ثقافة

“العروي” والتراث.. “لحظة” محمد عبده من الفرصة إلى المفارقة! (2-3)

يُحَمِّل الدكتور عبد الله العروي، الشيخ محمد عبده مسئولية إضاعة الفرصة التاريخية لإصلاح حقيقي كان من شأنه تخليص الأمّة من قيود الاستتباع وأسر الماضوية؛ إذ ذهب الشيخ -وفق زعم العروي- إلى محاولات بلا جدوى حقيقية للبحث عن وسيلة للتصالح بين الماضي والحاضر؛ تحصنا بالذات مما رآه هيمنة للإرادة الأوروبية المسيحية الساعية إلى اكتساح العالم.. وقد اعتبر العروي، عبده بذلك نموذجا للمصلح السلفي الذي رأى في هذا المنزع التوفيقي حلا يكفل تحولا في التاريخ يحفظ الذات، وقد تزينت ببعض مزايا الحداثة الغربية.

عجز الشيخ محمد عبده عن إدراك المسافة المعرفية والتاريخية الفاصلة بين العقل التراثي وعقلانية الحداثة المعاصرة، كما بلورتها منجزات الغرب الحديث والمعاصر، متمترسا خلف عبارة ساقها ذات يوم في أحد سجالاته مع فرح أنطون.. وهي عبارة “الاسلام دين العلم والمدنية” وهي العبارة التي تجسد حسب رؤية العروي أبعاد المفارقة الكبرى في التاريخ العربي المعاصر التي وضعت معقولية التراث في مواجهة مادية الحضارة الغربية.. ما مثّل حالة من المراوحة لم نستطع تجاوزها حتى الآن، فهي تردنا كل مرة إلى عتبة مشروع عبده الإصلاحي الذي ناوأ التطور بنفي الزمان بالعجز عن تعقل مقتضياته، مستنجدا بعقل “المطلق” وفيًا كل الوفاء للذهنية الكلامية التقليدية.. فقد اقتصرت مهمة العقل الإسلامي عند محمد عبده، على الإقناع بمواقف وآراء معتمدة سابقة، والمحاججة في سبيل إثباتها أو فرضها على الغير؛ فاقتصر بذلك على هذا الإطار النظري العقلي الذي أجهض محاولة الإصلاح.

يُرجع العروي أسباب اختياره للشيخ محمد عبده ومشروعه الإصلاحي كنموذج للمشروع السلفي الذي يجب نقده وتفنيده بغية الوصول إلى الكشف عن “حدود ومحدودية العقل الإسلامي”– إلى أن الشيخ هو من اعتمد على معرفته بعلوم الدين في الإجابة عن السؤال الذي طرحه: لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغرب؟ “الذي لم يسبق أن طرحه المفكرون المصلحون القدماء بهذه الطريقة وبهذه الصيغة الجديدة، لأن السؤال يوحي مباشرة بارتباط لا انفكاك له بين عقيدة الإسلام وبين واقع التأخر، حيث كان يرى الشيخ محمد عبده التناقض والاختلاف كبيرا بين الغرب والشرق”.

الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده

لقد حاول الشيخ أن يجيب عن عدد من المسائل كانت منطلقا لهجوم الغرب على الشرق، وهي: “مسألة الاستبداد، ومسألة الحرية، ومسألة التولد”. إذ زعم الغرب أن الحكم في الإسلام ظل ذا طابع استبدادي دائما، وفي مسألة الحرية قالوا: “إن ما يركز لاستبداد الحكام هو خضوع المحكومين وتشبعهم بفكرة القدرة والقسمة والمكتوب” ليصبح بذلك الاستبداد من طبائع الأمور. وقد اضطر الشيخ محمد عبده إلى تبني نظرية التحريف؛ أي أن النص فُهِمَ على غير وجهه الصحيح، وأمر بضرورة رفع التقليد، وبالتالي واجب الاجتهاد والتأويل، وكان هدفه من هذا هو نزع الشرعية من واقع الاستبداد، وبالتالي دحض وتكذيب التهمة الموجهة من الغرب.

ويرصد العروي مفارقات الإمام محمد عبده الذي اتكأ على حيلة متمثلة في إصداره لفتاويه بغية تقريب الذات إلى متطلبات العصر؛ إلا أن هذه اللحظة (لحظة محمد عبده) جسدت مفارقة كبرى في التاريخ العربي، ومن ثمة تصبح “لحظة الإمام عبده في فكر عبد الله العروي هي لحظة مجسدة لمفارقات العقل العربي الإسلامي”.

وعندما يقارن الشيخ بين الديانتين المسيحية والإسلامية يجد أن هناك مفارقة كبرى؛ فمن يقول بأنه إسلامي يطبق في حياته اليومية ما دعا إليه الإنجيل من زهد في العلم ومنافعه، ومن اعتقاد في الخوارق والكرامات، ومن “مجافاة العقل” ومن يقول بأنه مسيحي يعمل بعكس ما جاء في كتابه المقدس، فلا يعتزل الدنيا و”يتصرف كما لو كانت الدنيا سنن الكون لا تخرق أبدًا، بل يعتبر النظر في الخليقة ضربًا من ضروب العبادة”.

ويرى العروي أن العقل في الفكر العربي الإسلامي هو “ما يعقل العقل ويحده، لا يطلقه ويسرحه، وما يعقل العقل، بل يؤسسه كعقل، هو علم المطلق، ما سواه من العلوم الفرعية هو خاضع ولا يصح إلا به”.

أوراق

“أما من يدعي المعقول فقد تشكل في الذاكرة الإسلامية من “الخبر والحكمة والسنة والتقليد، والكشف وسر الإمام” وهي كلها “أسماء يجمعها ناظم واحد في نظر العروي هو السعي للعقل المطلق” لأن النص في المرجعية السلفية، التي هي مرجعية الشيخ محمد عبده، هو بمثابة مرآة العقل والكون معا، لأن النص كلام وبيان “بل هو كلام وبيان الكون والقول والعلم والعقل”.

وتكمن مفارقة الشيخ محمد عبده في أنها ناتجة عن الحصر الذي جعله ينفي الزمان، ويصير وفيًّا للذهنية الكلامية التقليدية، ما جعله في كثير من الحالات يستنجد بالعقل المطلق. “لم يستوعب محمد عبده هذه المحدودية التي تعرضت له، ولم يستطع إدراكها فعلى الرغم من أنه كان على كثير من معطيات الثقافة المعاصرة، لم يستوعب القطيعة التي بلورتها الحداثة في علاقة مع الثقافات القديمة، ولكنه استوعب تقدم الغرب الإمبريالي العدو وتخلف المجتمع الإسلامي، وللمزيد من استحالة منطق الإحياء والتجديد من الداخل، وكذلك تبيين محدودية الفكر السلفي، واستحالة الحلول التوفيقية السلفية التي باتت تخلط بين الأزمنة والعصور والمفاهيم، وأضحت تفسر تخلف المجتمعات الإسلامية بانسلاخهم عن هويتهم الثقافية والتراثية بوجه عام”.

وقد اعتبر العروي مشروع الشيخ محمد عبده امتدادا على نحو ما لمشروع ابن خلدون الذي رآه قد قدم العقل على النقل؛ لكنه كان يعود دائما للخضوع لسلطة النص.. بيد أنه يكقيه “حصره معنى العقل في التعقل والتعقيل، وحصره هذا هو حصر الجميع، ومن يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده، فيتيه في المفارقات”.

ابن خلدون
ابن خلدون

لقد أغفل العروي كثيرا من النقاط الهامة عند تناوله مشروع عبده بالنقد، فهو رغم منهجيته وتمكنه من أدواته؛ إلا أنه قد غالى كثيرا في إبراز إيجابيات مشروع الحداثة الغربية؛ حتى أنه يصل به في أحيان كثيرة إلى حدود المثالية.. بينما تشير الوقائع بدلالاتها إلى أن المشروع كان في خدمة الاستعمار طوال الوقت، وأن أفكار الهيمنة والاستعلاء قد شكلت جزءا مهما من ركائزه الأساسية؛ ولم يكن مشروع الشيخ محمد عبده ثوريا على الإطلاق، ولكنه مثل في كثير من رؤاه خطوات للأمام.. ولكن قطيعة العروي تظل دائما الحل الايسر والأكثر راديكالية؛ برغم استحالة تنفيذه وضعف جدواه في ظل المعطيات الراهنة، وربما المستقبل القريب أيضا؛ لتمثل تلك القطيعة فجوة زمنية، أو عداوة بلا مقابل في مواجهة مشروع يؤكد كل يوم على خصوصية تنطلق من جذور فكرية هي أقرب للعنصرية، وأبعد ما تكون عن القابلية للتواصل المتكافئ.. لكن الأمر لا يقف عند هذا النحو من التبسيط، بل هو من التعقيد بحيث يحتاج إلى إعادة النظر في كثير الاحكام الإطلاقية التي ترتد دائما في صدر من يتصدون للمستنجدين بالعقل “المطلق”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock