رؤى

قصة شهر مايو مع الاحتلال والاستيطان والتهويد في عكا

لقد عانت مدينة عكا لأكثر من سبعة قرون من ويلات الصراع المحتدم بين المسلمين والغرب في الفترة [1104-1840م] وذلك منذ بدء الحملات الصليبية في العصور الوسطى إلى أن تنافس على السيطرة عليها كل من الدولة العثمانية والغرب الأوروبي، هذا بالإضافة إلى محاولات الاستقلال بها عن الدولة العثمانية مثلما أوضحنا في المقال السابق. وفي هذا المقال سنوضح مراحل الصراع على عكا منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن.

إن الصراع على المدن والموانئ الهامة في العالم؛ يفضي إلى غزوها ومن ثم إما النجاح في فتحها الذي هو في واقع الأمر احتلال عسكري لها، أو الفشل في السيطرة عليها وبالتالي عدم القدرة على احتلال أرضها. ولذلك فإن كل الغزاة الفاتحين هم في واقع الأمر يحتلون عسكريًّا البقاع التي يفتحونها بغض النظر عن عرقهم أو جنسهم أو دينهم. وإذا كان قدَر الموانئ الاستراتيجية والحيوية الهامة أن تظل مطمعًا للغزاة والفاتحين على مر العصور، فإن ميناء عكا بموقعه المتوسط في العالم كان قدَره أن يتوالى عليه الغزاة والفاتحون المحتلون له؛ ومن ثم تعاقبت الحضارات والثقافات المختلفة على مدينة عكا الساحلية منذ العصور القديمة، وتعاقب فيها البناء والهدم بقدر ما تعرضت للحصار وبقدر ما شهدت من مقاومة أو استسلام. وبالرغم من ذلك التاريخ الحافل بالغزو واحتلال الأرض إلا أن تلك المدينة الساحلية اتخذت منذ زمن بعيد طابعها الحضاري الذي يميزها والذي تمتزج فيه مؤثرات الحضارتين العربية الإسلامية والمسيحية؛ خاصة بعدما عاش أهلها سويًّا، قبل زرع كيان دخيل يعتمد بقاؤه على الفصل العنصري والاضطهاد والقمع وبناء الحواجز العازلة.

الصراع على عكا بين الدولة العثمانية والغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر:

بعدما أصبح محمد علي باشا يمثل تهديدا، للخلافة العثمانية بسبب محاولاته التوسعية، داخل حدود الدولة العثمانية، والتي كانت تهددها بالسقوط، كان لابد من تدخل القوى الأوروبية في ذلك الصراع، من أجل الحفاظ لأطول فترة ممكنة على الكيان العثماني الآيل للسقوط، وعدم إتاحة الفرصة لكيان إسلامي جديد للتمدد والتوسع، إلى أن يمثل قوة عظمى يصعب القضاء عليها.. وبتوقيع معاهدة لندن أو اتفاقية إعادة السلام إلى بلاد الشام عام 1840، التي اضطر محمد علي إلى قبولها بعد عدة أشهر من توقيعها، كان على محمد علي رغم دعم فرنسا له؛ أن يتنازل عن طموحاته التوسعية التي امتدت إلى الجزيرة العربية وأماكنها المقدسة وإلى كريت وبعض مناطق في تركيا؛ فتنازل عن الشام العثمانية بعدما هاجمت القوات البريطانية والنمساوية عكا وهزمت قواته هناك. وهكذا ظل الكيان المصري – خاصة مع تخلي فرنسا عن دعم محمد علي وتضامنها مع الإجماع الأوروبي لإخراج مصر من الشام– خاضعًا للدولة العثمانية حتى عام 1882م. وبخروج القوات المصرية من الشام أصبح الصراع عليها منحصرًا بين الدولة العثمانية وأوروبا، وهكذا تخلصت بريطانيا من أي تهديد مصري لتجارتها مع الهند.

الصراع على عكا في القرن العشرين:

قبل نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت الدولة العثمانية منهكة القوى وآيلة للسقوط بعد فقدانها لأجزاء من إمبراطوريتها شيئًا فشيئًا، وبهزيمتها في تلك الحرب عام 1918، لم يكن هناك بد من انهيارها عام 1920، ولكن قبل الهزيمة الفعلية للدولة العثمانية تم توقيع اتفاقية “سايكس بيكو” التي صادقت عليها حكومات بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية يومي 9 و 16 مايو عام 1916، والتي بمقتضاها اقتسمت منطقة الهلال الخصيب بين بريطانيا وفرنسا، فأصبحت فلسطين وميناء عكا وميناء حيفا والأردن وجنوب العراق تحت النفوذ البريطاني. وفي نوفمبر عام 1917، صدر “وعد بلفور” وهو الإعلان الذي أصدرته الحكومة البريطانية لدعم تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين والذين كانوا يمثلون آنذاك حوالي 3-5 % من سكان فلسطين.

وبانتصار القوات البريطانية في معركة “مجدو” في شمال غربي فلسطين بقيادة الجنرال “إدموند ألنبي” وهزيمة القوات العثمانية في أكتوبر عام 1918، تم التمهيد لغزو بريطانيا لفلسطين، ومع تنازل الدولة العثمانية عن سوريا العثمانية بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين من أجل إدارة المناطق التي استولِي عليها، ومن ثم بدأ الاحتلال البريطاني لعكا عام 1918م، والذي ووجه بالمظاهرات والانتفاضات من قِبل أهالي عكا الذين بدأ تشريدهم منذ ذلك التاريخ، وبموجب “معاهدة سيفر” عام 1920، تم تقسيم سوريا العثمانية بين بريطانيا وفرنسا لحين إشعار آخر.

أي إنه في النصف الأول من القرن العشرين كانت عكا شأنها شأن كل فلسطين تخضع للانتداب البريطاني في الفترة [1918-1948م] ثم بعد نكبة عام 1948، أصبحت واحدة من أهم مدن وموانئ دولة إسرائيل على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، فبانتهاء الانتداب البريطاني ظهرت الكيان الصهيوني للوجود، إذ صدر في نوفمبر عام 1947، قرار تقسيم فلسطين من الجمعية العامة للأمم المتحدة (المعروف بقرار رقم 181) والذي يتبنى خطة تقسيم فلسطين فور انتهاء الانتداب البريطاني عليها إلى دولة عربية تمثل 3,42% من مساحة فلسطين، ودولة يهودية تمثل 7,57% من مساحة فلسطين، على أن تكون القدس وكذلك بيت لحم تحت وصاية دولية. وبالفعل يوم 14 مايو عام 1948، انسحبت بريطانيا من فلسطين وانتهى الانتداب البريطاني عليها وأعلن قيام دولة الكيان واندلاع الحرب العربية الصهيونية. ولهذا أطلق على عام 1948، عام نكبة فلسطين بسبب تشريد حوالي 750 ألف فلسطيني من أرضهم ووطنهم، كان من بينهم 47 ألف لاجئ من عكا.

ومنذ بدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين، باتت عكا – شأنها شأن بقية بقاع فلسطين المحتلة– تتعرض لعمليات هدم وطمس لمعالمها القديمة والأصيلة؛ من أجل استكمال مخططات تهويدها وتهجير أهلها وتغيير ملامحها الحضارية والتاريخية. فعلى سبيل المثال في عكا القديمة في حي البرج، هدمت سينما البستان التي يبلغ عمرها أكثر من مئة عام، كما منعت الصلاة في مسجد البرج الذي بني قبل عام 1948، بالإضافة إلى السيطرة على هذا الحي الذي هو ملك للأوقاف الإسلامية منذ عهد أحمد باشا الجزار باعتباره أملاك غائبين؛ ولكن المسيرات والتظاهرات المستمرة من أهالي عكا أبقت على المسجد دون طمس معالمه أو هدمه حتى الآن، فمثلما استبسل أهالي عكا في الدفاع عن مدينتهم في وجه الاحتلال البريطاني؛ ما زالوا يقفون في وجه تهويدها منذ أن سقطت في أيدي المنظمات الصهيونية المسلحة.

لقد أصبحت عكا أمام صمت العالم مدينة في دولة الكيان الصهيوني، وباتت ميناءً يقع في شمال الأرض المحتلة وليس في شمال فلسطين، وها هم الصهاينة يحتفلون كل عام بيوم تأسيس دويلتهم في شهر مايو، و يحتفلون كذلك بما يطلقون عليه يوم أورشليم أو يوم توحيد القدس أو رقصة الأعلام.

لقد مر أربعة وسبعون عامًا على تأسيس دولة الاحتلال، وخمسة وخمسون عامًا على احتلال مدينة القدس.. وما زالت الاحتفالات الصهيونية ليست عسكرية وحسب بل تأخذ شكل مسيرات وتظاهرات عدائية واستفزازية لشعب فلسطين الأعزل. ولكن في مقابل ذلك ما زالت المقاومة الفلسطينية مستمرة ضد الاحتلال والاستيطان والتهويد، فقد شهد العاشر من شهر مايو العام الماضي ما أسمته المقاومة الفلسطينية بمعركة سيف القدس أو عملية حارس الأسوار، وهي بداية الحرب على غزة عام 2021م بعد الاعتداءات الإجرامية على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، ما أسفر عن قصف قطاع غزة إلى أن انتهت تلك المواجهات يوم 21 مايو بوساطة مصرية.

وهذا العام شهد شهر مايو حدثًا مؤثرًا في واقع فلسطين وكذلك في مستقبل عكا بوصفها جزءًا منها، فمنذ أيام قليلة وتحديدًا يوم 24 و يوم 25 مايو الماضي زار وزير الخارجية التركي الكيان الصهيوني وفلسطين المحتلة في أول زيارة لوزير خارجية تركي للأرض المحتلة منذ عام 2007، أي منذ 15عامًا، وذلك عقب زيارة رئيس الكيان لتركيا في شهر مارس الماضي، من أجل تحسين العلاقات التركية الصهيونية، واستعداد تركيا للتعاون مع الكيان الصهيوني، في مجالات الدفاع والطاقة ومناقشة الملف الأوكراني، وبحث إمكانية مد خط غاز إلى أوروبا عبر تركيا في ظل مقاطعة الغاز الروسي. فهل كان من الممكن أن يشمل جدول زيارة وزير الخارجية التركي، بالإضافة إلى رام الله والقدس المحتلة، مدينة عكا وأهم معالمها مثل سور الجزار ومسجده وقلعة عكا؟ أم أن تلك الزيارة كانت ستبعث ذكريات مايو عكا الذي كان بالأمس؛ فيعود الحنين إلى الماضي العثماني والإسلامي في فلسطين؟ أم هل باتت المصالح مع دويلة الكيان أقوى تأثيرًا من أي نوستالجيا تاريخية، مثلما أصبحت أقوى تأثيرًا على أية جغرافية تاريخية وبشرية؟ وهل عندما زار الوزير التركي المسجد الأقصى متجولًا في أروقته – أدرك قيمة ما تقدمه تركيا وبقية دول الجوار لكل من فلسطين والصهاينة بشكل عملي؟

إنه قبل تلك الزيارة التركية للكيان، شهدت مصر في شهر مارس الماضي انعقاد قمة ثلاثية في شرم الشيخ بين الرئيس المصري، وولي عهد أبو ظبي (آنذاك) الشيخ محمد بن زايد، والرئيس الصهيوني لإجراء مباحثات بشأن تداعيات التطورات العالمية، خاصة ما يتعلق بالطاقة، واستقرار الأسواق، والأمن الغذائى. وبعدها بعدة أيام انعقدت قمة خماسية في الأرض المحتلة بمنتجع في صحراء النقب بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزراء خارجية كل من الإمارات والبحرين ومصر والمغرب والكيان الصهيوني. فهل كان مستقبل فلسطين أو عكا وأهاليها المهجرين على جدول تلك المباحثات؟

إن هذا هو مايو عكا اليوم، وذاك كان مايو عكا بالأمس، فتُرى كيف سيكون مايو عكا غدًا؟ هل سيكون هو الغد الذي يأمله شعب فلسطين، أم الغد الذي يخطط له الكيان الصهيوني؟

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock