عرض وترجمة: أحمد بركات
يعبر الأوربيون عن نوعين محددين من المخاوف تجاه حركات الإسلام السياسي. أولا، يؤكد فريق من المحللين أن الجماعات الإسلاموية اللاعنفية – بينما تمارس نشاطاتها إلى حد كبير داخل الأطر القانونية – تنشر تفسيرا للإسلام يرسخ للكراهية والعداء بين المسلمين وغير المسلمين، مما يسهم في تعميق حالة الاستقطاب في المجتمعات ويضر بسياسات الاندماج. ويشعر الأوربيون بالقلق تجاه النفوذ المتنامي للجماعات الإسلامية. فمن خلال آليات الوعظ، وأشكال مختلفة من الضغوط الاجتماعية، والترهيب، والعنف في بعض الأحيان، تلهم هذه الجماعات أعضاء المجتمعات المسلمة المحلية فكرة عزل أنفسهم عن التيار المجتمعي السائد واللجوء إلى نظم قانونية وتعليمية واجتماعية بديلة.
وإزاء ذلك، وبشكل سافر، أنشأت وكالات إنفاذ القانون والاستخبارات في العديد من الدول الأوربية وحدات تركز بشكل خاص على عملية تشكيل “مجتمعات موازية” يستخدم أعضاؤها نظما قانونية وتحكيمية مغايرة لأنظمة الدولة. مما لا شك فيه أن هذه الظاهرة ليست قاصرة على المجتمعات التي يشكل المهاجرون من دول مسلمة غالبيتها الغالبة، لكن تشكيل مجتمعات موازية يمثل مصدر قلق خاص للسلطات الأوروبية عندما لا تكون هذه المجتمعات نتاجا للتقاليد الثقافية، وإنما وليدة مشروع سياسي يتمثل في هذه الحالة في الإسلاموية.
ثانيا، يحذر المراقبون من التأثير المحتمل للإسلاميين اللاعنفيين على الترويج للراديكالية العنيفة، ويؤكدون أن السلفيين والإخوان المسلمين ينشرون أفكارا تبرر – في التحليل النهائي – العنف سواء في بلاد أجنبية أو داخل أوربا، وتلهم الشباب الغاضب تبني آراء الجماعات الجهادية. ففي ثنايا الجدل البريطاني كان يتردد أن الإسلاميين اللاعنفيين “يعزفون الموسيقى الطروب التي يرقص على أنغامها المفجرون الانتحاريون”. وينتقد كثيرون هذا الموقف مثلما ينتقدون السؤال الشائك حول ما إذا كانت الإسلاموية اللاعنفية تشكل “السير المتحرك” نحو، أو “جدار الحماية” ضد، الراديكالية العنيفة.
لقد شكلت هذه الخلافات جدل مكافحة الإرهاب في أوربا على مدى العشرين سنة الماضية. بدأ هذا الجدل في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2001، لكنه ازداد بشكل لافت في العقد الأخير، حيث انضم حوالي 5000 مسلم أوربي إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وحيث وجهت الحركة – أو ألهمت، على أقل تقدير – 70 عملية من بينها هجمات نوفمبر 2014 في باريس ضد مسرح باتاكلان وأهداف أخرى، والتفجيرات الانتحارية في مطار ومترو بروكسل في مارس 2015، وعملية الدهس بشاحنة في مدينة نيس في يوليو 2015.
لأسباب واضحة، غالبا ما يتخذ الجدل المستمر حول الإسلاموية اللاعنفية مقعدا خلفيا وراء مظاهر العنف الأيديولوجي. فالهجمات الإرهابية – خاصة عندما تكون متكررة ودراماتيكية، كتلك التي ضربت جميع أنحاء أوربا في السنوات الأخيرة – تسترعي بقوة انتباه المؤسسة السياسية والأجهزة الأمنية والآلة الإعلامية. في الوقت نفسه، تميل أنشطة الإسلاميين اللاعنفيين إلى أن تكون غير جذابة و’طاردة للانتباه‘؛ فهي في أغلبها قانونية، وقلما تسفر عن حوادث دراماتيكية مثل حادثة حرق الكتب في مدينة بردافورد البريطانية. كما أنها تتسبب أحيانا في جلب اتهامات بالعنصرية والإسلاموفوبيا (مبررة في بعض الأحيان وغير مبررة في أحيان أخرى) في حق من يسهبون في الحديث عنها ويسلطون الضوء عليها.
ومع ذلك، فقد اكتسبت الإسلاموية اللاعنفية في السنوات القليلة الماضية مزيدا من الزخم والرواج في العديد من الدول الأوربية. فإشارة الرئيس ماكرون إلى ’الجماعاتية‘ (تقسيم المجتمع إلى جماعات صغيرة منعزلة ومستقلة على أسس دينية أو عرقية أو غيرها) في أبريل 2019 – على سبيل المثال – لا تمثل بحال حالة سياسية استثنائية أو منعزلة عما يدور على المسرح السياسي الأوربي. فمنذ أن وطأت قدماه أرض الإليزيه كرئيس لجمهورية فرنسا استعان ماكرون بالعديد من المستشارين للوصول إلى استراتيجية شاملة لإضعاف الجماعاتية الإسلاموية بكل مظاهرها وتجلياتها داخل فرنسا. في هذا السياق، تسعى خطط ماكرون، على الأقل على المستوى النظري، إلى مواجهة الإسلاموية عبر معركة ثقافية ضروس تقودها الدولة.
من ناحية، يمكن قراءة هذا التوجه باعتباره تخل من قبل الدولة الفرنسية بقيادة ماكرون عن المقاربة الاستيعابية التي ميزت علاقة فرنسا بالوافدين الجدد من خلال دعم اعتراف شعبي متزايد بالإسلام وحتى تشجيع دعم الدولة لبناء مساجد كبرى. ليس هذا بحال عملا هينا في حق دولة تنظر إلى اللائكية (’العلمانية الشاملة‘ – كما عبرعنها الدكتور عبد الوهاب المسيري – التي تقصي الدين عن المجال العام) باعتبارها أحد مبادئها المؤسسة. في الوقت نفسه، سنت حكومة ماكرون سياسات عديدة بهدف قمع الإسلاموية، بدءا من إبعاد الدعاة الراديكاليين إلى إغلاق المساجد الإشكالية.
في الوقت نفسه، كانت المخاوف الشديدة بشأن الإسلاموية اللاعنفية أيضا في قلب النقاشات السياسية في المملكة المتحدة التي تبنت بصورة تقليدية نموذجا تكامليا يتعارض مع النموذج الفرنسي الاستيعابي على خط مستقيم. فقد برز على السطح بصورة دورية منذ الأحداث التي اندلعت على إثر صدور كتاب “آيات شيطانية” جدلا محتدما حول ما إذا كانت التعددية الثقافية التي تنتهجها بريطانيا قد اسفرت عن نمو المجتمعات الموازية وخلفت بيئة مثلى للإسلاميين، سواء العنفيين أو اللاعنفيين. لكن هذا الجدل بين البريطانيين حول نموذجهم التعددي (أو بالأحرى، كما يجادل البعض، التنفيذ المفرط أو الملتوي للتعددية الثقافية) احتدم بشدة منذ الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة لندن في عام 2005.
بدأت التغيرات في السياسة البريطانية بهدف الحد من تأثير الإسلامويين اللاعنفيين في عهد رئيس الوزراء توني بلير، لكنها كانت عشوائية إلى حد ما. فبينما شدد البعض في المؤسسة البريطانية على أهمية تنظيمي الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية (الباكستانية) كحرس آمن للمجتمع المسلم ضد التطرف وشركاء موثوقين لمنع العنف الراديكالي، بدأ قادة آخرون في حزب العمال تناول الأمر بطرق أخرى. فقد سئمت هازل بليرز، وزيرة الدولة لشئون المجتمعات والحكم المحلي في حكومة بلير من الآثار الاجتماعية السلبية التي حلفها تمكين الإسلاميين، وحذرت في عام 2009 من أنه:
يجب أن يتحلى اليسار على وجه الخصوص باليقظة والحذر. فاليسار الليبرالي معني على مدى التاريخ بالمهمشين والمضطهدين، ومعني أيضا باتخاذ موقف ضد العنصرية والإمبريالية. إن هذا الملمح يشكل جزءا من ’جيناتنا‘ السياسية. المشكلة اليوم هي أن هذه المخاوف الموضوعية يمكن أن تتحول إلى دعم لقضايا ومنظمات مناهضة لليبرالية ومأهولة بأفراد تمتلئ قلوبهم بكراهية النساء واحتقار المثليين والعداء ضد اليهود. إن الخوف المرضي الذي يعاني منه الليبراليون من أن يتم تصدير صورة لهم باعتبارهم عنصريين أو إسلاموفوبيين يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى انحرافات أيديولوجية تدفعنا إلى قبول، أو تأييد، أو حتى تشكيل تحالفات مع جماعات محافظة اجتماعيا، ومناهضة للمثلية، ومعادية للسامية، وتستخدم العنف ضد المرأة.
(يُتبع)
لورينزو فيدينو – مدير “برنامج التطرف” في جامعة جورج واشنطن
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا