ناضلت العديد من شعوب العالم من أجل إقرار مبدأ المواطنة وإقامة دولة العدل والمساواة والقانون وشهد العالم على إمتداد النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين تأسيس عدد لا حصر له من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية المطالبة بالتأكيد على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان وتوالى الإعلان عن العديد من المواثيق الدولية التي تُعلي من شأن مبدأ المواطنة وإقرار العدل القائم على تكافؤ الفرص بين الناس.
المؤسسات التعليمية بوصفها واحدة من أهم الآليات التي تساهم في تشكيل المواطن وبناء شخصيته عبر المناهج الدراسية والأنشطة المختلفة أصبحت مجال للدرس من قبل الباحثين المهتمين بقضية المواطنة ومن ثم باتت قضية الازدواجيات المتعددة لنظام التعليم بمصر ما بين «ديني/مدني .. عام/خاص .. وطني/ دولي» ومدى قدرة تلك الأنظمة التعليمية المتعددة على إقرار مبدأ المواطنة والدعوة للحث على إقامة دولة العدل والمساواة والقانون بالمناهج الدراسية محل تساؤل كبير لدى هؤلاء الباحثين.
الدكتور شبل بدران أستاذ علم الاجتماع التربوي في دراسته المعنونة «مكانة المواطنة في التعليم .. التربية على المواطنة في المناهج الدراسية» يطرح قضية مكانة المواطنة في المناهج الدراسية عبر تحليل محتوى كتب الصف الثالث الثانوي للعام الدراسي «2013/2014» بعدد من المواد الدراسية: «التاريخ، الفلسفة والمنطق، وعلم النفس والاجتماع، والتربية الوطنية».
المواطنة في المناهج الدراسية
استهل الدكتور بدران طرحة لقضية مكانة المواطنة بالمناهج الدراسية بالإشارة إلى أن هناك اتجاهان للتربية على المواطنة في بناء وتكوين المناهج الدراسية، الاتجاه الأول منهما يأخذ بضرورة وجود مقرر دراسي مستقل خاص بتدريس قضية المواطنة وهذا هو الجاري بمناهجنا الدراسية بمصر حيث توجد مادة دراسية يطلق عليها مسمى «التربية الوطنية» وهو اتجاه لا يلقى أي قبول أو اهتمام سواء كان ذلك من قبل الطلاب وأولياء أمورهم أو من قبل المعلمين أنفسهم، لأنه يتم استبعاد درجات هذا المقرر الدراسي من مجموع الدرجات النهائية للطلاب وبصفة خاصة في سنوات الشهادات العامة.
يقوم الاتجاه الثاني في طرح قضية المواطنة على مبدأ يتمثل في تبني المناهج الدراسية -كالتاريخ والفلسفة المنطق وعلم النفس والاجتماع- مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان من خلال مختلف الدروس والأنشطة الاجتماعية التي تمارس بالمدرسة، والأمر لا يقتصر على محتوى المناهج الدراسية فقط وإنما يتضمن ذلك بناء وتكوين المعلمين أنفسهم ومدى تبنيهم لمنظومة المفاهيم والقيم المرتبطة بالمواطنة وحقوق الإنسان.
من يصنع المناهج الدراسية؟
يطرح دكتور بدران في مستهل تحليلة لعدد من المناهج الدراسية تساؤلا موداه: «من يصنع المناهج الدراسية؟» ويجيب على تساؤله بالإشارة إلى أنه في الماضي كان يتم اختيار مفتش أو موجه أو موظف كبير من الوزارة لوضع المناهج الدراسية وفقا لنموذج موضوع مسبقا، وقد ابتكرت وزارة التربية والتعليم فيما بعد فكرة المسابقات، حيث يتقدم قرابة عشرة أساتذة يتم الاختيار من بينهم من يضع المنهج الدراسي وذلك في ضوء عدد من الشروط والنقاط المحددة، ومن ثم يتم مراجعة المناهج من قبل الموجه العام أو مستشار المادة، ثم يتم إرسال المناهج إلى «مركز تطوير المناهج والمواد التعليمية» التابع للوزارة لإخراجها في شكلها النهائي بعد الحذف والإضافة ووضع بعض الصور والأشكال.
بشكل عام سواء كان المنهج يوضع وفقا للأسلوب القديم أو الجديد فهو في النهاية يوضع وفقا لعدد من المواصفات المتمثلة في: «فلسفة المنهج، وأهدافه وغاياته» ويصبح التساؤل المطروح من الذي يضع تلك الفلسفة والأهداف والغايات؟ ..أهو النظام السياسي القائم أم هى وزارة التعليم التي تعبر عن توجهات الحكومة التي تمثل السلطة التنفيذية للنظام السياسي؟ .. حقيقة الأمر أن المناهج الدراسية تأتي معبرة عن توجهات النظام السياسي القائم وذلك انطلاقا من أن المدرسة وآلياتها المختلفة تعد أحد أجهزة الدولة الأيديولوجية وبناء عليه، فإن تحليل محتوى الكتب الدراسية فيما يتعلق بقضية المواطنة وحقوق الإنسان، إنما هو في النهاية يكشف النقاب عن مكانة المواطنة وحقوق الإنسان بمنظومة التعليم وتوجهات النظام السياسي نحو المواطنة وحقوق الإنسان في آن واحد.
المواطنة وحقوق الإنسان الفروض الغائبة
كشف تحليل دكتور بدران للمناهج الدراسية الخاصة بالصف الثالث الثانوي بعدد من المواد الدراسية: «التاريخ، الفلسفة والمنطق، وعلم النفس والاجتماع، والتربية الوطنية» بالعام الدراسي «2013/2014» عن غياب أي موضوع قائم بذاته عن المواطنة أو حقوق الإنسان إضافة إلى أن طريقة معالجة موضوعات تلك المقررات الدراسية ذاتها قد غاب عنها طرح مبدأ المواطنة وقيمها إلا فيما ندر حيث أكدت نتائج الدراسة على تواضع نسب تكرار القيم المباشرة للمواطنة المتمثلة في قيم: «المساواة، وتكافؤ الفرص، والتسامح والعيش المشترك، وعدم التمييز والعدالة والكرامة الإنسانية».
إن المواصفات والشروط والقواعد الحاكمة لعملية تأليف الكتب الدراسية التي تضعها وزارة التربية والتعليم هى التي تحدد مكانة القيم وطريقة معالجتها سواء تم ذلك بشكل صريح أو ضمني يضاف لذلك غياب الوعي لدى مؤلفي تلك الكتب بأهمية طرح مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان.
حقيقة الأمر إن أزمة مكانة المواطنة وحقوق الإنسان بمنظومة التعليم في مصر لا تقتصر على محتوى المناهج الدراسية فالمدرسة بوصفها مؤسسة اجتماعية تربوية قبل أن تكون مؤسسة تعليمية لابد لها من أن تحرص على دعم آليات المشاركة المجتمعية وأساليب حل المشكلات وإتخاذ القرار والتعلم التعاوني والعمل الجماعي فالدرس الناجح في مجال «التربية على المواطنة» هو درس زاخر بالأنشطة والفعاليات العملية التي تقوم على التفكير النقدي والبحث عن المصادر والتعليم الذاتي وهى آليات شبه غائبة عن منظومة التعليم المصري بشكل كبير.
أزمة التعليم بمصر المتمثلة في تعدد مستوياته وازدواجيته في حاجة ماسة إلى «ثورة تعليمية» تعيد النظر في منظومة التعليم ككل، تعيد طرح التساؤل حول «فلسفته وأهدافه وغاياته» تعيد النظر في طرح التساؤل حول ماهية الإنسان المصري المرجو تنشئته في المستقبل وشكل المجتمع الذي ترغب في تشكيله.