فن

“10 سنوات يناير”.. الفن ميدان والجرافيتي والكوميكس: كثير من الحصار وقليل من الأمل

يحتاج الإبداع دوما لمناخ مناسب كي ينمو و يزدهر، والفن ميدان، الجرافيتي، الكوميكس وألوان أخرى من الفنون نمت وازدهرت مع ثورة يناير، عشرات الرسوم غطت الجدران، فرق مسرحية و غنائية بدأت في عرض أعمالها في الميادين بدلا من المسارح المغلقة، مجلات للكوميكس ، معارض تشكيلية، رسومات للأطفال، أشعار و أفلام ترصد وتتأمل و تحلم ، باختصار بيئة ثقافية و فنية واعدة و مساحة كبيرة لحرية التعبير والإبداع الفني.

وفي رحلة البحث عن الأسباب والملابسات التي نتج عنها تعثر ومن ثم توقف معظم هذه الأنشطة التي أفرزت على مدى سنوات جيلا جديدا مميزا من المبدعين، و كيف يمكننا استرجاع هذه الحالة من التوهج  والزخم الفني، أحزنني و بشدة عدم رغبة البعض سواء من شاركوا في التأسيس ، أو بإبداعاتهم،  في استحضار هذه التجارب سواء تقييما أو تفنيدا لأسباب التراجع والخفوت، و كأنهم يخشون «النبش في الأحلام » ، وإلا كيف يمكن مثلا تفسير إنكار الصلة بفن الجرافيتي من قبل أحد أبرز نجومه، رغم أن رسوماته موثقة ضمن بعض المطبوعات التي  اهتمت برصد وتحليل إضافة لتوثيق «جدران الحرية ».

باختصار لم يعد السؤال لماذا تراجعت هذه التظاهرات الفنية، أو لعلها تعثرت؟، و ربما فشلت في الصمود قهرا لا اختيارا، ولكن المعضلة الآن تكمن في السر وراء عدم حماس  البعض أو إنكارهم للحديث عن زمن الأحلام ، هل فقدوا إيمانهم به ، أم لعله الإحباط الذي طال الأرواح قبل الأحلام .

شاعر العاميه زين العابدين فؤاد أحد مؤسسي فعالية «الفن ميدان» من جانبه يتفهم هذه الحاله من الإنكار لدي البعض خصوصا في ظل إحساسهم بأن هناك تنكيل و انتقام من ثورة يناير ومن شاركوا فيها، نظرا لأن هذه التظاهرة الثقافية ولدت من رحم الثورة  وكانت بمثابة  ثقافة جماهيرية حقيقية ومساحة استثنائية من الحرية عموما وليس فقط ما يتعلق بالابداع الفني، مشيرا لأنه إذا كان البعض أنكر، أو نسي أو تناسي ، فلا زال البعض الأخر قابض على الحلم يسعى ويجتهد ولا يمل يوما من استعادة حلم رؤية الميادين مرة أخرى ساحات للفن.

زين العابدين فؤاد
زين العابدين فؤاد

لا وقت للفن

الانكار  قهرا لا اختيارا لن يمحي من الذاكرة حالة الزخم الفني التي عاشتها الجماهير منذ انطلقت شرارة « الفن ميدان » في إبريل من العام 2011 وعلى مدى أربع سنوات شهدت الميادين في القاهرة وعدد كبير من المحافظات من الشمال وحتى الجنوب موجة جارفة من الإبداع خارج النسق الرسمي للثقافة المعتمدة من دوائر السلطة، خدمة ثقافة تغني وجدان الجمهور و تزيد معارفه و تفتح له آفاق المستقبل، نبتة صغيرة رواها المحبون بالصدق والإيمان الأمر الذي شجع عدد كبير من الأسماء اللامعة على المشاركة مثل الفنان علي الحجار الذي غني مرتين، كذلك غالية بن علي و فرق مسار إجباري، إسكندريلا، وسط البلد وغيرهم، إضافة لفعاليات أخري كثيرة منها معارض فنون تشكيلية وفوتوغرافية، عروض سينمائية، باختصار محاولة جادة لتمكين المواطن من حقه في تلقي خدمة ثقافية متميزة، لكن للأسف قتلت هذه التجربة الهامة و الفارقه في مهدها وبعد 4 سنوات، تحديدا في أكتوبر من العام 2014.

 ومنذ هذا التاريخ وحتى يومنا هذا لم يفلح القائمون على «الفن ميدان» في إعادته للساحة مرة أخرى رغم محاولاتهم الدؤوبة على حد توصيف شاعرنا زين العابدين فؤاد، إلا أنها للأسف باءت كلها بالفشل، وكأن هناك حرص علي طمس أحد أبرز ملامح أيام الحريه و الكرامه.

لكن ستبقي التجربه بكل أثارها و ما أضافته للبعض حاضرة في الأذهان والوجدان، وهو ما أكدت الفنانة الشابة شيرين حجازي التي شاركت في «الفن ميدان» من خلال عرض مسرحي بعنوان «لا وقت للفن» من إخراج ليلى سليمان، ورأت في الفن ميدان فرصة حقيقية لتجربة أداء حيه وصادقه ، لكن للأسف  أغلقت هذه النافذه وغيره من منصات كانت يوما متنفسا لمواهب شابة يقدمون من خلالها إبداعاتهم و يتعرف على موهبتهم جمهور حقيقي وليس نخبوي من المتابعين للحركة الفنية المعاصرة.

وهكذا كان الفن ميدان وكما أكدت حجازي متنفسا للجميع سواء صناع الأعمال الفنية في مواجهه مباشره مع الشارع، أو للجمهور نفسه الذي تعرف و لأول مره على خطاب ثقافي ومعرفي مختلف، بتوصيف أدق خطاب خارج الأطر الرسمية وبعيدا عن القنوات الشرعية الموجهة.

نفس الكلام أكده فنان تشكيلي طلب عدم ذكر اسمه مضيفا أن الفن ميدان و الجرافيتي و غيرها من الفنون التي التصقت بميادين وشوارع الثورة أكدت و بما لا يدع مجالا للشك أن التواصل مع الجماهير ثقافيا لا يحتاج إلا لمساحة من الحرية ، وهي نفسها «الحرية» السبب وراء عرقلة كل هذه الفعاليات حتى تتمكن الدولة من استعادة سيطرتها على الميادين و ضبط ايقاع الشوارع و لتذهب الثقافة و الفنون مجددا للحجرات المغلقة و الأطر الرسمية لإحكام قبضتها عليها و «فلترتها» وفقا للسائد و المتداول و كل ما يتماشي مع النسق الرسمي للثقافة المعتمدة من دوائر السلطة.

حصار

عرفت الشوارع المصريه فن الجرافيتي على استحياء قبل ثورة يناير، أو بتعبير  أدق لم يكن ذا طابع سياسي، مجرد رسومات أبرزها ما يتعلق بتهنئة الحجاج أومجموعة من وجوه أبرز نجوم الكرة، إلا أنه ومع انطلاق شرارة الثورة بات الجرافيتي لصيقا بها يرصد، يوثق ، يسخر، يحتج، يحاصر، يقاوم ،يحاصر مجددا، ينتشر، يستهدف  وهكذا حتى جاءت اللحظة التي مسحت فيها كل الجدران وأشهرها شارع محمد محمود  و أصبح من النادر أن نرى رسم جرافيتي خصوصا بعد تفعيل أحد مواد قانون العقوبات (المادة 361) والتي يعاقب علي أثرها بالحبس كل من خرب أو أتلف عمدا أموالا ثابته أو منقولة لا يمتلكها أو جعلها غير صالحة للاستعمال.

جرافيتي ثورة يناير
جرافيتي ثورة يناير

واذا كان الجرافيتي محاصر بسبب التضييق الأمني و قانون العقوبات فإن فن الكوميكس (القصص المصورة) نجح نسبيا في الإفلات من هذا الحصار وبات المنفذ الوحيد الآن ليس فقط للسخرية من الاحداث و لكن للتعليق عليها، صحيح يراه البعض لا يحمل قدرا من الإبداع ولكنه نجح في استلام الراية راصدا نبض الجماهير و لسان حالهم.

مر ة أخرى هل انحصرت الفنون التي ولدت من رحم الثورة فقط، أم أن المصير ذاته ما زال يلاحقها حتى الآن.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock