رؤى

الكامل محمد.. بطولة في زمن التخاذل

كما عرف تاريخ دولة بني أيوب حكاما تخلّوا عن أراضي الأمة بما فيها القدس، عرف أيضا حكاما آخرين رفضوا التنازل أو الخضوع للغزاة وأصروا على الاستمرار في المقاومة والصمود حتى نيل النصر أو الشهادة.

وفي مقدمة هؤلاء الحكام من بني أيوب الملك الكامل محمد بن غازي بن محمد بن أيوب صاحب “ميافارقين” وهي إحدى مدن الجزيرة الفراتية، والذي تولى حكم المدينة عقب وفاة والده المظفر غازي عام ٦٤٥، للهجرة وكان محبوبا من أهل المدينة لكونه عادلا وأديبا فاضلا على حد تعبير المؤرخ بدر الدين العيني.

شهد الكامل هجوم المغول الأول على مدينته في عهد أبيه عام ٦٤٢هـ، وشاهد والده وهو يُحصّن المدينة ضد محاولاتهم فرض حصار عليها، وشهد كيف عاث المغول فسادا في نواحيها حين لم يتمكنوا من الاستيلاء عليها.

تكرر هجوم المغول على المدينة بعد أن تمكن قائدهم هولاكو من السيطرة على بغداد عاصمة خلافة بني العباس عام ٦٥٦ هـ، وبعد أن بدأ زحفه نحو بلاد الشام التي كانت في حالة من التمزق بسبب النزاع بين أمراء البيت الأيوبي.

كان هذا التمزق تحديدا إضافة إلى الخوف من المغول وخشية الحكام من أمثال الناصر يوسف صاحب بلاد الشام، وبدر الدين صاحب الموصل، وغيرهم أن يلاقوا نفس مصير الخليفة العباسي المستعصم الذي قُتل على يد هولاكو، فسارعوا إلى محاولة استرضاء هولاكو وبعثوا إليه بالهدايا، بل ذهب بعضهم إلى حد وضع جنوده في خدمة المغول!!

إلا أن الكامل محمد رفض هذا الذل الذي ذهب إليه بنو قومه من حكام بني أيوب، وواجه الرسول الذي بعثه إليه هولاكو بشكل حاسم وقال له “ينبغي ألا يضرب الأمير في حديد بارد، ولا يتوقع الشيء المستحيل، إذ لا يُوثـق بوعدكم، وإنني لن انخدع بكلامكم المعسول”.

وتشير الباحثة نهى حميد في دراسة مقدمة إلى قسم التاريخ في جامعة دمشق إلى أن الكامل أكد للرسول أنه لن يخشى جيش المغول وسيضرب بالسيف مادام حيا.

توجه الكامل بعدها إلى كل من أهل مدينته مطالبا إياهم بالصمود في وجه العدوان القادم على مدينتهم وتوجه في الوقت ذاته برسائل إلى الأمراء؛ ليحثهم على الجهاد ضد العدو إلا أنه لم يجد من الأمراء سوى الخذلان.

في الوقت ذاته بدأ المغول بقيادة أميرهم “يشموت” بفرض حصار على المدينة إلا أن الكامل خرج لقتالهم على رأس جيشه وبرز من هذا الجيش فرسان من أمثال: سيف الدين لـوكبلي وعنبر الحبشي الذين قاتلوا ببسالة وأنزلوا خسائر فادحة في صفوف المغول.

كما تمكن فرسان “ميافارقين” من قتل الفارس المغولي “ناوري” المعروف بين بني قومه بشجاعته الفائقة، الأمر الذي أثّر في معنويات الغزاة.

ظلت “ميافارقين” صامدة لمدة عام كامل وأهلها صامدون يستبسلون في القتال دون أي تراجع ومع تساقط الأمطار والثلوج اضطر “يشموت” لتخفيف الحصار والرحيل بقسم من الجيش إلا أنه أبقى ٣٠٠٠ مقاتل ليمنعوا الكامل وأهل المدينة من الخروج من بواباتها.

ومع حلول العام الثاني للحصار قَّلت الأقوات في البلد، ووقع الوباء في أهله كما يذكر المؤرخون وعانى أهل المدينة من مجاعة رهيبة يسرت للمغول دخول المدينة، ناهيك عن خيانة بعض المماليك.

ظل الكامل صامدا حتى بعد دخول المغول الى مدينته، حيث تحصّن في أحد الأبراج وواصل المقاومة حتى قتل المغول كل من في البرج وتمكنوا من أسر الكامل.

حمل المغول الكامل أسيرا إلى هولاكو، وفي حضرة قائد المغول ظل الكامل على ثباته، ولم يستعطف هولاكو أو يرجوه أن يُبقِي على حياته ورفض -كما تشير بعض الروايات- كأس الخمر الذي قدمه له هولاكو، الأمر الذي استفز هذا الأخير فأمر بتعذيب الكامل ثم قتله.

أراد هولاكو أن يجعل من الكامل عبرة لكل من يفكر مثله في مقاومة زحف المغول فقطع رأسه، وعُلق من شعره في شـبكة علـى رأس رمح قصير، وطِيف َ به في مختلف مدن بلاد الشام من حلب وصولا إلى دمشق التي وصل الرأس إليها يوم الاثنين ٢٧ جمادى الأولى ٦٥٨هـ.

إلا أن الهدف الذي أراده المغول وقائدهم من هذا التمثيل برأس الكامل لم يتحقق، بل اتخذ المماليك في مصر من نموذج “ميافارقين” مثالا يحتذون به في الصمود ومقاومة الغزاة المغول وهو الصمود الذي أثمر انتصارا حاسما في موقعة عين جالوت الشهيرة في شهر رمضان من عام ٦٥٨ هـ.

ولم ينس المنتصرون الشهيد الكامل فنقلوا رأسه من دمشق إلى القاهرة حيث دٌفن في مسجد الإمام الحٌسين داخل باب الفراديس شرقي باب المحراب في أصل الجدار.

وظل الكامل بفضل صموده وجهاده خالدا في ذاكرة أمته وفي مديح الشعراء مثل المؤرخ أبو شامة الذي امتدحه قائلا: 

ابن غازي غـزا وجاهـد قوما *** أثخنوا في العراق والمشرقيـن

طاهرا عاليا ومـات شهيــــدا ***  بعد صبــرٍ عليهم عاميــــــــن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock