“الشعر مفتاح للأمان
والكلمة بتصحي الجبان
هتعود يا شاعر للكلام
وتقول كلام فيه التزام
ياالصمت أبلغ م الكلام “
هكذا وصف الشاعر الراحل “طاهر البرنبالي” دور الشعر وأهميته فى المجتمع ولم يكن الشعر – الملتزم – بعيدا عن الحراك الشعبى منذ أن بدأ فى عصرنا الحديث مع الثورة العرابية فتعرفنا منذ ذلك الحين علي مصطلح “شاعر الثورة ” وهو محمود سامى البارودى ” وخطيب الثورة “عبد الله النديم “
ثم جاءت ثورة 1919 ليعلو صوت “بيرم التونسى ” و”بديع خيرى ” وفى أعقاب ثورة يوليو كان “صلاح جاهين ” هو مغردها الأول
كما عرفت مصر شعراء الرفض والاحتجاج على تردي الأوضاع وسوء الإدارة وكان من أبرزهم “أحمد فؤاد نجم ” و” زين العبدين فؤاد ” ” وسمير عبد الباقى بالإضافة إلى أمل دنقل ونجيب سرور وغيرهم الكثير الذين ارتبطوا بالحراك الشعبى وعبروا عنه وكان الشعر الملتزم هو صوت الناس دائما.
عشر سنوات مرت على ثورة 25 يناير التى ألهمت الغالبية العظمى من شعراء مصر يتفاعلوا معها وينشدوا فيها وعنها أجمل قصائدهم أو يهدون لها ولشهدائها أهم أعمالهم … وكأن ميادين الثورة تمطر شعرا طازجًا .
لكن مع مرور الوقت كان صوت الشعر يخفت يوما بعد يوم … قطعًاهناك أسباب عديدة وراء ذلك لكن دعونا ننعش الذاكرة ونفتش من جديد فى تلك الأشعار التى غابت عن ذاكرة البعض .
تلك الأشعار التى ألهبت الجموع ورددها الملايين لأنها تمثلهم وتقول ما بداخلهم بلغة الشعر … تحولت الهتافات إلى قصائد والمطالب إلى أغنيات والإصرار إلى فنون …
يردده الثوار تحت ضباب قنابل الغاز ودوي الطلقات وصراخ الفتيات فى عمر الزهور وتوهج الشباب فى ذروة التمرد
التنبوء بالثورة
قبيل ثورة يناير 2011 امتلك بعض الشعراء القدرة على التنبوء وحذروا من عواقب استمرار الأوضاع ودقوا ناقوس الخطر للجميع وكان الراحل “سيد حجاب ” من بين هؤلاء حينما كتب قصيدة الطويلة “قبل الطوفان الجاى ” وحملها يتغني بها فى كل مكان محذرا من الطوفان .
” شعب قاوم وقام
أو ح تلاقوه
قامت قيامته.. وزام
وكنس عليك المقام
وح يستجاب لدعاه
.. وإلا انفجر
وان لم تبصوا له
بعين الاحترام
تستاهلوا
ميت مليون.. “حذار منتظر “
فى تلك القصيدة رصد “حجاب ” كافة الأوضاع المحلية والإقليمية التى تزيد الغضب وتشعل الثورة
ولم يكن حجاب وحده الذى حذر فقد شاركه الشاعر “فاروق جويدة ” نفس القلق وتلك النبوءة حين كتب :
” شعبك ضائع في الليل
يخشى أن ينام
في الجوع لا أحد ينام
في الخوف لا أحد ينام
…في الحزن لا أحد ينام
من لم يمت في السجن قهرًا
مات في صخب الزحام
حتى الصغار تشردّوا بين الأزقة “
ولم يكن “أحمد فؤاد نجم بعيدا عن تلك التنبؤات وهو الصارخ دوما فى وجه الأنظمة المتعاقبة وقد حذر حين قال فى قصيدة “كأنك مفيش”
يا فرحة قلوبنا رئيسنا ظريف “
فُكهي .. ابن نكتة ودمه خفيف
فـي عهدك سيادتك فَرَشنا الرصيف،
وآخر مُنانا الغُموس والرغيف
!! وكل أمَّا تُخنُق ندوَّر .. مفيش
الشعر جاء سريعا
مع انطلاق ثورة يناير كان الشعر الأسرع حضورا إلى الميادين وشاشات التلفزيون وأوراق الصحف وهذا أمر طبيعى جدا أن يكون الأسرع بين الأجناس الأدبية الأخرى مثل القصة والرواية والمسرحية التى تحتاج مزيد من الوقت لإنجازها
جاء الشعر سريعا إلى الميدان عبر استدعاء ما فى الذاكرة الجمعية من “شعر ثوري ” فكان “حداد وجاهين ونجم وحجاب وزين العابدين وبخيت وغيرهم فى صدارة المشهد بأعمالهم السابقة التى حفرت فى وجدان المصريين
وتسابق الشعراء فى التعبير عن الثورة وكانت قصيدة الفصحى حاضرة بقوة وإن كانت أقل سرعة فى الوصول
فنشر حسن طلب الجزء الأول من ثلاثية “إنجيل الثورة وقرآنها”، بعنوان “آية الميدان” في الفترة ما بين شهري يناير ومايو 2011. وجاء إهداء حسن طلب ديوانه إلى “أروح الشهداء.. أبطال ثورة الخامس والعشرين من يناير الذين قدموا انتمائهم إلى وطنهم على أي انتماء ديني أو طائفي ففاضت أرواحهم وهم يهتفون باسم مصر”
ونشر الشاعر حلمي سالم ديوانه “ارفع رأسك عالية” استهله بقصيدته “أغنية الميدان”، يقول فيها
“ارفع رأسك عالية، أنت المصريّ
الضارب في جذر الماضي، والعصريّ
ارفع رأسك عالية، أنت المصري
الصامت صبرا لا إذعانا
بل تطويلا للحبل الشانق كلّ بغيّ
لا جُرتَ على جارٍ، لا لوثت مياه النيل، ولا أنكرتَ نبيّ “
وعقب قيام الثورة أعاد الشاعر زين العابدين فؤاد نشر ديوانيه «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر» وديوان «وش مصر» وأصدر الشاعر الشاب تميم البرغوثي ديوانه العامي بعنوان «يا مصر هانت وبانت» وأعقبه كل من أحمد الحداد وأمين الحداد فأصدر كل منهم ديوانه. ومحمود الشاذلي أصدر ديوانه «خيمة في التحرير
قصائد الغضب
كبار الشعراء تفاعلوا مع الحدث الاستثنائى وكتبوا عشرات الأعمال التى انفعلت بالثورة ومن أشهر تلك الأعمال ما قدمه الراحل “عبد الرحمن الأبنودى ” فى الأيام الأولى من الثورة
” أتاريها حاجة بسيطة الثورة يا أخوانا
مين اللي شافها كده مين أول اللي بدأ
مش دول شاببنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم
ولبسنا توب الحداد وبعدنا أوي عنهم
هما اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة
ويصنفوا الخلق مين عانهم ومين خانهم “
كما تفاعل سيد حجاب بقصيدة من أروع ما كتب ورددها الملايين حين قال
“آن الأوان بقى نبقى أحرار بجدّ
وناس ولاد ناس بجدّ
وأولاد بلد جمالها مالهش حدّ
وجميلها على كل حدّ وولاد حلال لأغلى والد وجَدّ
خلاص بقى.. خلصنا م اللي استبدّ
ونظرنا بقى أقوى وأشد وأحَدّ
شفنا بعين الحلم والعلم الزمان اللي جَدّ “
كما قدم “فاروق جويدة ” و”محمد بغدادى “و “جمال بخيت ” و”إيمان بكرى ” وغيرهم أعمال مهمة وقصائد ألهبت حماس الثوار ورصدت ملامح الثورة
أكذوبة شاعر الثورة
فى تلك الأثناء كان للثورة التى تمكنت من إجبار رأس السلطة على التنحى الفضل الكبير على عدد من شباب الشعراء الذين وجدوا الحدث العظيم فرصة مواتية للتعبير عن أنفسهم وعن أحلامهم فى التواصل مع الجمهور ومزيد من الانتشار فقدم عدد كبير من الشباب أعمال مميزة منها ديوان “أيام الثورة.. 10 قصائد من ميدان التحرير» للشاعر الشاب أحمد عمار .
لكن الجدل الذى ثار حول لقب ” شاعر الثورة ” حمل أبعادا سياسية وأيديولوجية وتحول الأمر فى أحيان كثيرة إلى رغبة من البعض فى ركوب موجة الثورة بغض النظر عن مدى إيمانه بها أو بأهدافها ومدى صدق ما يكتبه عن الثوار الذين يجمعهم هدف واحد رغم تنوعهم الفكري والسياسي
وقد أطلق لقب “شاعر الثورة ” على عدد من شباب الشعراء من بينهم “هشام الجخ ” الذى لم يعرف له موقف مناويء لحكم مبارك قبل الثورة لكنه قدم قصيدة “جحا ” التى تعبر عن إيمانه بالثورة والثوار ثم عاد وقدم قصيدة “مشهد رأسى من ميدان التحرير ” خلال مسابقة أمير الشعراء بأبي ظبى لكن المتابع لمواقف “الجخ ” الذى اعتبره بعض شباب الميدان “شاعر للثورة ” يكتشف أنه سرعان ما انقلب ووجه انتقادات حادة للثوار عبر برامج عديدة فى التلفزيون المصري
النموذج الثاني الذى حمل لقب “شاعر الثورة ” كان “عبد الرحمن يوسف ” نجل الشيخ يوسف القرضاوى والذى كانت منصات ميدان التحرير هى بوابته الأهم لإلقاء أشعاره وكان يوسف أحد المقربين من جماعة الإخوان ولعب عناصرها دورا فى وصفه بهذا اللقب
كما أن الشاعر “مصطفى إبراهيم ” قد وصف بنفس اللقب من بعض جانب ثوار يناير خاصة بعد ديوانه الشهير ” مانيفستو” الذي اعتبره البعض مانيفيستو للثورة المصرية وقدم عدد الأغاني للمطرب “محمد محسن والفنان أحمد مكي”
والمؤكد أن الثورة لم يكن لها شاعر وحيد بل كانت تستوعب كل شعراء مصر بنفس الدرجة التى استوعبت كل التيارات السياسية والفكرية حول هدف واحد وشعار واحد – على الأقل فى أيامها الأولى قبل أن تخطو جماعة الإخوان نحو اختطافها وتنبت الفرقة والاختلاف بين صفوف الثوار –
غاب الحلم وبقيت القصيدة
سريعا ما غاب الحلم فى ضباب العنف وأدخنة التوتر وصار الفرقاء خصوم وانقسم الميدان إلى ميادين متناحرة بين شباب نقى خرج للميدان بحثا عن الحرية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية مؤمنا بما قاله الخال الأبنودى ” ارحلى يادولة العواجيز ” –العواجيز هنا تعني الأفكار القديمة البائسة المستهلكة –
وبين من يسعون لاختطاف كل شئ ليعيدون الوطن والمواطن لقرون سحيقة ويخبئون خناجر طائفيتهم بين ثيابهم وكان الفراق حتميا ووقف الشعر يبكى على الحلم الذى تبدد سريعا
صارت الثورة مجرد حلقة فى النضال المصري كالحلقات السابقة واللاحقة وأصبحت مكاسبها وخسائرها بين يدي التاريخ للحكم عليها … وتوارى شعرها وغاب كل ما كتب عنها .. لكنه لن يموت كطبيعة الإبداع الذى تستعيده الشعوب فى اللحظة المناسبة من مسرتها.