” إنت الإمام الكبير..وأصلنا الجامع
وانت اللى نِقبل نصلّى وراك فى الجامع
بسيط يا مولاى والضحكة فى صدْرك قوت
فقير يا مولاى.. ورازقنا حرير وياقوت
ونشيد عشان الأرض
ودعوة للِّى يموت
وخريطة لفلسطين
وكُمّ للدامع
إنت الإمام الكبير.. وأصلنا الجامع
وانت اللى نِقبل نصلّى وراك فى الجامع “
هكذا وصف الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي الإمام “فؤاد حداد” فى مرثيه مليئة بالشجن للشاعر الكبير فؤاد حداد .
فى الأول من نوفمبر فى 1985 رحل الشاعر والمترجم والمناضل بعد رحلة عطاء استثنائية .
لم يعرف تاريخ شعر العاميه المصري شاعرا زهد درب الأغنية؛ فقد سعى الجميع بلا استثناء – وبدرجات مختلفة – نحو عالم الأغنية فهو الأكثر نفاذا والأسرع في الوصول للمتلقى والأكثر كسبا للمال.
ومنذ ما قبل بيرم التونسي وحتى الآن تظل العلاقة بين شعراء العامية والأغنية وثيقة إلى أبعد حد .
ويمثل “فؤاد حداد” إمام شعراء العامية حالة خاصة جدا فى هذا السياق فهو الذى لم يسع أبدا لهذا العالم المبهر والساحر وظل مكتفيا بكتابة القصيدة مهموما بالنضال من أجل ما يعتقد أنه صحيحا حاملا لهموم البسطاء وهو الذى تعلم في مدارس “الليسيه”.
كانت القصيدة هي الوسيلة لدى “حداد” وكان قيم العدالة والحرية هى القيم التى يسمو إليها.
فى مرحلة الخمسينيات والستينيات، ومع المد الثوري وتألق المشروع الوطني ذو البعد القومي فتحت الأبواب أمام شعراء العامية خاصة أصحاب الانحيازات التقدمية والاشتراكية.
فتحت أبواب الإذاعة وحناجر المغنيين وموسيقى الملحنين لكمات صلاح جاهين والأبنودي وعبد الرحيم منصور وغيرهم.
إلا أن “حداد ” لم يخض تلك التجربة… لا لسبب محدد غير أنه فضل القصيدة ولا شىء غيرها.. وربما لأنه من أكثر شعراء جيله والأجيال التالية الذين قضوا سنوات طويله رهن الاعتقال بسبب ارتباطه بالحركة الشيوعية المصرية.
السجن والوطن
لكن “حداد ” الذي قضى تقريبا نصف فترة حكم عبد الناصر في السجن وشهد خلال سجنه استشهاد رفيقه “شهدى عطية الشافعي” ونعاه في قصيدة تقطر ألما قال فيها:
“في يوم ١٥ من شهر يونيه سنة ٦٠ ميلادية
كان فجر مش فجر
كانت ليلة مقضية
متقدرة بالسنين مش مخلية “
وبالرغم من تلك التجربة الصعبه على فؤاد حداد إلا أنه كتب بعد وفاة “ناصر” أحد أروع المرثيات عن الزعيم الذى رحل فى 1970
قال فيها :
” يا حضن مصري يا طلعة فجر يا ريّس..
مع السلامة يا والد يا أحنّ شهيد..
آدي الرَّقابي ودى الأعلام بتتنكـّس..
فين طـلـّتك في الدقايق تسبق المواعيد..
والابتسامة اللى أحلى من السلام بالإيد “
وكأن حداد كان يريد أن يقول أن ناصر لم يكن السجان بل كان الأب وكان طلعة الفجر.. فجر أمة عرفت ظلام المحتل والطبقية… لتجاوز “حداد” عن جراحه الخاصة متوحدا مع جرح الأمة بسبب رحيل ناصر
كانت الأغنية في حقبة الخمسينيات والتسنينات تشبه “حداد” تماما بكل مضامينها وانحيازاتها لكن حداد لم يكن حاضرا فى ذلك المشهد بينما حضر الإمام بعد عقدين تقريبا من تلك المرحلة ويرجع السبب وراء دخول “حداد “هذا العالم للشاعرين “عبد الرحيم منصور ومجدى نجيب “. فى كتابه “صندوق الغناء” :
” أقنعنى عبد الرحيم منصور بأنه لا بد لشاعرنا الكبير فؤاد حداد من دخول مجال الأغنية لكي يعبر الإعلام عن المبدعين، ويومها اخترنا له أقرب موقع للغناء المحترم الذي يراعي ذوق المستمع ويرقى به من خلال صوت المطرب محمد منير وبألحان أحمد منيب.
قلت لعبد الرحيم ونحن نهبط سلالم منزل فؤاد حداد: يا صديقي ما الذى فعلناه.. إن فؤاد حداد شاعر عملاق.. وكلنا خرجنا من عباءته، فكيف دفعناه للموافقة ونحن نعرف وسط الغناء المليء بالسوء.
قال: وماذا استفاد هو بخروجنا من عباءته وأنه أستاذنا ها نحن نقرأ أشعاره في لهفة واستمتاع ، بينما هو قابع فى بيته بعيداً عن الناس.. لا يعرفه غير المثقفين. والحكومة تصادر الأشعار.. بينما الأغنية لا يمكن أن تصادر.. ومن خلالها يمكننا قول ولو جملة واحدة مفيدة للمستمعين وإسعادهم ، بدلاً من الأغاني التي تشيع الإحباط وتجعلهم يكرهون حياتهم وقد كان مولد أغنية فؤاد حداد “الليلة يا سمرا” وهي من الأغاني التي حققت شهرة واسعة فى مجال الأغنية”.
ووقع اختيار محمد منير وأحمد منيب ومعهم عبد الرحيم منصور على بعض الأبيات من قصيدة “الليلة يا سمرا” المنشورة فى ديوان “رقص ومغني” لفؤاد حداد .
لم يكتب “فؤاد حداد “خصيصا للغناء على الإطلاق فقط كان يسمح لهم باختيار قصائد من أعماله تصلح لأن تغنى وهذا كان منهج ثابت لم يحد سوى في تجربة كتابه المسحراتى مع رفيقة وصديقة الملحن سيد مكاوى حيث كلفتهما الإذاعة المصرية بترشيح من صلاح جاهين لكاتبتها في عام 1964 وكان “حداد ” قد خرج في نفس العام من السجن وقد استمرت سنوات طويلة تقدم في شهر رمضان وتعتبر أحد أهم الأعمال التي قدمها كل من “حداد” و”مكاوي” وأكثرها رسوخا في وجدان العرب.
وقد ذكر “مكاوي” فى تصريحات إعلاميه أنه غنى عدة حلقات للمسحراتى من كلمات بيرم التونسى ولم تحقق نفس النجاح الذي حققته كلمات فؤاد حداد كما أن مكاوي عاد لتقديم المسحراتى في 1995 بعد عشر سنوات من رحيل حداد وكانت من أشعار سيد حجاب وكمال عمار ولم تحقق نفس النجاح أيضا.
الغناء يستعين بحداد
بعد أن غنى منير من كلمات حداد في 1981 أغنيه “الليلة يا سمرا” أدخل الإمام إلى عالم الأغنية وفتش عدد من الملحنين والمغنيين في أوراق “حداد” الشعرية وقدم منير بعد ذلك عددا من أشعار “حداد ” منها “تعالي نلضم أسامينا” و”الجيرة والعشرة” وغنى علي الحجار أيضا لحداد أغنيه “صلينا الفجر فين” ألحان حسين فوزي وقدمها الحجار في البوم قلب الليل 1987 ثم عاد وقدم أغنيه “يا العروسة” من ألحان محمد عزت.
كما غنى “سيد مكاوي”، بالإضافة للمسحراتى، أغنية الأرض بتتكلم عربى ومصر حياتى.
وقدمت “حنان ماضي” أغنية “مفيش في الأغاني من ألحان ياسر عبد الرحمن 1997 والتى قدمها الملحن والمطرب أحمد اسماعيل في فيلم “خيانة مشروعة ” للمخرج خالد يوسف عام 2006 وكان لإسماعيل نصيب كبير في تقديم أشعار فؤاد حداد، حيث لحن وغني عشرات القصائد للشاعر الراحل..
ويظل الملحن والمغني “وجيه عزيز” هو الأكثر تنقيبا في تراث فؤاد حداد الذى بلغ 33 ديوان شعر وقدم “عزيز” عددا كبيرا من أشعار حداد من بينها “الحداد” و “هيلا هيلا” و “فنان فقير “
فنان فقير على باب اللة
والجيب مفيهشي ولا سحتوت
والعمر خايف بيقول آآآآآآآآآآآه
والقطر فايت بيقول توووووووت
صحتنى ليه يا شاويش يا شاويش
دا انا كنت سارح في الملكوت”.
https://www.youtube.com/watch?v=_8PuTKMPW4U
وكانت أشعار الإمام مثيرة لموسيقى كل الفرق المستقلة التى ظهرت في مصر قبيل ثورة يناير وبعدها ونهلت من إبداعه الكثير وأعادت تقديم عدد من الأغنيات التي قدمت فيما قبل وكانت في مقدمة تلك الفرق “اسكندريلا” التي قدمت عددا كبيرا من أعمال حداد من أشهرها “قطر الصعيد “
ويظل الحديث عن فؤاد حداد «٣٠ أكتوبر ١٩٢٧- ١ نوفمبر ١٩٨٥»، الذي صدر في حياته ١٧ ديوانًا، وبعد وفاته نُشر ١٦ ديوانًا، لتكون الحصيلة نحو ٣٣ ديوانًا، شاعرا ملهما لأي موسيقى وأي مغن ويظل متجددا قادرا على إثارة الدهشة وتحريك الوجدان لأنه غنى للناس بصدق وحب وتوحد مع مواقفه وانحيازاته الاجتماعية والفكرية السياسية فبقى في ذاكرة الوطن .
https://www.youtube.com/watch?v=qzbRecLogeE
وعلى الرغم مما عانى منه من تهميش وعزلة إعلامية خلال حياته القصيرة نسبيا والتي قضى جزءا منها وراء القضبان إلا أن “الإمام” يعاد له الاعتبار كل يوم .