مدونة أصوات

“أخطأ ديكارت”.. أنا أشعر إذن أنا موجود

ذلك الثقل المبهم، الضيف الجاثم فوق صدرك يأبى إنهاء الزيارة، الخواء، أن تتساوى الموجودات كافة، تتلاشى الرغبات حتى

تظن أنها لم تكن قط، أنت لا تشعر بالحزن، لا تشعر بالوهن… فأنت لا تشعر أصلا.

تمضي أيام ساعاتها ثقال، دقائقها كأنها الدهر، تنشد زفيرك الأخير كأنه انتصارك الأوحد، تعلم يقينًا أنه سبيل الخلاص الأضمن، يسترجع فص ما بمخك ذكريات سعيدة، فلا تجدها كذلك، ويستعيد أحداثًا أليمة فلا تزيدك ألمًا..

لن تستطيع أن تمدح شيئًا أو تقدحه، فلن تجد مثلاً أن هذه الأشجار جميلة، إلا أنك لن تراها قبيحة، إنها أشجار، أشجار فقط، بعض غصون وجذور وأوراق ليس إلا، أما تلك الفتاة التي سال لعابك كالرضيع حين تقربت منك، فسوف تكتشف أنها ليست بذاك الجمال في الواقع، ليست فاتنة الخلقة ولا ذميمتها، هي محض فتاة لا أكثر.

الاكتئاب

تكتب الكلمات فلا تقدر على تقييمها، لا بد أنك فقدت هذه القدرة أيضًا، فالكلمات سواء طالما تحقق المعنى، التشبيهات وألاعيب اللغة لا تعنيك طالما المضمون قد فُهم، حتى الشعر، ذلك النغم المقفى في ترتيب جهنمي يأسر الوجدان، لم يعد يثير جنونك كما كان، هي محض بحور تراصت على أوزانها حروف وكلمات.

هل قال ديكارت يومًا أنا أفكر إذن أنا موجود؟ حسنًا، لربما أخالفه قليلاً، فأن تشعر دون تفكير لهو أعظم وأعز شأنًا من التفكير دون شعور- وإن امتلكت مزيجًا من عقلي آينشتاين وهوكينج- ستكتشف أن امتلاكك لتلابيب مشاعرك خير من امتلاك سيارات “الأسطورة” كافة.

أنت لا تبكي ليل نهار كما تصورك تراجيديات الدراما، لا تضم شفتيك في تقزز وتعتكف وحيدًا، تاركًا لحيتك ليشذبها خالقها، لا تهجر أسرتك وأصدقاءك وعملك، تمارس كل نشاط يتاح، تبتسم وتطلق النكات البذيئة وسط الأقربين، تأكل وجبتك المفضلة بذات النهم وتواظب على قهوتك في الصباح، تثيرك حلقات الدخان بعد كل “نَفَس” من سيجارتك، حواسك مكتملة لا شك، إلا الشعور، أنت تعيش، تعمل، تشجع الأهلي بفطرتك، غير أنك لا تشعر بأي من ذلك…

الضيف الثقيل الجاثم على صدرك يواصل التطفل، فيطور ذاته ويتسرب إلى أحلامك، إلى عمق سباتك، إلى لحظات كانت حتى وقت قريب سبيلك الأوحد للراحة، ويبدأ عقلك الباطن بتذكيرك أنه لا يقل شأنًا عن نظيره: “إن كان وعيك قادرًا على الفتك بك فلست أدنى منه”، ليخوض الثنائي غمار الحرب ضدك في سيزيفية مخيفة.

سيخبرك الطبيب أنه “السيروتونين”، بعض المستقبلات في المخ نسيت دورها وهرموناتك يقل تركيزها، لك كامل الحق في تصديقه والانجذاب وراء مثبطات الـ”شيء ما” الانتقائية تلك، ولي مثله في النأي عنها، ربما ينصحك ببعض الشوكولاتة لزيادة “الدوبامين”، وقد يكون من ذلك النوع ذي العمامة الذي ينصحك بالصلاة وصوم النوافل والاستغفار لتصفو روحك، رغم أنه أقنعك منذ دقائق أن الأزمة هرمونية بحتة!

الاكتئاب

ستستمر حياتك، ولربما لن يدرك غيرك ما بك أصلاً، إن أردت ذلك فقد تستطيع، فقط حاول تلوين ابتسامتك بغير الأصفر، ولا تنظر لمن يعرفك حق المعرفة في عينيه، فالعين لن تتوانى عن فضحك، وافق دائمًا على الخروج للتسكع وتدخين الشيشة، لا ترفض عرضًا مرحًا، دع جسدك لهم يشاركهم ما اعتاد أن يشاركهم فيه، أما ضيفك الثقيل اللزج، فسيبقى ملاصقًا لروحك لا مفر…

ستصل في آخر الطريق، ربما منتصفه أو بدايته، إلى أن الذنب إن كان  ذنب “السيروتونين” فلعنة الله على خلايا دماغك كافة، وإن كان ذنب غيره فصفَح الله عن الجميع، في وقت ما لن تجد بداخلك مكانًا لحقد أو ضغينة، فحسبك ضيفك، ستنتظر ثم تنتظر وبعدها تنتظر، سيصبح الانتظار دورك ومهمتك وغايتك وسبيلك، صحيح أنك لن تعلم أبدًا ماذا تنتظر، لكنك لن تتوقف عن الانتظار.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock