كتب عبد الله عزام كتاب ” الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان ” عام 1404ه -1984 م ، أي في العام الذي أسس فيه مكتب الخدمات في أفغانستان لحشد المجاهدين العرب من أجل القضية الأفغانية ، ومثله مثل العديد من الكتب المؤسسة للعنف السياسي بإسم الإسلام، يعد الكتاب تجاوزا للفقه الإسلامي التقليدي فيما يتصل بموقع الجهاد في النسق الفقهي الإسلامي ، فهو لا يعتبره فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين – كما هو مستقر – بل ولا يعتبره فقط فرض عين يتعين علي كل مسلم القيام به كالصلاة والزكاة وإنما يعتبره أهم فروض الأعيان على الإطلاق ، وهو ما يعني أن الجهاد تحول من أداة أو وسيلة لإقامة الدين ليصبح في مفهوم عبد الله عزام ” الغاية الكبري التي توظف بقية الفروض له وتؤجل بسببه ، فصار أهم من التوحيد والإيمان ذاته بل أهم من الصلاة لأن الصلاة علي حد قوله يمكن جمعها وتأخيرها أما الجهاد فهو فريضة حالة لا يجوز تأخيرها أو تأجيلها أو التعلل بعدم القيام بها ، وكل مسلم ومسلمة علي وجه الأرض مخاطب بها بحيث لا يمكنه تقديم أي فرض عليها مهما كان عظيما أو خطيرا .
الخيال الجهادي لعزام
كان ” عبد الله عزام ” قد قطع كل روابطه العملية في التدريس بجامعة الملك بن عبد العزيز بالسعودية والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان ليتفرغ تماما لما اعتبره مشروع المستقبل للتيار الجهادي السلفي وهو حشد المسلمين – خاصة الشباب العربي – ليجاهد في أفغانستان كنقطة انطلاق من وجهة نظره لتأسيس الدولة الإسلامية أولا ثم الانطلاق لتحرير فلسطين ثانيا – وهو ترتيب سياسي في الأولويات ، لا مبرر فقهيا له ويحتاج إلى مراجعة وتقييم. وقد دفعه خياله وتعلقه بالجهاد في أفغانستان حدا ملك عليه كل حياته وجعله – وهو دارس للشريعة – يؤسس لفتوي جديدة مختلفة عن السياق الفقهي الإسلامي للجهاد ويعتبره أهم فروض الأعيان علي الإطلاق .
يبدو أن الرجل كان يشعر بخطورة ماهو مقدم عليه علي المستوي الفقهي وعلي المستوي الحركي معا ، وربما يفسر ذلك حرصه على كتابة مقدمة طويلة لكتيبه أو فتواه، استعرض فيها آراء كبار المشايخ في فتواه، محاولة الإيحاء للقارئ بأنهم قد أقروها، ومن هؤلاءالشيخ عبد العزيز بن باز الشيخ عبد الله علوان وسعيد حوي ومحمد نجيب المطيعي وحسين حامد حسان وعمر سيف ومحمد بن صالح بن عثيمين وعبد الرزاق عفيفي وحسن أيوب وأحمد العسال .
نقد سفر الحوالي لعبد الله عزام
كان أكبر المنتقدين لفتوي / كتيب عبد الله عزام سفر الحوالي أحد رموز تيار الصحوة في السعودية ، حيث رد عليه في شريط كان يشرح فيه لتلامذته من الشباب السعودي ” العقيدة الطحاوية ” وتم تفريغ الشريط ونشره علي شبكة الإنترنت ، ثم أصدر رده في كتاب بعنوان ” دروس للشيخ سفر الحوالي ” ، وتحت عنوان ” تصحيح مفهوم الجهاد ” يقول الحوالي : ” رأينا الشباب يندفع في جهة واحدة فقط ، ولم يتفطنوا لغيرها من الجهات، ولم يتبينوا الأمر كما ينبغي ، واختلف العلماء ، أحببنا أن ندلي في هذه القضية بدلونا ، نحن نسمع عن الجهاد .. وكل مسلم يتمني أن ينصر الله المجاهدين في أفغانستان .. لكن هذا الأمر شئ والغلو في مفهوم الجهاد شئ آخر ، وهي أن يأتي أناس ويقولون الدعوة إلي الله لا تقوم إلا عن طريق الجهاد ، ويأتي أناس ويقولون الجهاد في مكان ما فرض عين علي كل مسلم ومسلمة فلا يستأذن الرجل أبويه ، ولا تستأذن الزوجة زوجها مهما كان ويترك عمله ويذهب ليجاهد في هذا المكان .. هذا لا يُقر “
ويشير الشيخ إلي كتاب عبد الله عزام بإسمه، ويقول هناك غلو في العنوان فأهم فروض الأعيان هو التوحيد وليس الجهاد، وجهاد المعتدي علي أرض المسلمين من أجل المساجد ومن أجل أن يعبد الله وحده وليس من أجل الدفاع عن الأرض .
وينفي سفر الحوالي في رده أن يكون الشيخ عبد العزيز بن باز قد أقر الفتوي / الكتيب كما أشار عبد الله عزام .. ” لا نستطيع أن نقول إن الشيخ بن باز أقر هذه الرسالة ” ، كما اعتبر إشارة عبد الله عزام في مقدمة فتواه أن الشيخ بن باز أفتي بأن الجهاد اليوم فرض عين فهذا كلام مجمل .. وكون الشيخ عبد العزيز بن باز قال إن الجهاد فرض عين لا يعني أنه أهم فروض الأعيان وأن نبدأ به الآن وننطلق وننسي ماعداه من الفروض ” .
ينقض الحوالي ويفكك نصوص عبد الله عزام التي أحالها علي المذاهب الأربعة ليقول إن الجهاد في أفغانستان فرض عين علي كل مسلم ومسلمة في العالم بإجماع الأئمة الأربعة ، وينتهي إلي القول بأن الجهاد فرض عين علي كل مسلم ومسلمة بإطلاق خطأ .
ونفي الشيخ سفر الحوالي أن يكون الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين قد زكي كتيب عبد الله عزام كما أشار في مقدمة فتواه، ولكنه رأي أن تُعرض علي رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية لتقرير ما تراه .. منهيا حديثه بالقول: ” وهذا ليس تزكية “.
وينهي الحوالي تقييه لفتوى عزام بأن المسألة مسألة دماء ومسألة أنفس ، فالإنسان إذا أفتي بدرهم ودينار لا يجوز أن يتسرع فيه ، فكيف إذا كانت الفتوي تتعلق بالدماء والأنفس .
أفغانستان ليست أولوية مطلقة
يرد الشيخ سفر الحوالي علي ما يقوله عبد الله عزام بأولوية الجهاد في أفغانستان علي الجهاد في غيرها من الأماكن وخاصة فلسطين فيقول : ” البدء بأفغانستان كلام مناقض للأدلة الشرعية .. فلا تُبني الأحكام الشرعية ولا يُستنفر الناس علي مجرد رأي ، ولا مانع من أن يبدي المرء رأيه لكن ليس له أن يلزم به الأمة ولا يغلو فيه ” .
اعتبر الشيخ سفر الحوالي أن كتيب عبد الله عزام نوعا من تهديد الاستقرار الاجتماعي للمملكة ودفع لشبابها الأغرار إلي خوض غمار عالم يقودهم إليه فلسطيني عاين النكبة وعاش بلا وطن ، ومن ثم فإنه لا يضع استقرار الأوطان في الحسبان بالقدر الكافي ، بينما يشحن الناس لمواجهة من أجل بلد مسلم بحثا عن فردوس مفقود فقده هو .
لذا فقد كان موقف سفر الحوالي هو رفض سفر الشباب السعودي إلي أفغانستان والتبرع بالمال وتذاكر الطيران لمن يريد الذهاب للجهاد في أفغانستان ، بينما كان عبد الله عزام يشير إلي أن أن أفغانستان بحاجة إلي الرجال وأن من يقول إنهم مكتفون بالرجال وهم بحاجة إلي المال فهو مخطئ .
ويبدو أن سفر الحوالي قد رأي أن دعم أفغانستان ماليا لا يجب أن يستوعب كل المال الخيري السعودي لأن هناك آخرين يحتاجون في أفريقيا وغيرها ، كان الرجل يريد أن يقول إن وهم عبد الله عزام المبالغ فيه حول أفغانستان يجب أن يوضع في مكانه الصحيح بحيث لا تأخذ المسألة الأفغانية أكبر من حقها وتصبح مركزا ليس فقط لعالم الجهاد وسياساته وإنما مركزا يحتل مكانا ليس له في النسق التشريعيي والفقهي للإسلام وهو نوع من الغلو يجب أن يقاوم .
سيد إمام يدخل علي الخط
وقعت المواجهة مع فتوى أولوية الجهاد في أفغانستان من جانب سفر الحوالي قبل أن يموت ” عبد الله عزام ” بوقت قليل ، حيث قتل عام 1989 م ، كما أن ” سيد إمام الشريف ” الذي كان يُعرف باسم ” عبد القادر بن عبد العزيز ” ، وكان أمير تنظيم الجهاد المصري وقتها ، دخل علي خط النقاش محاولا التوفيق بين الرأيين ، فكتب رسالة بعنوان “رد علي سفر الحوالي وتعليق علي كتاب الشيخ المجاهد عبد الله عزام ” الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان ” ، وأشار فيها إلي كتابه ” العمدة في إعداد العدة ” ، ومن المعروف أنه ألف هذا الكتاب بين عامي 1987 و1988 م ، لا بل إنه صرح إن الشيخ عبد الله عزام وافته المنية قبل أن يتمكن من الرد .
وفي هذه الفترة كان ” تنظيم القاعدة ” قد بدأ يتبلور كجسد مستقل عن الجهاد الأفغاني ، وبدأ الشباب السعودي يتقاطر بقوة إلي أفغانستان ، وفي هذا الفترة تعانق الجهاديون المصريون والسعوديون وأسسوا “قاعدة الجهاد ” ، وهو ما أخاف النظام السياسي السعودي ، كما أن علماء الصحوة في هذه الفترة حاولوا قدر إمكانهم أن يبقوا بعيدين عن الخط الجهادي الجديد الذي بدأ يتعولم ويقرر بشكل واضح أن العدو البعيد الأمريكي هو المستهدف بشكل رئيسي ، بينما كان علماء الصحوة حتي ذلك الوقت يحاولون الإصلاح من داخل النظام السعودي ، قبل صدامهم معه في منتصف التسعينيات بسبب الاستعانة بالأمريكان.
تأسيس لدراما الفوضي الجهادية
انتصر ” سيد إمام الشريف ” لفكر ” عبد الله عزام ” بالقول بالوجوب العيني للجهاد ليس ضد السوفييت في أفغانستان وقتها أو لا ضد أمريكا فقط ، ولكن تضمن ذلك أيضا معنى الوجوب العيني لمواجهة النظم السياسية العربية والإسلامية باعتبارها نظما كافرة ومرتدة ، كما أن ورثة ” عبد الله عزام ” ممن أسسوا تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية ومارسوا العنف في السعودية منذ عام 2003 هم الذين اتخذوا حديث الرجل بفرضية الجهاد كفرض عين ليتوجهوا إلي النظم الداخلية بسبب اعتبارهم أنها نظم مرتدة خاصة مع ما جري في العالم العربي بعد حرب الخليج الثانية وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، وهو ما مهد لظهور الجيل الثاني من تنظيم القاعدة .
يبدو كتيب عبد الله عزام حول الجهاد في أفغانستان مؤسسا لدراما الفوضي الجهادية القائمة علي تجاوز ماهو قائم بشكل جذري راديكالي ، وفتح الكتب/ الفتوى الباب لهبات جهادية تستند لفقه ما قبل ظهور الدواوين والمؤسسات في الخبرة الإسلامية وفي الخبرة المعاصرة ، ومن ثم تم إهمال أي ترتيبات إدارية أو سياسية يتطلبها مفهوم الجهاد بالمعني الذي طرحته السلفية الجهادية المعاصرة ، فليس شرطا عندها إذن الإمام أو إذن الوالدين أو إذن العلماء والمؤسسات الدينية ، وإنما كانت أشبه بحالة نفير عام تطلقها تلك التنظيمات لتحشد فيها الأنفس والأموال دون تبصر بالنتائج والعواقب .