يواصل د محمد المهدي خبير الطب النفسي تشخيص عبقريات مصر ، من خلال الغوص في العطاء الفكري لمبدعي المحروسة، فى هذا الوقت الذى يضطرب فيه الفكر ويضطرم بحثا عن شخصيتها ودورها الإنسانى والحضارى ، فإننا فى حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا , لكياننا ومكانتنا , لإمكانياتنا وملكاتنا … وأيضا لنقائصنا ونقائضنا , بلا تحرج ولا تحيز أو هروب ” مثل حالة ( جمال حمدان عبقرية الهروب )والشيخ الطيب يمثل عبقرية الموقف في وقت يهرول فيه الجميع لكسب ود ومحبة العدو الصهيوني وهو يعلم ثمن الموقف ومخاطره في هذا الوقت ، وقد تصعد مصر وتعطي سرها لفتي بسيط من المهمشين كحالة الفنان إمام عيسي ، فقد تميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة وذلك لتمييزها عن سمات فرعية أو ثانوية قابلة للتحريك مع الظروف الطارئة . فالمصرى تميز بكونه : ذكياً , متديناً , طيباً, فناناً , ساخراً , عاشقاً للاستقرار (عزه عزت – التحولات فى الشخصية المصرية)، و هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية فى وعى المصريين ووعى غيرهم , وقد أدى إلى الثبات النسبى لهذه السمات ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبيا .
شيخ الموسيقي الثالث بطل الغنوة المناضلة
حدثت تحولات نوعية فى بعض السمات وتحولات نسبية فى سمات أخرى , فمثلا استخدم البعض ذكاءه فى الفهلوة , وتعددت صور التدين بعضها أصيل وبعضها غير ذلك , وقلت درجة الطيبة وحل محلها بعض الميول العنيفة أو العدوانية الظاهرة أوالخفية , وتأثر الجانب الفنى فى الشخصية تحت ضغط التلوث والعشوائيات , وزادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة قاسية أكثر من ذى قبل وأحيانا متحدية فجة جارحة , أما عشق المصرى للإستقرار فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت البيئة المصرية طاردة نحو الخارج بحيث أصبح حلم كثير من الشباب السفر إلى أى مكان لتحقيق أهدافه بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام على أرض الوطن مثل شخصية أحمد زويل الذي برع خارج مصر بشكل مدهش حتي حصل علي نوبل ، في حين برع داخل مصر نماذج آخري ، وهي تواجه أشد أنواع المخاطر،
كتب د.المهدي عن عمنا الشيخ إمام عيسي في رؤية عباقرة مصر المهمشين الذين صنعوا المستحيل في أصعب ظرف إنساني ، ليصبح مؤسس مشارك لتيار الأغنية المناضلة في مصر مع الشاعر الفذ أحمد فؤاد نجم ، هذا التيار الفني الذي وضع بنايتة شيخ الموسيقي الأول سيد درويش ،ثم كان الشيخ عيسي محط تقدير خبراء الموسيقي ، فهو شيخ الموسقي الثالث بعد سيد مكاوي الشيخ الثاني ، وفى إحدى زياراته لحى الغورية قابل مجموعة من أهالي قريته فأقام معهم وامتهن الإنشاد وتلاوة القرآن الكريم، وكسائر أحداث حياته التي شكلتها الصدفة التقى الشيخ إمام بالشيخ درويش الحريري أحد كبار علماء الموسيقى، وأعجب به الشيخ الحريري بمجرد سماع صوته، وتولى تعليمه الموسيقى.
اصطحب الشيخ الحريري تلميذه في جلسات الإنشاد والطرب، فذاع صيته وتعرف على كبار المطربين والمقرئين، أمثال زكريا أحمد والشيخ محمود صبح، وبدأت حياة الشيخ في التحسن.
وفى منتصف الثلاثينيات كان الشيخ إمام قد تعرف على الشيخ زكريا أحمد عن طريق الشيخ درويش الحريري، فلزمه واستعان به الشيخ زكريا في حفظ الألحان الجديدة واكتشاف نقط الضعف بها، حيث كان زكريا أحمد ملولا، لا يحب الحفظ فاستمر معه إمام طويلا، وكان يحفظ ألحانه لأم كلثوم قبل أن تغنيها، وكان إمام يفاخر بهذا.
حتى إن ألحان زكريا أحمد لأم كلثوم بدأت تتسرب للناس قبل أن تغنيها أم كلثوم، مثل “أهل الهوى” و”أنا في انتظارك” و”آه من لقاك في أول يوم” و”الأولة في الغرام”، فقرر الشيخ زكريا الاستغناء عن الشيخ إمام.
كان لهذه الواقعة أثر في تحويل دفة حياة الشيخ إمام مرة أخرى عندما قرر تعلم العزف على العود، وبالفعل تعلم على يد كامل الحمصاني، وبدأ الشيخ إمام يفكر في التلحين حتى إنه ألف كلمات ولحنها وبدأ يبتعد عن قراءة القرآن وتحول لمغن واستبدل ملابسه الأزهرية بملابس مدنية.
عبقرية القمة عند صلاح جاهين
وقد تكون القمة ليست مانعة للعبقرية مثل صلاح جاهين ، الذي عاش حياته في حالة تجوال مستمر بين مرتفعات المرح ومنخفضات الاكتئاب، كونت شخصيته ذات ألوان طيف متعددة فكان شاعراً رقيقاً وفيلسوفاً عميقاً وإنساناً بسيطاً ورساماً للكاريكاتير وكاتباً للاستعراضات، رغم وجود جاهين علي قمة المجد، ومن عائلة ثرية وصحفي مهم ونجم ساطع بجوار جمال عبد الناصر ، حيث تسمح حساسيته الأدبية والفنية بالتقاط كل شاردة وواردة تصادفه ويكون بعد ذلك قادر على إعادة تنظيم ما سمعه وما رآه وأخرجه في أسلوب أدبي، من خلال ديوانه “رباعيات”
في بداية نوبة اكتئاب يعبر الشاعر عن إحساسه بقلة الحيلة وانعدام القدرة على الاختيار وذلك في عبارات حزينة يائسة:
عجبي عليك… عجبي عليك يا زمن
يابو البدع يامبكي عيني دماً
إزاي أنا أختار لروحي طريق
وأنا إللي داخل في الحياة مرغماً
ويتعمق شعوره بانعدام الحيلة (Helplessness) فينوح قائلا:
مرغم عليك يا صُبح مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليَّا ولا كانلي ميل
شايلني شيل دخلت في الحياه
وبكره ح أخرج منها شايلنَّي شيل
ويشعر بفقد السيطرة وكأنه دمية تتناوبها الأيادي بلا أدني اختيار:
سنوات وفايته عليَّا فوج بعد فوج
واحده خَدِتني ابن والثانيه زوج
والثالثة أب خدتني والرابعه إيه
إيه يعمل إللَّي بيحدفُه موج لموج؟
ويضاف إلى انعدام الحيلة شعور بالحيرة والتردد وفقد القدرة على اتخاذ القرار وكلها من أعراض الاكتئاب:
وأنا في الضلام… من غير شعاع يهتكه
أقف مكاني بخوف ولا أتركه
ولما ييجي النور وأشوف الدروب
أحتار زيادة… أيهم أسلكه؟
ثم تزداد الحيرة ويتسع نطاقها ويمتد إلى الملكوت كله وتثور تساؤلات وجودية لا تجد لها جوابا:
نظرت في الملكوت كتير وانشغلت
وبكل كلمةْ (ليه؟) و(عشانيه) سألت
أسأل سؤال…… الرد يرجع سؤال
وأخرج وحيرتي أشد مما دخلت.
الإمام الطيب عبقرية التسامح و الحزن النبيل
يبدو أن المهدي لن يكف عن هوايتة المفضلة في رصد كل ما تراه بصيرتة الثاقبة ،عن كواكب مصر وبالفعل كانت مفاجإة تحليل شخصية صاحب الفضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب صاحب الموقف الصارم من العدو الصهيوني ، فكتب بالحرف حين تطالع وجهه تلمح عينين واسعتين خاشعتين قانعتين راضيتين ناعستين ثاقبتين، مع مسحة حزن نبيل تعبر عنها تلك العينين مع قسمات الوجه، وطيبة وسماحة لا تخطئها العين، وهو كثير الصمت، ولكن إذا تحدث انهمرت كلماته قوية وهادئة وحازمة ومؤكدة وقليلة ومركزة ومهذبة وموجهة نحو الهدف مباشرة كم فعل في مواجهة الصهيانة زكما فعل في رفض فكرة القتل علي الهوية والدين وحرمة الدم .
يتميز بالهدوء الذي يحوي بداخله عالم مليئ بالحيوية الفكرية واليقظة الذهنية. ويتميز بالصمت الإيجابي الذي يستوعب مايدور حوله في يقظة وعمق ويختزن ما يريد اختزانه ليخرج وقت الحاجة فكرا عميقا ورأيا صائبا. ويتميز بتواضع جم في كبرياء هادئ ونبيل. يحبه ويحترمه كل من يتعامل معه ويتحدث عنه تلاميذه ومريدوه ومرؤسوه بإجلال وتوقير، ويصفونه حتى بينهم وبين أنفسهم بـ”فضيلة الإمام”. ينطبق عليه تماما لفظ الإمام الأكبر، كما ينطبق قبل ذلك على الشيخ عبد الحليم محمود والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والإمام الطيب يجمع محاسن هذين الإمامين الجليلين، ففيه هدوء وسماحة وطيبة وروحانية وصوفية الشيخ عبد الحليم محمود، وفيه قوة وصرامة وجدية وحزم الشيخ جاد الحق.
في قرية صغيرة نائية في صعيد مصر تسمى القرنة في محافظة الأقصر انطلقت ذات يوم صرخات مولود جديد في بيت عالم أزهري يدعى محمد أحمد الطيب في 6 يناير عام 1948 م، ولم يكن الأب ليذهب بخياله إلى أن هذا المولود الذي تحتويه لفافة متواضعة سيصبح في يوم من الأيام الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأنه سيكون إماما مميزا على الرغم من كونه الإمام الثامن والأربعين للأزهر الشريف، ربما كان قصارى حلمه أن يرى ابنه الذي أسماه أحمد على اسم جده خطيبا في مسجد القرية أو معلما للغة العربية والدين في أحد مدارسها، ولكن ما أن شب هذا المولود وأصبح طفلا يذهب إلى الكتاب كعادة أبناء القرى حتى أظهر نبوغا ملحوظا ومبكرا، وطموحا جعله يتنقل في مراحل التعليم بتفوق إلى أن التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، ويكون من أوائل خريجيها ويعين معيدا فيها ويحصل على الماجستير والدكتوراه، ثم تدفعه همته العالية التي تميز بها في كل مراحل حياته أن يتطلع إلى مزيد من العلم المختلف فسافر إلى فرنسا لرؤية هذا العالم الآخر ويغترف مما لديهم من علم وثقافة، ثم يعود بعد أن نضجت شخصيته الإنسانية وشخصيته العلمية ليفيض عطاءا في مواقع قيادية مهمة ومؤثرة ليصبح في النهاية الإمام الأكبر على رأس أهم مؤسسة علمية شرعية وأهم مرجعية إسلامية في العالم.
وعلى الرغم من طيبته وسماحته وهدوئه وتواضعه إلا أنه شديد الصلابة في الحق خاصة ما يمس حوزة الدين، فهو يقف كالطود الشامخ أمام أي محاولات لاستخدام الدين لأي أغراض مهما كانت الضغوط عليه، ويفعل ذلك بهدوء دون عنترية أو استعراضية وبأدب جم يفرض احترامه حتى على أشد مناوئيه.
وهو لا يحب الظهور الإعلامي أو الظهور عموما ولهذا تجده مقلا في أحاديثه رغم علمه الغزير والعميق، ويفضل العمل أكثر من الكلام، وخاصة العمل المؤسسي المنظم والمؤثر. زاهد متجرد لا تعنيه المناصب رغم أنه نال منها الكثير، فقد كانت المناصب تسعى إليه سعيا دون تطلع منه (تقلد منصب العمادة في أكثر من جامعة ثم منصب مفتي جمهورية مصر العربية ومنصب رئيس جامعة الأزهر وأخيرا منصب الإمام الأكبر شيخ الأزهر). نزعته الصوفية النقية السوية بادية في صفحة وجهه الصافية الهادئة الراضية.
ويلاحظ من مشوار حياته تقلده للعديد من المناصب القيادية الهامة والرفيعة وربما يرجع ذلك لمهارات قيادية اكتسبها منذ نشأته في أسرة عريقة تقود حركة صوفية وتمارس دورا اجتماعيا في الأقصر. ولم تقتصر حياة الطيب على التدريس والإفتاء فقط، بل قام خلال رحلته الماضية بتأليف عدد من الكتب، أبرزها “مباحث العلة والمعلول من كتاب المواقف”، “أصول نظرية العلم عند الأشعري”، “مفهوم الحركة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الماركسية”، “مباحث الوجود والماهية من كتاب المواقف”، “مدخل لدراسة المنطق القديم”، “بحوث في الثقافة الإسلامية بالاشتراك مع آخرين”، “تعليق على قسم الإلهيات من كتاب تهذيب الكلام للتفتازاني”، “الجانب النقدي في فلسفة أبي البركات البغدادي”.
عشية الزاهد المنقطع للعلم والمعرفة
ورغم تقلده العديد من المناصب مازال الدكتور أحمد الطيب يقيم في شقته بالقاهرة بمفرده تاركاً الأسرة في مسقط رأسه بالقرية، ويواظب على زيارتها لمدة ثلاثة أيام كل أسبوعين وأحيانا ثلاثة كي لا تنقطع صلته بجذوره وأهل قريته. وهو حين يعود إلى القرية تراه يرتدي الجلباب الصعيدي والكوفية الصعيدية ويجلس بين محبيه ومريديه وطالبي الحاجة منه في بساطة وهدوء وتواضع.
ويقيم نجلا الشيخ وهما المهندس محمود والابنة زينب بالأقصر، كما يتابع الشيخ بنفسه وبواسطة أبناء العائلة ساحة الطيب بالأقصر وهي ساحة مملوكة للعائلة، يجتمع فيها شيخ الأزهر بأهل قريته وأهالي القرى المجاورة، وتقدم فيها واجبات الضيافة الكاملة، ويمارس فيها الشيخ دوره كمحكم عرفي لحل الخلافات والنزاعات بين العائلات، كما يستقبل فيها ضيوفه من المصريين والعرب والأجانب، ويزوره فيها أحيانا بعض السائحين الأجانب المتوافدين على الأقصر.
وللشيخ وعائلته ساحة أخرى في القاهرة يمتلكها شقيقه الأكبر الشيخ محمد الطيب وهو شيخ طريقة صوفية وهذه الساحة تتوافر بها كافة مقومات الإقامة والضيافة للراغبين من أبناء القرية والقرى المجاورة، سواء مسلمون أو أقباط أو من أي مكان آخر في زيارة القاهرة وقضاء مصالحهم فيها، وتستقبلهم الساحة وتوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، كما توجد جمعية خيرية تتولى استضافة الفتيات اليتيمات وتربيتهن والتكفل بنفقاتهن حتى الزواج، واستقبال الحالات المرضية وتوفير العلاج لها، وكل أبناء الطيب يقومون بخدمة الزائرين والمقيمين في الساحة بالأقصر والقاهرة. وتقوم الجمعية تقوم بمهام أخرى منها سداد ديون الغارمات، وتقديم الخدمات لمن يطلبها، وحل الخلافات والنزاعات.
لشيخ الأزهر مواقف أخرى منها أنه لا يتقاضى راتبا عن منصبه كشيخ للأزهر، ويقول إنه يؤدي عمله في خدمة الإسلام، ولا يستحق عليه أجرا إلا من الله، كما تنازل عن الكثير من مخصصاته زهدا وتقشفا، وخصص الكثير من المعونات من الأزهر للمتضررين من السيول والنكبات، وبناء المستشفيات، وتعويض ضحايا الإرهاب، وقدم الكثير من رحلات الحج والعمرة لأقارب وذوي الضحايا.
وقد تعرض شيخ الأزهر لحملات هجوم من جهات متعددة فهاجمه العلمانيون لرغبتهم في إبعاد الأزهر عن دوره الإيجابي والفاعل في حياة الناس أو لرغبتهم في أن يقدم الأزهر وشيخه دينا معدلا يرضي أذواقهم ويناسب المزاج العصري العالمي، وهاجمه المتطرفون الإسلاميون لوقوفه ضد دعاوى التطرف والإرهاب، وضغط عليه السياسيون ليقف موقفا متوافقا مع توجهاتهم أو توقعاتهم، وهاجمه الإعلاميون في مناسبات عديدة للتأثير في مواقفه وتوجهاته، وقد صمد الشيخ أمام كل هذه الموجات، وحافظ على هدوئه واتزانه وأدبه الجم، ولم يخضع لأية مطالب تؤثر على التمسك بثوابت الدين ومبادئه، وكان مجددا في الإسلام بالضوابط الشرعية الصحيحة وليس بأهواء الناس وأطماعهم.