أصبح النوم هو الأمل المنشود للبيت العربي، أن تضع رأسك على وسادتك فتنام وتغمرك الأحلام، أو أن تنام دون أن يؤرقك شيء، لكن هذه الأمنية البسيطة أصبحت غالية، بل وتكاد تكون مستحيلة، فبينما نعمل ليل نهار، يظل جهازنا العصبي في حالة من الانتظار والقلق والسهر والتحرك، وهو ما يجعل عقولنا وقلوبنا وأجسادنا بعيدة عن أرض النوم العزيزة، بعد أن تم ربط جميع الأعناق في طلبات الحياة اليومية التي لا تنتهي، وبالتالي لم نعد نستطيع أن نهدأ ونستريح ونغمض عيوننا وننام فور أن نضع رُءُوسنا على الوسائد.
والوحيدة التي شاهدتها تفعل ذلك: أمي العظيمة، في دورة كفاحها اليومي، حيث كانت آخر الليل تضع رأسها على الوسادة فتنام فورًا، ولم أفهم أن خدمة البيت والجيش الذي يعيش فيه، مرهقة، تجعلك تلقي بجسدك على الفراش فتنام فورًا، وربما أيضًا راحة البال التي كانت كنزها الأثير رغم ضجيج حياتنا المستمر.
وجميع الثقافات اهتمت بالنوم، وبحثت عن أسراره، وأطلقوا عليه الكثير من الأمثال، ففي الشرق نجد ” نوم الظالم عبادة ” تعبير عن الرضا بنوم الظالم اتقاءً لظلمه، و” نوم العوافي” دعاء بالصحة للمستيقظ، و” خم نوم” أي لا يستيقظ بسهول حتى لو قمت بدق الطبول بجانب أذنيه، و” يكملوا عشاهم نوم” ، أي النوم يغذّي من ليس لديه ما يأكله، وهو يقال عن الفقراء في أحيان كثيرة.
ومن يطلب النوم العميق في الثقافة الشعبية الأوربية فعليه: أن يفرك صدغيه قبل النوم بدهن هر، وأن يدخن غليونًا يحتوي تبغ ” فرجينيا” وضع فيه مسحوق علجوم مجفف ممزوج بالثّفل الأسمر لقصب السكر، وأن يمضغ عشر بذور قنب سبق نقعها في خمر التفاح أو في الجعة ” البيرة” مدة عشرة أيام.
والإنجليز يقولون ” ساعة نوم قبل منتصف الليل تعادل ثلات ساعات من النوم بعده”، والأسبان يقولون:” الشاب يشفى بالنوم والعجوز ينتهي بالنوم، مثل إسباني”، ومن أقوال ” هوميروس الشهيرة”: النوم هو الأخ التوأم للموت”
وأكثر من يستخدم كلمة النوم في حركتهم اليومية النساء، فعندما تغضب الزوجة من زوجها، تدعوا عليه ” يارب تنام ما تقوم” أي أنها تتمني له الموت، وكلمة النوم هنا تصبح مرادفًا للموت، وذلك لثقل كلمة الموت فتطلق كلمة النوم، أو تقول داعيه ” نامت عليك حيطة” أي وقعت على رأسه كي يموت، و” نايم على ودانه” يضرب للأحمق الغفلان ولكن الزوجة تخص بها زوجها المتكاسل، بينما في الطفولة نحسد هؤلاء الصغار لأنهم يناموا مثل الملائكة في التعبير الشهير ” نائم مثل الملائكة”، في حين أن تعبير “النوم في العسل” هو تعبير عن البهجة أو مرادفا للغفلة.
وأول أعداء النوم الأرق العاطفي، والانتظار، والناموس، والطموح، وأحلام اليقظة، وقلة النقود والثروة المفاجئة، والكوارث العائلية التي لا تنتظرها، والظلم، والانتقام، والجوع، والبعد عن الوطن، والمنبهات وأولهم القهوة، والنيكوتين، وتخمة الأكل التي تسبب عسر الهضم والتلبك المعوي.
ويستطيع البعض النوم وعينيه مفتوحة، كالثعالب والذئاب والخونة والثعابين والمنتقم، ورؤساء الحكومات وقادة الانقلابات، والجواسيس، والذي عليه ثأر أو مطالب بالثأر. ونتذكر هنا رواية ” الكونت دي مونت كريستو” للفرنسي الشهير ألكسندر دوما عام 1844، في سجنه فقد ضيع النوم في حفر النفق للهروب بقلب ممتلئ بالحزن وبحثًا عن الانتقام ممن خانوه، كذلك سعيد مهران قبل خروجه من السجن في رائعة نجيب محفوظ “اللص والكلاب”، كما نجد أن النوم يجافي شخصية الوزير ” رأفت رستم- الممثل أحمد زكي” في فيلم ” معالي الوزير”، ويصبح النوم للحظات حلم غير محقق.
https://www.youtube.com/watch?v=4DmmVyek85c
وقد جاء النوم عنوانًا لكثير من الروايات الشهيرة مثل :” الجميلات النائمات” للياباني ياسوناري كواباتا، تلك التي تمني الكولومبي العالمي “ماركيز” كتابتها فوضعها في رائعته ” ذكرى عاهراتي الحزينات”، ثم جاء المصري الشاب طارق إمام ليضع خلاصه تلك التجربتين مغلفًا سرده برائحة ألف ليلة وليلة الشرقية في روايته ” طعم النوم”، لكننا لا نستطيع أن ننسى المجموعة القصصية الشهيرة والرائعة للأب الروحي للسرد العربي ” يحيى حقي” –” صح النوم”، أو مجموعة قصص “النوم عند قدمي جبل” للسوداني الجميل حمور زيادة.
وأي شيء ينام، فالنَوْم: مصدره نامَ، ونَوَّمَ الْمَرِيضَ: بَنَّجَهُ بِالبَنْجِ، ونَوَّمَهُ تَنْوِيماً مِغْنَاطِيسِيّاً: أَيْ أَخْضَعَهُ لِحَالَةٍ مُصْطَنَعَةٍ شَبِيهَةٍ بِالنَّوْمِ، يَصِيرُ مَعَهَا تَحْتَ تَأْثِيرِ الْمُنَوِّمِ، ونوَّمتِ الإبلُ: ماتت، ونَامَتِ النَّارُ: هَمَدَتْ، وخَمَدَتْ، ونَامَ هَمُّهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ، ونَامَ البَحْرُ: هَدَأَ، ونَامَ الْعِرْقُ: أَيْ لَمْ يَعُدْ يَنْبِضُ، ونَامَ الرَّجُلُ اللهَ: تَوَاضَعَ، ونام ملءَ جَفْنَيه: نام ملءَ عينيه، كان خاليًا من الهمّ، ونام الخَلْخَالُ: انقطعَ صَوتُه من امتلاء السَّاق، ونامَت الرِّيحُ: سَكَنت، ونَامَ الثَّوْبُ أَو الفَرْو: أَخْلَقَ، وضرب النَّوم على أذنه: غلبه.
وقد يتحول النوم إلى مرض، وهو مرض النَّوم: مرض قاتل يكثر في المناطق الاستوائيّة في إفريقيا ينتقل عن طريق ذبابة ( التسي تسي ) ومن أعراضه حُمَّى وصداع ونوم طويل ينتهي غالبًا بالموت، والنوم الأبدي هو الموت، والسوق نائم أي أصابه الكساد، ونائم على روحه، أي في غفلة من أمور حياته، ومنه نجد الْمَنَامَةُ وهي لِبَاسُ النَّوْمِ أي البجامة، وأيضًا عاصمة البحرين – المنامة- ولا أعرف السر في ذلك الاسم، و المَنَامَةُ اسم القَبْرُ أيضًا.
وإذا نحينا النوم جانبًا نجد كلمة نَعَسَ، وهي كلمة حميمة أقرب لنا في شئون حياتنا، فيقال: فلان نعسان، وفي الصعيد بجنوب مصر، نحب أن نطلق لفظ ” النُّعاسُ” بدلا من النَّوْمُ، وهو الوَسنُ من غير نَوْم، أو أَوَّلُ النَّوم، وجمعه نَعسَى، أو يقال رقد أو الرقاد، لذا ينصح بنوم القيلولة وهي النوم لفترة زمنية بسيطة لا تتعدي دقائق قليلة، تستطيع بعدها معاودة نشاطك، وكنت عندما أقوم بإيصال أبي لمحطة القطار، يعجني عربة النَّوم: إحدى عربات القطار التي تكون مزوَّدة بوسائل الرَّاحة والنَّوم، ودائمًا أحلم بالنوم فيها.
وفي بحثنا عن النوم، نتعلق بالكثير من الأشياء التي لا تخطر على بالنا، فالبعض اتجه للمهدئات، والبعض الآخر لجأ للمخدرات ” حشيش وبانجو وحبوب برشام” أو يغرق في بحور الخمر بحثًا عن النوم، والبعض يستحم بماء دفيء ليلا، أو يشرب كوب لبن لتهدئة الأعصاب.
ويوجد بعض الأشخاص من كثرة الأحمال والأعباء عليهم، يضعون رءوسهم في أي مكان فينامون، في أتوبيسات المواصلات، وعربات مترو الأنفاق حيث ينامون وهم واقفون، أو انتظارًا لأحد أو أمام شاشة التليفزيون، وبسبب قلة النوم طوال أيام الأسبوع بحثًا عن لقمة العيش للإنسان العربي، فإن يوم الجمعة أي يوم الأجازة، نقضيه في النوم، وقد تظل مدة نومه لأكثر من خمسة عشر ساعة، وكأنه ينتقم من تعبه بهذا النوم الطويل والذي دائمًا يستيقظ منه وهو يشعر بالإرهاق أكثر منه شعورًا بالراحة. وذلك لأن الجسد معتاد على عدد معين من ساعات النوم في أيام العمل و النوم لأكثر من المعتاد في العطلة يتسبب بالأرق و الشعور بالخلل في الحالة المزاجية .
وكان للنوم استعدادت، أي النوم في بيجامة، ثم الروب، لكن الان ولأننا لم نعد نهتم بتلك المسائل التي تربينا عليها، فالكثير ينام بملابسه التي جاء بها من الخارج، وقد ينهض ويشطف وجهه ببعض الماء ويغادر المنزل بحثًا عن لقمة العيش، ومتابعًا حياته التعسة. وطبيًا فإن ساعة نوم قبل منتصف الليل تعادل ثلات ساعات من النوم بعده، والإفراط في النوم يتعب الجسد.
والنوم الجيد من الأمور الأساسية للتمتع بصحة سليمة ومزاج جيد، وقد حدّد العلماء عدد ساعات النوم الكافية في اليوم من 7 إلى 9 ساعات، وإذا ما نقص، أو ارتفع عدد الساعات عن هذا المعدل، فإن الإنسان يتعرض إلى مشاكل صحية قد تهدد حياته.
ويدعى الأشخاص الذين ينامون أقل من 6 ساعات بأصحاب النوم القصير، والذين ينامون أكثر من 9 ساعات بأصحاب النوم الطويل، ولكنهم طبيعيون. فنابليون وأديسون كانا من أصحاب النوم القصير. وكان نابليون ينام فوق ظهر حصانه دقائق مكثفه وأثناء المعارك، وبعدها يكون فى غاية النشاط وكأنه نام يوما كاملا، في حين أن العالم آينشتاين كان من أصحاب النوم الطويل.
وأشهر من أنتابهم النوم: أهل الكهف، والكفار عندما حاصروا منزل الرسول ” ص” ليلة الهجرة مع صديقه أبو بكر الصديق، وهذا النداء الجميل “الصلاة خير من النوم” في صلاة الفجر.
يقضي الإنسان ثلث حياته نائمًا، بينما الثلثين الآخرين يدمر فيهما نفسه بحثًا عن الثلث الأول. ثلث في المعارك وبحثا عن لقمة العيش، وثلث في الانتظار والرجاء، ولا يزال جميعنا يحلم بأن يسمع حدوتة قبل النوم، كي يستطيع أن ينام ويمتليء بالأحلام، أو نسمع ” أمِنتَ لمّا أقَمتَ العَدلَ بينهُمُ.. فنِمتَ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيها” متذكرين القصيدة العمرية – وهي قصيدة في مدح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ” رضى الله عنه” نظمها شاعر النيبل حافظ إبراهيم”
والتعبير الشهير: النَّوم سلطان، يظل يتردد دائمًا، لآنه لا يُقاوم إذا غالب العيون، وذلك لأن أحدًا لا يستطيع أن يصل إلى عرشه أو ينتصر عليه إلا الله، الواحد الأحد، الذي لا يغفل ولا ينام حيث ” لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ “.