فن

حالمون ومحبَطون.. إبراهيم حمودة: ضحية أم كلثوم والقصبجي وعبد الحليم (5)

حين أرادت أم كلثوم أن يشاركها مطرب مصري عددا من الدويتوهات الغنائية  خلال فيلم عايدة الذي عرض عام 1942 وقع اختيارها على إبراهيم  حمودة ليشاركها بطولة الفيلم والدويتوهات لينال شرف أنه المطرب المصري والعربي الوحيد الذي غنى دويتو مع كوكب الشرق ، كانت الساحة الغنائية وقتها مليئة  بأساطير غنائية كبيرة من أمثال عبد الوهاب  وكارم محمود وعبد العزيز محمود وغيرهم ، لكن وحده إبراهيم حمودة هو الذي اكتسب ثقة سيدة الغناء العربي وقناعتها  بصوته وقدرته على أن يكون شريكا مبدعا لها في الدويتوهات التي جمعتهما في الفيلم ، وصحيح أن حمودة دفع ثمنا من جماهيريته بعد ذلك لسبب لا دخل له فيه كما سنفسر لاحقا لكن يبقى غناؤه مع أم كلثوم  تاجا ووساما في تاريخه الفني

في حي باب الشعرية

اختلف المؤرخون الفنيون على تاريخ ميلاد إبراهيم حمودة فهناك من يقول إنه ولد في الثاني عشر من يناير عام 1912  وهناك من يذكر أنه من مواليد الثالث عشر من أغسطس عام 1913  وهو التاريخ الذي اعتمده جهاز التنسيق الحضاري في  تسجيله للبيت الذي ولد به حمودة في حي باب الشعرية المعروف بكثرة أبنائه المطربين مثل عبد الوهاب و  ومحمد الكحلاوي وماهر العطار ومها صبري  ، وكان والده الشيخ حمودة إبراهيم  منشدا  في جامع الخازندار ، كون فرقة للإنشاد الديني كانت تنشد الموشحات والأناشيد الدينية، وانضم إبراهيم وهو طفل صغير إلى فرقة والده بعد إلحاح منه ومن والدته وأصبح يشارك بشكل أساسي في الغناء مع الفرقة، وكانت تلك المرحلة بمثابة تدريب وتمرين عملي لصوت إبراهيم الذي سيصبح من أجمل الأصوات الغنائية على الساحة المصرية

وحين كبر قليلا التحق الصبي إبراهيم حمودة  بمعهد الإذاعة العربية ومدرسة فن الاستعراض  ومعهد الموسيقى الشرقية وتعلم عزف العود  وأصقل موهبته الغنائية  بالتعليم والتدريب على يد عبد الوهاب وصفر علي ومصطفى رضا ليجمع بين الموهبة الفطرية والعلم الأكاديمي

من منيرة إلى بديعة

وجاءت الفرصة الذهبية لإبراهيم حمودة كما ذكر هو في برناج تليفزيوني نادر عندما كان بصحبة صديق له من أعيان محافظة بني سويف في أحد المطاعم المعروفة وغنى حمودة  إحدى أغاني عبد الوهاب ولشدة عذوبة صوته وجماله التف رواد المطعم حوله معجبين بهذا الصوت الواعد ولحسن حظه كان المونولوجست محمد البربري واحدا من هؤلاء الرواد المعجبين وكان قريبا من منيرة المهدية، وعلى الفور اقترح على حمودة أن يعرفه بسلطانة الطرب ورحب الشاب الواعد كثيرا

وفي اليوم التالي فوجئ حمودة بمنيرة المهدية تأتي إليه برفقة سائقها وتعرض عليه أن يعمل في صالتها بأجر تسعة جنيهات شهريا .. وكان مبلغا كبيرا جدا بمقاييس ذلك الزمان.. ووافق على الفور لكنه أخبرها بأنه لا يزال طالبا  فأجابته منيرة بأن مستقبله الحقيقي هو في الفن

وحين عاد إبراهيم إلى منزله أخبروالده الشيخ حمودة  بعرض منيرة المهدية فثار عليه ثورة عارمة وطرده من  المنزل، وذهب حمودة ليخبر المهدية بما حدث فاستأجرت له شقة من إربع غرف بشارع عماد الدين ووقعت معه عقدا لتبدأ مرحلة النجومية الحقيقية في حياة حمودة

في بداية عمله مع منيرة المهدية غني إبراهيم حمودة أغنية ياللى عشقتك في الخيال وحققت نجاحا عظيما وكان الجمهور يطلب غناءها كلما صعد للغناء ، واشترك إبراهيم مع منيرة المهدية في بطولة اسكتش الفلاحة من ألحان محمد عوض  وحقق الاسكتش نجاحا كبيرا أيضا واستمر حمودة يغني في صالة منيرة المهدية ليحقق جماهيرية واسعة

ووصل صيت إبراهيم حمودة إلى بديعة مصابني التي عرضت عليه العمل معها فاستأذن منيرة المهدية التي أذنت له بعد أن غضبت منه غضبا شديدا ، وذهب حمودة ليغني في صالة  بديعة، وبدأ بإغنية ياللى عشقتك في الخيال التي كانت مطلبا أول لكل جمهور الغناء آنذاك، ثم شارك  حمودة في بطولة اسكتشات واستعراضات غنائية مع بديعة وعبد المطلب ومحمود الشريف لتذيع شهرته أكثر وأكثرللدرجة التي جعلت يوسف وهبي يستعين به  لكي يغني في فيلمه الدفاع عام 1935 ولم يكن عمر حمودة  يتجاوز وقتها الثانية والعشرين

بطولات سينمائية

النجاح في الغناء وتحقيق الشهرة والذيوع فتح  الطريق لإبراهيم حمودة لدخول عالم السينما من الباب الواسع، فبعد غنائه في فيلم الدفاع شارك إبراهيم حمودة بالتمثيل  والغناء في أفلام عايدة و نداء القلب وليلى البدوية ويسقط الحب وشهداء الغرام ونور الدين والبحارة الثلاثة وحنان وليلة الجمعة والصبر طيب وقصة غرام ومعروف الاسكافي  وكلام الناس  وفتاة السيرك ثم آخر أفلامه العلمين .. وهو المطرب الوحيد الذي عرض له فيلمان في ليلة واحدة هي ليلة رأس السنة في 31 ديسمبر عام 1945

وقد شارك حمودة بالبطولة والغناء أمام نجمات كبيرات من أمثال أم كلثوم وليلى مراد وشادية وفتحية أحمد ونعيمة عاكف فغنى مع كوكب الشرق  دويتو فضلت أخبي هوايا وأنت وانا واحنا احنا وحدنا وشاركها في غناء أوبرا  عايدة كما غنى مع ليلى مراد دويتوهات رايح تفوتني والوقت بدري ويا قلبي ايه  ومع حورية حسن دويتو على ديار الأحبة  ومع شافية أحمد يا صلاة الزين وقام في الفيلم بدور البطولة حيث أدى شخصية سامي العاشق للغناء والموسيقى الذي يرتبط بقصة حب عنيفة مع عايدة “أم كلثوم” التي تشاركه نفس الموهبة  بينما يقف أهلها ضد حبهما نتيجة الفوارق الاجتماعية بينهما

وكما ذكرنا فقد غنى إبراهيم مع كبار مطربات عصره في الأفلام التي شارك فيها ، وقد كانت السينما آنذاك تستغل جماهيرية نجوم الغناء من أمثال إبراهيم حمودة وكارم محمود وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد وقد تلفق لهم أدوارا ليغنوا من خلالها ذلك أن نجوم الأغنية كانوا دائما  عنصر جذب سينمائي لكن حمودة كغيره من أغلب المطربين لم يستغل الفرصة لتطوير نفسه في الأداء التمثيلي فقد كان إخلاصه الأول والأخير للغناء

وكان إبراهيم حمودة كثير الحضور والتواجد في أوبريتات إذاعية كثيرة نالت شهرة عريضة آنذاك وبقيت في الذاكرة الفنية والغنائية حتى الآن  فشارك في أوبريتات مثل  شهرزاد والعشرة الطيبة والدندرمة وأفراح سعيدة وبعث رمسيس وحلم شاعر وشارع الغورية ويوم القيامة بمشاركة كبار النجمات  في عصره ويكفي مثلا أن أوبريت شهرزاد  شاركت فيه مع حمودة كل من رجاء عبده وعقيلة راتب وأخرجه زكي طليمات

https://www.youtube.com/watch?v=es702yRVB38

مطرب شامل

غنى إبراهيم حمودة  جميع الألوان الغنائية مثل الأوبريت والقصيدة والطقطوقة والأناشيد والأغاني الدينية والوطنية والعاطفية والبدوية وأغاني الأفراح فهو مطرب شامل بكل المقاييس ..ومن أشهر أغانيه ياللى عشقتك في الخيال و”اكتب لنا يا قاضي” وسيد المِلاح ” وساعة لقاك وحسدوني الناس  ويا صبح بالأحلام لالي و ومن الأغاني الوطنية أجمل بلاد يا بلادي و ويا مصر  وثورة وطني ويا 23 يوليو  ويابور سعيد يا اسماعيلية جهادكم رمز الوطنية  ووصية الشهيد ومن الأغاني الدينية يا رسول الله يا خير الأنام و يا طالعين مكة ومن أغاني الريف “يا جمال الريف” وعلى مصطبتنا وست أبوها .. ولحن له كبار الملحنين من أمثال رياض  السنباطي وأحمد صدقي وكامل الخلعي ومحمود الشريف وفريد غصن  ومحمد الموجي .. وقد كان إبراهيم حمودة  صديقا مقربا من فريد الأطرش وشاركه في الغناء في الصالات لمدة خمس سنوات وهو صاحب فضل على فريد في تقديمه للوسط الفني في بداياته ويكفي أنه رافق فريد حين قام بتسجيل أول أغانيه للإذاعة   “يا ريت يا طير” وغنى مع الكورس المصاحب له عند تسجيل فريد لهذه الأغنية واستمر فريد يعترف بفضل حمودة  عليه

وتميزت أغاني إبراهيم حمودة باللحن السهل والكلمات البسيطة أما صوته فقد كان عذبا قادرا على أداء كل الألوان الغنائية بنفس الإبداع والإتقان والحضور

وثمة  معلومة غريبة وعجيبة عن إبراهيم حمودة هي أنه  سبق الجميع في إدراك أهمية ارتداء الكمامة قبل أكثر من خمسة وسبعين عاما من الآن ، فقد نشرت مجلة الكواكب عام 54 تحقيقا بعنوان غناء على رصاص الصعيد تحدث فيه الفنانون عن أغرب وأصعب المواقف التي تعرضوا لها وذكر إبراهيم حمودة أنه كان يحيي فرحا وكان يذهب للأفراح ومعه كمامة تحسبا لحدوث غارات جوية وخوفا من الغازات التي  تتخلف عنها  وفي أحد الأفراح دوت صفارات الإنذار معلنة عن وقوع غارة جوية ولبس إبراهيم حمودة الكمامة وانطلق مع الفرقة الموسيقية والمدعوين إلى المخبأ فلما  انتهت الغارة وأطلقت صفارات الأمان عاد حمودة مع فرقته وبدأ الغناء وهو يلبس الكمامة وحاول صاحب الفرح اقناعه  بنزعها من على وجهه لكن حمودة أصر على ارتدائها حتى نهاية الحفل خوفا من وقوع غارة أخرى

لماذا تعطل قطار النجومية؟

لقد كان ابراهيم حمودة منافسا لعبد الوهاب  في جماهيريته وفي قدرته على الغناء لجميع الأطياف والأذواق وأحسن المطربين صوتا بعده وتفوق على كثيرين ممن سبقوه إلى الغناء في زمنه مثل عبده السروجي وحامد مرسي  .. فما الذي حدث إذن وأثر بالسلب على جماهيريته ونجوميته فلم يكمل رحلة التألق  كما بدأها .. ولم يحتل المكانة التي كان يستحقها في كتاب تاريخ الفن المصري

نقول إن هناك ثلاثة أسباب عطلت إبراهيم حمودة وقللت من  نجوميته ومن عظمة  حضوره كمطرب وفنان كبير  أولها   هو   فشل فيلم عايدة الذي وقف فيه في دور البطل أمام أم كلثوم  ذلك أن محمد القصبجي لحن غالبية أغاني الفيلم من خلال تجريب موسيقي   لم يوافق هوى الجمهور  ولم تحقق الأغاني نجاحا يذكر وانعكس عدم تقبل الجمهور لأغاني الفيلم على نجاح العمل ككل ، وغضبت كوكب الشرق غضبا شديدا وانصب غضبها على القصبجي  الذي لم يقم مرة أخرى بالتلحين بناء على غضب  أم كلثوم أو ربما بأوامرها  فقضى القصبجي بقية عمره عازفا في فرقة سيدة الغناء  ، أما إبراهيم حمودة فناله من سخط أم كلثوم جانب أيضا  إذ غضب الجمهور لغضبها وربطوا بين فشل  الفيلم وأغانيه  و قيام حمودة بالبطولة أمامها وعطل هذا الأمر كثيرا من الانطلاقة الكبرى التي كانت متوقعة لإبراهيم حمودة مع قيامه بالبطولة والغناء أمام كوكب الشرق أما ثاني أسباب  تعطل نجومية إبراهيم حمودة فكان ظهور جيل جديد من المطربين  يتصدرهم عبد الحليم حافظ ثم محمد قنديل ومحمد رشدي ومحرم فؤاد  وغيرهم  كان لهم  أساليب غنائية جديدة ومختلفة خصمت كثيرا من  نجومية الجيل السابق وكان أكثر المتضررين هو إبراهيم حمودة.. أما ثالث الأسباب فكان تعرض حمودة لحادث سير على كورنيش الإسكندرية   عقب إحيائه  أحد الأفراح كسر فيه ساقه الأيمن  ولم يتم علاجه بطريقة صحيحة في الإسكندرية وكتب محافظها آنذاك حمدي عاشور للرئيس عبد الناصر تفاصيل حالة حمودة فأمر بنقله وعلاجه على نفقة الدولة في أحد أكبر المستشفيات بالقاهرة و أشرف على علاجه اللواء طبيب محمد عبد الله أحد كبار أطباء العظام وقتها  ولكن الحالة لم تتحسن بالشكل المطلوب وانتهت بإصابة حمودة بالشلل

ساءت الأحوال الصحية والنفسية لإبراهيم حمودة واعتزل الغناء وانسحب  وزادت معاناته كثيرا في السبعينيات فأرسل خطابا للرئيس السادات  يشرح فيه ظروفه الصعبة فقرر السادات معاشا استثنائيا له قدره مائة جنيه شهريا ثم منحه جائزة الدولة التقديرية عام 1978 .. واستمر مختفيا معتمدا في حياته على المعاش الاستثنائي بالإضافة إلى قيمة جائزة الدولة التقديرية المادية ..  وفي أواخر حياته أصيب إبراهيم حمودة  بالسرطان  ليرحل هذا المطرب والفنان الكبير في  السادس عشر من يناير عام 1986  عن عمر ناهز الثالثة والسبعين

كان يمكن لإبراهيم حمودة أن يكون نجما لامعا معروفا للجميع على مدار التاريخ لكن ألحان القصبجي وغضب أم كلثوم وظهور عبد الحليم  أمور  عطلت نجومية الراحل الكبير وكان لها رأي مختلف.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock