهب إلى الشيخ درويش الحريري  مريدا في حضرة استاذ الموسيقى ومعلمها فتعلم وعرف  وكون رؤية خاصة بالألحان والمقامات، فكان حريصا طوال حياته على التمسك الشديد  بالنغم الشرقي الأصيل، و بأن تكون الموسيقى ومقاماتها مصرية شرقية دون دخيل موسيقي أجنبي عليها ..

وألحقه أستاذه الشيخ الحريري ببطانة  الشيخ على محمود أستاذ الإنشاد الديني وفن التلاوة والخبير بالعلوم الموسيقية ومنه حصل معارف موسيقية جديدة ..ٍوغضب والد الشيخ زكريا على ابنه غضبا شديدا وطرده من بيته لا لأنه كان يرى فى الغناء والتلحين وصمة أو سبة لكنه  كان يرى أن هذه الحرفة لا أمان لها وأن ” الصييتة بيموتوا غلابة ” كما  قال لابنه حين عاد ليصالحه وينال رضاه  وعادت المياه إلى مجاريها بين الشيخ زكريا ووالده.

عام 1916 لحن زكريا أحمد أغاني  إحدى مسرحيات الهواة التى قام ببطولتها الشابان آنذاك حسين رياض وحسن فايق، وفي عام 1919 قدمه  الشيخان  درويش الحريري وعلي محمود  لإحدى شركات الأسطوانات ليقدم لها عددا من الألحان،

ومنذ بداية عام 1924 انطلق زكريا أحمد إلى عالم المسرح الغنائي ليلحن أغاني أكثر من 60 مسرحية غنائية لفرق الريحاني والكسار ومنيرة المهدية وزكي عكاشة فلحن  أكثر من 580 أغنية، وكأن الشيخ زكريا كان هو الوريث الشرعي لسيد درويش في المسرح الغنائيٍ..

وكان الشيخ زكريا  حريصا على أصول المقامات الموسيقية  وعلى عروبة اللحن وأصالته ومن الغريب أن الشيخ زكريا لحن لمنيرة المهدية إحدى الأغاني المعروفة بالإسفاف البالغ في كلماتها  “إرخي الستارة اللى ف ريحنا .. لاحسن جيراننا تجرحنا ” وهي من تاليف يونس القاضي ثم يعود بعدها ليتصدى للإسفاف الغنائي بأغنية فريدة خلدت في تاريخ الغناء من تلحينه وغنائه تأليف صديقه بيرم التونسي هي ” يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله”.. والمعروف أن زكريا أحمد غنى بصوته الجميل عددا من الأغاني الرائعة مثل يا صلاة الزين وجريح الغرام ويا حلاوة الدنيا.

وفي عام 1931 تحدث النقلة الكبرى  في مشوار الشيخ زكريا حين التقى بأم كلثوم ليخوض معها رحلة فنية عظيمة وحافلة .. وفي البداية لحن الشيخ زكريا لسيدة الغناء العربي عددا من الأدوار بلغت تسعة بدأها بدور هو ده يخلص من الله وحتى دورعادت ليالي الهنا عام 1939 وشهدت الأربعينات مرحلة جديدة من التعاون بين الشيخ زكريا وأم كلثوم حين لحن لها عددا هائلا من الأعاني  سواء الطويلة أو أغاني الأفلام  مثل الورد جميل، وغني لي شوي شوي، وساجعات الطيور، وقولي لطيفك، والآهات وأنا في انتظارك،  والأمل وحبيبي يسعد أوقاته وأهل الهوى وعن العشاق سألوني.

الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم
الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم

وظل التعاون بين ثومة والشيخ زكريا مستمرا ومثمرا حتى رأى الشيخ زكريا ان أم كلثوم تظلمه بمساواته في أجر ألحانه بالملحنين الآخرين ومنهم رياض السنباطي وطلب زيادة أجره عن ألحانه لها، فقد كان الشيخ زكريا معتدا بموهبته معتزا بها أيما اعتزاز، ورفضت أم كلثوم طلب الشيخ زكريا رفضا قاطعا، وحدث الخلاف الكبيربينهما، إذ أقام الشيخ زكريا دعوى قضائية يختصم فيه أم كلثوم والإذاعة المصرية ويطالب  بتعويض يصل إلى أكثر من 43 الف جنيه نظير حقوقه عن إذاعة أغاني أم كلثوم  التي لحنها لها عبر أثير الإذاعة، وكانت أم كلثوم فقط هي التي تتقاضى مبالغ طائلة عن إذاعة أغانيها واحتجت ام كلثوم بأن الشيخ زكريا تقاضى أجره عن الألحان منها، وأنه كتب تنازلا عنها واستمرت القضية 13 عاما كاملة وشهدت سجالات قانونية بين محاميي الطرفين وتحدد لها يوم 25 يناير 1960 موعدا للنطق بالحكم بحضور الطرفين المتقاضيين،  وجاءت أم كلثوم والشيخ زكريا الى قاعة المحكمة والتف الجمهور حول كوكب الشرق، وانتظر الجميع حكما تاريخيا يفصل في القضية لكن القاضي عبد الغفار حسني الذي نظر القضية كان حصيفا وحكيما حين ألقى كلمة  مؤثرة للطرفين.. طالبا منهما التجاوز عن هذا الخلاف الذي استمر طويلا..  ومخاطبا فيهما سمو الفنان المبدع  وأن الناس ينتظرون منهما أغنية جديدة لا حكما قضائيا، وبكى الشيخ زكريا تأثرا بكلام القاضي وبان التأثرعلى وجه أم كلثوم، وتم الصلح واتفق الطرفان على أن يلحن الشيخ زكريا ثلاث أغنيات لثومة يتقاضى عن الأغنية الواحدة 700 جنيه، وهو مبلغ كبير جدا بمقاييس ذلك الزمان

وبالفعل اتفقت ام كلثوم والشيخ زكريا مع بيرم التونسي صديق زكريا أحمد المقرب على تأليف أغنية  فورا فكانت رائعة ” هو صحيح الهوى غلاب ” التي لحنها الشيخ زكريا مرتين قبل أن تنبهر ثومة وتعجب بلحنها الثالث الذي ظهرت به الأغنية،

https://www.youtube.com/watch?v=cZIq9bcmhEc

ولم يسعف القدر الشيخ زكريا لتلحين أغنيتين أخريين لثومة إذ فاضت روحه إلى بارئها يوم 15 فبراير عام 1961 بعد أربعين يوما فقط على رحيل صديقه القريب بيرم التونسي.. رحمهم الله جميعا.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker