فن

“زمن هرمجدون”.. العمق الفني في خدمة “بروباجندا” عتيقة!

يشير عنوان الفيلم إلى أغنية “Armagideon Time” لفريق “”Clash والتي انطلقت للمرة الأولى عام 1979، كما يشير أيضا إلى سؤال طرحه المذيع التلفزيوني جيم باكر في عام 1979، على المرشح الرئاسي آنذاك رونالد ريغان، وجاء السؤال كالآتي: “هل شعرت يوما أننا قد نكون الجيل الذي يرى هرمجدون؟”

أما كلمات الأغنية الشهيرة؛ فجاءت على النحو التالي: ابق في الجوار ولا تتلاعب، هذه البلدة القديمة وكل شيء، يبدو أنني يجب أن أسافر، الكثير من الناس لن يحصلوا على عشاء الليلة، الكثير من الناس لن يحصلوا على عدالة الليلة، المعركة أصبحت أكثر سخونة، في هذا الإيقاع، زمن هرمجدون.. الكثير من الناس يركضون ويختبئون الليلة، الكثير من الناس لن يحصلوا على عدالة الليلة، تذكر أن تركلها، لن يرشدك أحد، في زمن هرمجدون.

من المعروف أن هرمجدون هو اسم المعركة التي سيشهدها آخر الزمان بين قوى الشر العالمية، والأخيار.. وقد تصاعد الحديث عنها عقب أزمة الصواريخ الكوبية خريف 1962، زمن الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي.

يصحبنا المخرج والكاتب الأمريكي جيمس جراي، إلى عالم طفولته المضطرب في بداية عقد الثمانينات.. من خلال تفاصيل كثيرة عن أسرته اليهودية المنتمية للطبقة الوسطى الليبرالية في كوينز بنيويورك، وعن جده لأمه هارون رابين وفيتز.. وولعه بالرسم الذي جعله يعيش طوال الوقت في حلم أن يكون ذات يوم فنانا شهيرا.

كما يرصد جيمس جراي بعمق بالغ تلك الآمال المخذولة والأحلام الضائعة في “أمريكا مختلفة وعادلة” تأكيدا للمعنى الوارد في الأغنية “الكثير من الناس لن يحصلوا على عدالة الليلة”. تتابع العائلة حملة ريغان الانتخابية على شاشة التلفزيون.. يظهر القلق على الوجوه.. ما يُذكّر الجد بوقائع مؤلمة عاشها صغيرا وشابا بعد وصوله إلى أرض الأحلام قادما من إنجلترا.. “لا نريد مزيدا من اليهود” تلك العبارة التي سمعها هارون كثيرا في الثلاثينات، جعلته يرفض العنصرية التي صبغت المجتمع الأمريكي بكافة أشكالها، وهو ما جعله يطلب من حفيده، الدفاع عن زملائه الملونين في مواجهة المتنمرين.

لا ينسى هارون بالطبع قصة ذبح جديه الأوكرانيين في الفترة التي شهدت أحداث عنف استهدفت اليهود.. في تكرار ممل لهذه الحكايات التي تشبه الأساطير، في حين يطالب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة – العالم أجمع بغض الطرف عن الجرائم الوحشية التي تمارسها قوات الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني ليل نهار على امتداد سبعة عقود ونصف.

تلك البروباجندا المقيتة التي تخفت حينا وتزعق حينا لكنها لا تنتهي أبدا في هوليود.. لكن جيمس جراي يحاول أن يكون أمينا عندما يفضح نفاق أسرته التي يشعر أفرادها بالخوف لمجرد أن مراهق أسود يتسكع في منطقتهم، كذلك وهم يتبادلون الإشارة إلى طعام وثقافة الأعراق الأخرى بعبارات مهينة.. لكن المتسكع الأسود لم ينج من المخرج /الكاتب جراي الذي حرص على أن تكون شخصية جوني بلا أبعاد، “مُشّفَّرة” تقريبا، لا تعمل إلا كأداة كشف لمعاناة بول، ورصد تحولاته النفسية.

هرمجدون

تنطوي العلاقة بين الجد والحفيد على كثير من التفاصيل، وهي بلا شك أروع ما في الفيلم، بأداء بالغ الروعة من العملاق أنثوني هوبكنز، وأداء لا يقل جمالا من الصبي ريبيتا في دور بول.. والحوار بين الشخصيتين ينطوي على أبعاد نفسية تكشف عن محاولات الخلاص من العقد المزمنة الناجمة عن الشعور بالاضطهاد التي يعاني منها الجد، ويحاول أن يُعلّم حفيده الأثير كيفية تجاوزها، بالتحول إلى الفعل الإيجابي في مواجهة سلوك الاضطهاد، وإن كان غير موجها لشخصه.

في اليوم الأول من الدراسة بالصف السادس في مدرسة عامة – يقع بول غراف في المشاكل بسبب رسمه لمعلمه بشكل ساخر.. يعاقب معه زميله الأسود جوني ديفيس المُستبقى في نفس الصف للعام الثاني بسبب سلوكه وتمرده وعدم طاعته لأوامر معلمه السيد تركل توب الذي لا يخفي عنصريته في التعامل مع الطالب.

تنشأ الصداقة بين الطفلين الحالمين المتمردين على واقعهما.. بول الذي لا يرى قبولا من أسرته الصغيرة لانشغاله تماما بالفن الذي ترى الأسرة -باستثناء الجد الداعم- أنه لا يجب أن يتجاوز حدود الهواية.. وجوني الذي يعاني شظف العيش مع جدته المسنة المريضة بالخَرَف، لكنه يحلم بالوصول إلى وكالة ناسا والعمل بها وارتياد الفضاء.

في الرحلة إلى متحف غوغنهايم، يعاود بول حلم الشهرة الفنية ويستغرق فيه تماما، وهو يقف متأملا لإحدى اللوحات؛ ليقرر بعد ذلك مع صديقه؛ الانفصال عن المجموعة والتجول في المدينة، والعودة بواسطة المترو.. الذي يشهد موقفا فارقا، عندما يطلب شاب أسود من جوني، عدم التمادي في أحلام اليقظة بخصوص الوصول إلى ناسا؛ لأن هذا المجتمع يسحق أحلامك بكل قسوة بسبب لون بشرتك فقط.

تتصاعد وتيرة مشاكل بول وجوني في المدرسة؛ حتى تصل إلى ذروتها بضبطهما يدخنان الماريجوانا في حمام المدرسة، ما يُعرّض بول للجلد على يد والده الذي يقرر مع والدته نقله -بمساعدة مالية من الجد- للدراسة في المدرسة الخاصة التي يدرس بها أخوه.

في المدرسة الخاصة “فورست مانور” الإعدادية، لا يستغرق الأمر سوى لحظة، ليعترف بول أن لقبه غراف قد تغير من الاسم اليهودي جريزرشتاين.. أمام السيد فريد ترامب المتبرع الكبير، الذي ستلقي ابنته ماريان ترامب خطابا تحفيزيا مفعما بالحماس، يتفاعل معه معظم الطلاب المتأثرين بالدعاية لرئاسة رونالد ريغان.

يمثل موت الجد تحولا مهما في الأحداث؛ يكشف عن جوانب الامتنان التي يكنها الأب إيرفينغ جراف للرجل الذي تجاوز عن انتمائه الاجتماعي المتواضع، كونه ابنا لـ “سباك” وكيف أنه رحّب به زوجا لابنته الوحيدة؛ رغم سخرية أفراد الأسرة من إيرفينغ.. أما المشهد الأهم في الفيلم فيأتي مع اقتراب النهاية، عندما ينقذ الأب ابنه من مصير بائس، جراء مغامرة فاشلة، ويخبره أنه لن يعاقبه على تلك الفعلة النكراء، بل سيسامحه وسيقف إلى جانبه.. بعد أن جعلت الأقدار صنيعا بسيطا فعله الأب في الماضي- سببا في نجاة بول من الضياع.

“زمن هرمجدون” ضمن ترشيحات أوسكار لهذا العام.. والفيلم يحمل كثيرا من مقومات الفوز من تصوير وإضاءة بالغي الروعة للفرنسي من أصل إيراني داريوس خوندجي والموسيقى لكريستوفر سبيلمان والأزياء مادلين ويكس، والإخراج الفني لمارك بنصروف، وبقية عناصر العمل التي حملت المشاهد إلى العام 1980، بصدق واقتدار.

“زمن هرمجدون” هو أكثر أفلام المخرج / الكاتب جيمس جراي نضجا، وهو من أصدق وأعمق أعمال السيرة الذاتية في السينما الأمريكية، لكونه صادق في حميميته، وكشفه لأبعاد شخصية الكاتب في طفولته؛ برغم الدعاية اليهودية المبطنة في تفاصيل الفيلم، إلا أنه من حيث القيمة الفنية لا يمكن تجاهله، مع ذلك الأداء المذهل لجميع أبطال العمل بلا استثناء.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock