تقول حكمة التاريخ أن الثورات التي لا تسبقها ثورة ثقافية- لا تحقق أهدافها وتقع فريسة لأعدائها.. والثورة الثقافية لا تؤسس للوعي فحسب؛ بل تصل به إلى حالة التبصر كاملة الوضوح بفعل الكلمة وتأثير الصورة وتلاقح الأفكار.. لذلك فطنت العديد من الأنظمة السياسية الاستبدادية إلى خطورة السينما ودورها في الثورة الثقافية بالتحريض ومراكمة الغضب والطرق المتكرر على مواضع الألم، لاستنفار الطاقات والدعوة إلى التغيير.
ارتبطت السينما بالثورة منذ بداياتها، لأسباب عديدة تتعلق بالثورة كحدث هائل مزلزل يتضمن الدراما والحبكة والحركة بالإضافة إلى العديد من التفاصيل التي تغرى صناع السينما، وتفتح شهيتهم لصنع أعمال عظيمة تنال شهرة واسعة ويبقى ذكرها لأمد بعيد.. كما اعتبرت الأنظمة الثورية السينما أداة تأثير لا يستهان به في السيطرة على الجماهير وإدماجهم في الواقع الجديد ودحر الثورة المضادة وبقايا العهد السابق.. ظهرذلك جليا في ثورة أكتوبر 1917، في روسيا والتي عاصرت بدايات السينما واستفادة من وجود مخرجين موهوبين بحق على رأسهم “سيرجي إيزنشتين” الذي استطاع برؤيته السينمائية وموهبته الفريدة تقديم عدة أفلام تناولت أحداث الثورة والأسباب التي أدت إلى قيامها. على رأس هذه الأعمال يأتي فيلم “المدرعة بوتمكين” وفيلم “أكتوبر”.
مع تطور أدواتها أصبحت السينما أقوى أداة للتعبير عن آمال الشعوب وآلامها وأشواقها لصنع غد أفضل أو حاضر أقل بؤسا- بما لها من قدرة هائلة على تشكيل الوعي وتكوين الوجدان وتحفيز الجماهير لنيل حقوقها وتحقيق تطلعاتها. وهنا لا بد أن نطرح سؤالا وهو أي الأعمال السينمائية أحق بأن نطلق عليها سينما الثورة.. هل هي الأعمال السابقة عليها أم التالية لها؟.
يذهب كثير من النقاد إلى أن أفلام الثورة ليست هي تلك الأفلام التي تنتج عقب الثورة محاولة رصد وقائعها وأحداثها في محاولات قل ما تصادف توفيقا؛ للإحاطة بتفاصيل الحدث؛ دونما مقدرة حقيقية على تمحيص اللحظة، مع غض الطرف عن أن”المعاصرة حجاب” كما يقولون، وأن الأمر يقتضي فاصلا زمنيا مناسبا حتى تتضح الرؤية وتكتمل الصورة. نقصد هنا تحديدا السينما الروائية المدفوعة إلى ذلك دفعا لأسباب عديدة؛ محاولةَ استلهام الثورة كحدث كبير له جاذبيته؛ فتقع في منافسة غيرعادلة مع ثلاثة منافسين.. الأول هو: الواقع الثوري المتسارع الذي لا يهدأ ويجذب الناس للمشاركة ومتابعة الحدث على الأرض، والثاني يتمثل في التغطية الإعلامية اليومية المتلاحقة للأحداث في المحطات التليفزيونية، والثالث هو السينما التسجيلية وهي الأقدر والأكثر ملاءمة للتعاطي مع الحدث الثوري.. لذلك يرى كثير من النقاد أن أفلام الثورة، هي تلك الأفلام التي مهدت الطريق نحو التغيير من خلال كشف مساوئ النظام السياسي وفساده وفضح مواقفه وتوجهاته وانحيازاته التي عبثت بمقدرات الوطن، وأنهكت الشعب وألقت به في دوامة لا تنتهي من الأزمات لا لشيء إلا البقاء في السلطة والتمتع بالامتيازات ونهب ثروات الوطن.
مهدت السينما المصيرية لثورة يناير من خلال العديد من الأعمال التي تناولت ثلاثة محاور أساسية هي:- فساد وانحراف وتجبر رجال الحكم وأساليبه.. خاصة بعض رجال الأجهزة الأمنية في عهد الرئيس مبارك، وفساد رجال الأعمال المقربين من النظام، فشل النظام في التصدي للأزمات التي تعصف بالمواطنين؛ وتستهدف الطبقات الفقيرة والمهمشة وهم الذين يشكلون الغالبية العظمى من الشعب.
قبل ذلك كانت السينما المصرية قد دخلت في نفق مظلم لقرابة العقد.. لم تقدم خلاله إلا أفلاما رديئة وصل مستوى بعضها إلى الانحطاط.. باستثناء محاولات قليلة تمثلت في أعمال جماعة السينما الجديدة التي حوربت بشدة بتوجيه مباشر من نظام الرئيس السادات، بالإضافة إلى بعض المحاولات الفردية الجادة التي قام بها كبار المخرجين مثل بركات وأبوسيف وشاهين وغيرهم.
مع بداية عهد الرئيس مبارك توفرت الظروف لعدد المخرجين الذين انتموا إلى الحركة الطلابية في السبعينيات من ذوي التوجهات اليسارية، من أصحاب الرؤى والمواقف المنحازة.. على رأسهم المخرج عاطف الطيب الذي ألمح في فيلمه الأهم “سواق الأتوبيس” إلى عنصرين هامين في علاقة النظام بالشعب.. العنصر الأول هو تخلي النظام بعد “كامب ديفيد”عن من خدموا الوطن بإخلاص وحاربوا من أجله، وتركهم فريسة لأوضاع معيشية صعبة، ومعاناة بالغة. أما العنصر الثاني فيتعلق بمسؤولية النظام بسبب انحيازاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن انهيار المجتمع وصعود الطبقة الطفيلية وفرض أسلوبها على الحياة في مصر.
استمر “الطيب” في هذا الاتجاه مؤكدا على ضلوع السلطة من خلال ممارساتها غير الديمقراطية في إحداث كثير من الأزمات، واستغلالها بطرق عديدة للتغطية على جوانب الفشل والتردي الهائلة في كافة مناحي الحياة.. وظهر ذلك في أعمال مثل”البريء” و”الحب فوق هضبة الهرم” و”أبناء وقتلة” و” كتيبة الإعدام” و” الهروب” و”ضد الحكومة” وغيرها.
https://www.youtube.com/watch?v=7hhTJFGhyTE
أدرك هذا الجيل من السينمائيين مبكرا أن نظام مبارك ليس إلا امتدادا أكثر سوءا لنظام سلفه، ومن ثم فقد استلهموا روح الثورة في أعمالهم فكان الاهتمام بالمضمون دون الشكل، فالمطلوب هو التأثير وليس الإبهار كما في بعض أعمال محمد خان “عودة مواطن” و “زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا” و”العوامة 70″ لخيري بشارة، و”الصعاليك” لداودعبد السيد وغيرها من الأعمال.
ورغم أن هذه الأعمال قد تمت إجازتها من جانب الأجهزة المعنية بعد محاولات عديدة لرفضها وإجهاضها وتعطيلها بكل الوسائل.. إلا أن النظام تعامل معها بعد ذلك بمزيد من حملات التشويه في الصحف والمجلات لدرجة وصلت إلى الاتهامات المباشرة بالخيانة وتشويه سمعة مصر والحط من قدرها بين الأمم.. ووصل الأمر إلى إطلاق وصف “مخرجو البلاعات والصراصير” على أصحاب تلك الأعمال.. وصولا إلى استخدام بعض السينمائيين المدجنين عديمي الموهبة في إصدار بيان يتهم “عاطف الطيب” وأسماء بعينها بالخيانة لما يقدمونه من أعمال تكشف عورات النظام.
استمر الطَّرْقُ السينمائي على رأس نظام مبارك الذي اعتمد سياسة التنفيس من خلال إتاحة هامش محدود للتعبير عن الرأي بغية تجنب انفجار الأوضاع بشكل مفاجئ.. لكن تقديرالنظام للأمر لم يكن دقيقا.. إذ أحدثت السينما وغيرها من فنون الدراما حالة من تراكم الوعي لدى قطاع واسع من المصريين.. ومع بداية الألفية بدأت معدلات الطَّرْقِ بالتسارع من خلال أعمال مثل “أرض الخوف” الذي تضمن اتهاما صريحا لنظام مبارك بغض الطرف عن إدخال كميات كبيرة من مخدر الكوكايين إلى البلاد، سبقت الإشارة إلى ذلك في فيلم “الإمبراطور”. كما أشارت أصابع الاتهام مجددا إلى النظام رامية إلى أن كثيرا من مواقفه الخارجية قد ساهمت بشكل كبير في شق الصف العربي وإضعافه والوصول به إلى الاقتتال كما في فيلم “العاصفة”.
وعن عشوائية اختيار المسؤولين، أو اختيارهم على أسس لاعلاقة لها بالكفاءة والنزاهة أشارت السينما بأصابع الاتهام مجددا إلى النظام في عملين هما “معالي الوزير”2002،و”احكي يا شهرزاد”2009، كما استمر التأكيد على فساد وانحراف وتجبر بعض رجال الأجهزة الأمنية في “تيتو”2004،و”أبو علي” 2005، و”عمارة يعقوبيان” 2006، و”واحد من الناس” و”هي فوضى”2007، و”خارج على القانون” 2007.
مع استمرار تناول الجريمة والانحراف كظواهر ترتبط بالفقر وتدني مستوى المعيشة واستغلال المهمشين في أعمال غيرمشروعة من قبل متنفذين، كما في “دم الغزال” 2005، و”حين ميسرة” 2007.. وقبل الثورة بعام تقريبا كان “عسل أسود” بأغنيته الشهيرة” بالورقة والقلم” تجسيدا للانهيار الذي طال كل جوانب المجتمع المصري مخلفا مزيدا من المشكلات التي أصبحت تفترس المصريين بلا رحمة دون أدنى محاولة من جانب النظام المتكلس لطرح الحلول أو البدائل.. ما أقنع الكثيرين أن الوضع صار على حافة الانفجار.. برغم القبضة الأمنية الغاشمة التي كان يحتمي خلفها مبارك ورجال حكمة.
مع مرور السنوات تخفت تلك الشعلة التي توهجت في يوم ما بأقوى ما يكون التوهج.. ومع هذا الخفوت تتراجع الحقائق وتنمحي التفاصيل.. هنا يبرز دور الفن كحافظ أمين لذاكرة الوطن.. فيبدأ الفنان في البحث عن سبل إبداعه وسط هذا الركام مستخرجا لنا جوهره مفصحا عن مكنون الثورة و بواعثها في روح الوطن ونبض الثوار.