من العبارات التي لا أسأم من ترديدها هي أنه لا يوجد أمل في التوافق على مسار وطني مصري للتقدم والتجدد الحضاري -إذا عجز الناس عموما وسلطة الحكم في مصر خصوصا الآن أو في المستقبل -على إدراك الفرق بين محمد علي باشا وحفيده توفيق، أو بين سعد زغلول وعدلي يكن ، وبين النحاس وأمين عثمان ،أو بين عبد الناصر والسادات ،و بين بنائين كبار مثل طلعت حرب ومقاول هدم مثل عاطف عبيد .
فإذا ساويت بين هذه الشخصيات رغم الانتماء الواحد للأسرة العلوية في الحالة الأولي، أو رغم الاشتراك معا في وفد ثورة 1919 للتفاوض في الحالة الثانية ، أو الانضواء تحت عضوية حزب الوفد في الحالة الثالثة ، أو الاشتراك معا في مجلس قيادة ثورة يوليو في الحالة الرابعة ، أو الاشتغال في مجال الاقتصاد الوطني بناءا وتشييدا لدي البعض وبيعا وهدما لدي البعض الآخر فإنك تشارك مباشرة في عملية محو الذاكرة الوطنية وتشويهها :
فتساوي بين الوطنيين والمفرطين، وبين الساعين لاستقلال مصر والساعين لإعادتها تحت هيمنة الاستعمار القديم أو الجديد، أو بين من راكموا وضاعفوا الثروة الوطنية ومن قاموا بتسهيل نهب هذه الثروة للطبقة الطفيلية المهيمنة .
مصر لن تتقدم مالم توقف دوران تلك الآلة الجهنمية والعملية المخططة و المدبرة للتشويش علي تاريخها ونضال شعبها وثوابت أمنها القومي وهم ثلاثة ركائز بلورتهم الصيغة العبقرية التي أدار بها الشعب المصري على مدي ألاف السنين التفاعلات : بين عبقرية المكان ومحن الزمن لأقدم دولة في التاريخ .
هذه الآلة التي تعمل بكل طاقتها منذ محادثات كيسنجر- السادات ١٩٧٣ والتي تهيمن حتي الآن على التاريخين المصري والعربي تعمدت أن تخلط الأمور فجعلت كفاح الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني تهورا وغباءا لولاه لكانت نعمة التقدم الذي وصلوا إليه قد أدركتنا ، وأصبحت قيادة حركة التحرر الوطني ومساعدة العالم العربي من الجزائر لليمن وإفريقيا من ناميبيا إلي إريتريا سفها وحبا فارغا في الزعامة والقيادة .
و تحولت معاداة إسرائيل خطيئة تاريخية جلبت علينا نقمة الغرب، وبات الفلسطينيون أصحاب أعدل قضية في العالم وأكثر شعوبه تضحية مجرد شعب باع أرضه وتحول لاجئوه لا غنياء في المنافي . !!
صار التصنيع الثقيل قفزة إلى الفراغ دعنا نصفيه فما جدواه في بلد زراعي ؟! وصار استيراد قمح كل رغيف نأكله حصافة اقتصادية فلماذا ننتج مانستطيع استيراده بسعر أقل؟ !!
وبقدرة قادر صار العهد الملكي عصرا ذهبيا وهو العهد الذي كانت ثلاثة أرباع ثروته الزراعية في يد حفنة من الأسرة المالكة والأجانب والمتمصرين وقليل من الإقطاعيين المصريين ومعظم شعبة يعاني من الحفاء والأمية ونقص الخدمات الصحية وحصدت أرواح مئات الألوف من أبنائه بشكل دوري أوبئة الطاعون و الملاريا و الكوليرا ناهيك عن البلهارسيا المستوطنة .
الأمر ليس ترفا نظريا فرئيس الوزراء المصري الحالي قدم العهد الملكي -بمساوئه الموجودة نصا في أي مرجع تاريخي منصف- علي أنه أحسن فترة عاشتها مصر ولهذا ليس مستغربا أن تقود-حكومته عملية تجميد الصناعة الوطنية وتصفية مصانع القطاع العام وأن تجعل الإنفاق علي مشروعات البنية الأساسية وفي مناطق غير مأهولة مقدما على الإنفاق على مشروعات الإنتاج وأن تتوسع في الاستدانة حتي أصبح الاقتصاد المصري مرهونا لإرادة الدائنين من الدول الرأسمالية الكبري أو الموسسات الدولية التابعة لواشنطن كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي .
فالذاكرة الوطنية المشوهة والمليئة بالخرافات أصبحت المرجعية المعتمدة للسياسات العامة التي تهدر وتبدد موارد الوطن ومقدراته
الأمر ليس ترفا نظريا أيضا إذا كان هناك أمل في بلورة نقاش وطني عام ضاغط قادر ديمقراطيا على تعديل السياسات العامة ووقف انحرافها عن بوصلة المصالح الوطنية فمثل هكذا ضغط أو عمل يحتاج إلى توافق وطني وهو توافق تعجز جميع تيارات الوطنية المصرية عن إنجازه لأنها تدور في الألة الجهنمية التي شوهت الذاكرة الوطنية فمصر انتهت عند الوفديين بسقوط الملكية وقيام[ انقلاب ] ٢٣ يوليو !وأزمة مارس 1954أصبحت هي النقطة الفاصلة في التاريخ المصري المعاصر عند كثير من الشيوعيين! وسعد زغلول ركب الموجة الثورية والنحاس انتهي في ٤ فبراير1942 عند الناصريين . أما تيارالإسلام السياسي فإدراكهم المعرفي – إلا ما رحم ربي – مبني أساسا على معاداة الدولة الوطنية الحديثة بكل تاريخها وفي أصلها وجذرها وماهي عندهم إلا صنيعة الآخر المسيحي الغربي وعملائه من القادة المحليين على انقاض [ جنة ]الخلافة .
الخبرة الإنسانية تقول إنه لم يتقدم شعب ولم يتقدم أي حوار وطني في بلد ما إلا عبر توافق علي الوقائع التاريخية الصلبة لماضيه إذ بدونها يصبح النقاش العام حوار طرشان بين قبائل متحاربة علي الماء و الكلا وليس بين مكونات مجتمع واحد يقوم على العقد الاجتماعي وتقسيم العمل ويمتلك إرادة جماعية لعبور برزخ التخلف والالتحاق بركب التحديث .
دعونا نختلف على الحاضر كما نشاء ولكن ونحن نعرف ماضينا وتاريخنا الذي يشكل هويتنا ويحدد لنا جدول أعمالنا في المستقبل ..دعونا نضع أمام أجيال جديدة يحارب بعضهم بعضا على مواقع التواصل الاجتماعي على تاريخ لم يحدث ووقائع لم تتم دعونا نطالب بلجنة وطنية تضع مرجعا وطنيا عاما يضم وقائع التاريخ الصلبة ويترك تفسير هذه الوقائع يمينا ويسارا حرا حرية تامة .
إذ لا يمكن مثلا أن يظل الناس يتعاملون مع الحقيقة التاريخية للسد العالي وهي ((أنه الإنجاز الهندسي للشعب المصري الذي حمي الوجود المصري من عشرات مواسم الجفاف والفيضان واعتبر أهم مشروع في القرن العشرين )) مع ترهات وأكاذيب تري أنه المشروع الذي خرب مصر
وحتي لا يكون مصير دعوة كهذه. هو مصير لجان حكومية انتهت بالتجميد وبحجب وبدفن ما سجلته من حقائق ( لجنة حرب ٦٧ ولجنة حرب أكتوبر ولجنة ثورة ٢٥ يناير ) وحتي لا تكون نتائجها تحت سطوة انحيازات السلطة السياسية الطبقية أو المعرفية أو انحيازات المعارضة المحتربة مع بعضها بعضا ،
فلماذا لا تتولى هيئة مجتمع مدني متخصصة مثل [الجمعية التاريخية المصرية] دعوة كهذه ويكون المرجع المنشود نتيجة مؤتمر بحثي كبير تدعو إليه أجيال مدرسة التاريخ المصري الحديث بدفعاتها المتعاقبة في الجامعات المصرية والباحثين الأجانب الثقاة المتخصصين في التاريخ المصري الحديث إن أسماء مثل الدكاترة زكريا الشلق، وصابر عرب، وعبد الوهاب أبو بكر، و لطيفة سالم، وعماد أبو غازي، ومحمد عفيفي، وجمال أبوشقرة، وخالد فهمي وتيموثي ميتشيل، وفرجينيا دينيلسون والمئات غيرهم .
ونحن لا نبدأ من فراغ فهناك تراكم معرفي ومحاولات جادة يمكن الإفادة منها والبناء عليها أذكر هنا محاولة واحدة كمجرد مثال لا يغمط حق محاولات أخري جادة أشرف عليها د يونان لبيب رزق عندما كان مقررا للجنة التاريخ في المجلس الأعلى للثقافة وصدر في عام ٢٠٠٩ تحت اسم {المرجع في تاريخ مصر الحديث والمعاصر }.
دعونا نمارس حق الاختلاف بأقصي ما يمكننا -فهي الطريقة الوحيدة المجربة في التاريخ الإنساني للتقدم – ولكن على وقائع تاريخ حقيقية وليس على أساطير وأكاذيب فرضتها طبقة مسيطرة مستعدة للتحالف مع أي طرف في الخارج أو الداخل .
دعونا نفعل كما تفعل كل الشعوب الأخري من الشرق والغرب من اليابان إلي بريطانيا التي تخلد بطولاتها ونضال شعبها وشهدائها و لا تهيل التراب على تضحيات أبناءها العظام وتضعهم – بجحود -في مرتبة واحدة مع من خانوها أو نهبوها.