يقف يوسف فرنسيس على تلك الربوة وحيدا، مفتقدا حورياته اللائي رسمهن بروحه لا بريشته؛ لكن مفارقته إياهن لن تطول، سيخرجن إليه متحررات من ذلك الوهن الذي توشحن بغلالاته؛ وإلى حيث يخبئ يوسف الأحلام سيذهبن؛ ليسكنَّ قلبه مجددا بعد أن برِئ من كل ألم.. سيجد يوسف دون كبير مشقة بينهن معشوقته الأولى؛ ليبثها بأدق التفاصيل كم كانت التجربة برغم قسوتها ملهمة وعصية على البوح؛ لكنها تقطر عذوبة وصدقا يُفني كل تباريح الفقد عند العناق.
أين أمي؟ سأل الصبي يوسف.. لكنَّ صوته تردد بامتداد العمر باحثا عن إجابة.. لم يفهم الرحيل الذي تكلموا عنه.. لكنه أدرك الفقد.. وكل فقد لابد أن يتبعه بحث.. بحث دؤوب لا يهدأ.. في كل التفاصيل التي لا يصل إليها النور يبحث دون كلل هذا الفراغ الضاري المستولي على قلبه سيجمع إليه طوال رحلة بحثه كل كسرة حب؛ حتى يمتلئ ويفيض على الكل بحب من نوع خاص.. يعطي بلا حدود.. ويصنع من فاقة القلب؛ مصابيح حياة ونسائم تنهك الهجير.. تصارع دون استسلام.
هذا كنزك فكن أمينه.. سيمنحك طاقة بوح هائلة لا تتبدد ولا تتقادم.. أسر به إلى بقاع الأرض العطشى؛ لتمتلئ جنبات العالم بتلك النعمة.. تتعمد رؤاه في صهد الجنوب لعامين، يعود بعدهما وقد استبانت له خبايا وأسرار سيودعها لوحاته وكلماته.. رسائل خاصة جدا ظاهرها الجمال الناعم.. وباطنها العناء الذي يصرخ في صمت، ويحرق دون أثر للهب.
يعود إلى القاهرة عام 1959، لينتظم في سلك التدريس بكلية الفنون الجميلة، لكن الجمود الذي رآه يغلف الحياة الأكاديمية يدفعه إلى الفرار إلى عالم الصحافة بعد عام واحد فقط.. وتكون البوابة “روزاليوسف” ومجلة “صباح الخير” التي تفجرت على صفحاتها قدرات “فرنسيس” الإبداعية حتى صارت لوحاته أهم ما يميز المجلة.. يدرس السيناريو والإخراج في معهد السينما ويعود إلى العمل الصحفي من خلال الأهرام هذه المرة.. ويؤسس بها صفحة السينما التي يتولى الإشراف عليها.
وتكون بداية العمل بالسينما من خلال كتابة سيناريو فيلم “المستحيل” عن قصة مصطفى محمود.. ثم سيناريو “الخيط الرفيع” عن قصة إحسان عبد القدوس التي رأى فيها “يوسف” أسطورة “بيجماليون” لكن المرأة هي من تصنع الرجل؛ لكنه في النهاية يتركها ليبني مستقبله بعيدا عنها معتبرا حبها خطيئة عليه التبرؤ منها.. ثم يشارك في كتابة سيناريو “أبي فوق الشجرة” وفيلم “وثالثهم الشيطان” وعدد من الأفلام المتميزة.
في عام 1972، يقرر “فرنسيس” خوض تجربته الأولى في الإخراج السينمائي من خلال فيلم “زهور برية” والقصة والسيناريو والحوار له أيضا.. كانت الجامعات المصرية تغلي بالثورة بعد أن أخلف السادات وعده بأن العام 1971 سيكون عام الحسم.. كان الشباب يتردد بين حال اليأس والغضب.. فضل كثيرون أيضا حال اللامبالاة.. رأى “فرنسيس” أن تناول فكرة حب الوطن في هذا الظرف من خلال عمل سينمائي؛ مهمة حد الوجوب.. ومن خلال قصة شاب وفتاة تربطهما علاقة حب ويقرران السفر خارج مصر للعمل وبناء المستقبل؛ ينسج يوسف خيوط الحكاية التي تتوالى تفاصيلها من خلال الرحلة.. لتتجلى الحقيقة لكلاهما على مهل.. وهي أنه لا قيمة لشيء يدفع كثمن للتفريط في الوطن.. فيقرر الحبيبان العودة وإلغاء فكرة السفر.
https://www.youtube.com/watch?v=hCOPWiSGk2M
لا يعود “فرنسيس” للإخراج السينمائي إلا بعد ذلك بعشر سنوات من خلال فيلم “المدمن” من بطولة أحمد زكي؛ لأن “يوسف” ظل يتعامل مع السينما كهواية وكطاقة بوح إضافية.. عنما تكل الريشة ويتخاذل القلم.. تتقدم الكاميرا لتكون الصورة أداة لقنص الفكرة وإعادة تصويبها.
تواصلت مشاريع “يوسف فرنسيس” الفنية ليقيم حوالي اثني عشر معرضا في القاهرة وبيروت وباريس ولندن ووارسوا وطوكيو.. كما عمل خلال تلك الفترة مديرا للمركز الثقافي المصري بباريس لمدة أربع سنوات أتقن خلالها اللغة الفرنسية والإيطالية إلى جانب إتقانه للغة الإنجليزية.
من أهم التجارب السينمائية التي خاضها “فرنسيس” فيلم “عصفور من الشرق” الذي طرح فيه رؤية متجددة تعتمد على تجاور زمنين من خلال أحداث الفيلم التي تدور في باريس في الثمانينات من خلال استدعاء قصة حب حدثت في العشرينات.. وهي قصة حب جمعت بين توفيق الحكيم وفتاة فرنسية كانت تبيع التذاكر في إحدى دور العرض.
https://www.youtube.com/watch?v=b_m_lzmn8aE
في الفيلم أيضا تستدعى أحداث من قصة الحكيم “يوميات نائب في الأرياف” ومن خلال هذا التداخل يعبر “فرنسيس” عن بحثه الذي لا ينقطع عن المرأة التي تمثل له ديمومة الخلود.. هذا البحث الصادق الذي تعددت تجلياته؛ حتى أنه رسم زوجته في عدد من اللوحات قبل أن يراها في الواقع بسنوات.. كما رسم ابنته “بسمة” قبل أن تولد.. وتلك الوجوه التي تحفل بها لوحات فرنسيس هي في الحقيقة ليست سوى كشفه الخاص للمرأة بعد إسقاط الأقنعة التي يجبرها العالم على ارتدائها للتخفي والهروب من الشراك التي تحاول اصطيادها أو إغراقها في أحزان سرمدية.
بالإضافة إلى الرسم والتصوير الزيتي وكتابة السيناريو والإخراج السينمائي والنقد.. ألف “يوسف” عددا من الكتب منها: “صور باريسية” و”أوربا إلى أين؟” و”فتيات الجيشا” و”عرائس الخيال” و”الرعشة” و”نصف وداع” و”الملاك الفاسد” عن قصة حياة الفنان الإيطالي “موديليانى” الذى صرعه الحب والمرض والخمر، وهو يخطو أولى خطواته نحو مجد واسع وعريض. وعن أسفاره المتعددة كتب “فرنسيس” كتاب “رحلات الحب والجنون” و”إجابات نخشاها” و”عصا الحكيم” و “باريس من الباب الخلفي” و “باريس الألف وجه” و”كيف تقرأ لوحة؟” وغيرها.
وفي عام 1987، يعود إلى السينما من خلال فيلم “يا صديقي كم تساوي؟” أخرجه وكتب له السيناريو والحوار، ثم تنتابه حالة العزوف عن العمل بالسينما أوقل أنه لا يجد من الأفكار ما يجبره على التعبير بالصورة، حتى عام 1992 الذي يشهد فيلمه “الماضي لم يعد ملكي” وفي عام 1994 يقدم من تأليفه وإخراجه فيلم “سوق النساء” قبل أن يقدم في العام التالي فيلمه الهام من إنتاج التليفزيون المصري “البحث عن توت عنخ آمون”.
وفي عام ألفين يبدع “فرنسيس” فيلمه الذي سينال عنه جائزة مهرجان الإسكندرية وهو فيلم “حبيبتي من تكون؟” وهو ما حفزه للعمل على مشروع فيلم عن المثال العظيم “محمود مختار” وكان “يوسف” يأمل أن يحمل هذا الفيلم رؤيته الخاصة جدا عن هذا التمازج بين فنون الصورة وفنون التشكيل.. لكن القلب الذي امتلأ حبا للناس وللحياة اعتل وصار لزاما على صاحبه أن يخضع للعلاج.. لكن الرحلة كانت قد أوشكت على الانتهاء.. برغم أن الفارس لم يضع السلاح حتى اللحظة الأخيرة كان دأبه مواصلة التحدي، فما زال البحث مستمرا عن نوافذ أخرى تتفتح بالإبداع والخلق، لتمنحنا بصيرة الرؤية النافذة إلى عمق الحكمة من الحياة، وهي أن الحب هو قوتنا الباقية إذا أردنا أن نحسم معارك الوجود.
وعن عمر ناهز السابعة والستين يرحل يوسف فرنسيس كومضة سريعة لم تألف الأرض ولم تتضرر كثيرا من وجودها في عالمنا رغم طبيعتها الملائكية.. ليغادر “مضمخا بعطور لوحاته وضياء مراسمه” خلف الأفق البعيد حيث تنتظر العاشق محبوبته التي يبصر معها الفراديس العلوية في جمال مكتمل بالتحقق، وبهجة لا يعكرها فقد.