رؤى

“عرابى”.. وجع الخيانة وقسوة التاريخ

” إننى ابن فلاح مصرى وقد اجتهدت قدر طاقتى أن أحقق الإصلاح لوطنى الذى أنا من أبنائه ومحبيه”  … ” لقد كنت اجتهد فى حفظ استقلال بلادى مع نيل الحرية والعدل والسماواة للمساكين الذى أنا خادم لهم فلسوء البخت لم يتيسر لى الغرض المقصود .وأننى مكتف بشرفى الشخصى الذى سوف يلازمنى ما حييت ويبقى بعدى إذا مت وسوف يرضينى دائما أن أنادى ب ” أحمد عرابى المصرى  فقط وبغير ألقاب  لقد ولدت فى بلاد الفراعنة  وستظل أهراماتهم قبرى  إن الأمة المصرية بأسرها كانت معى  وصحبة لى كما أنى محب لها أبدا

فأمل أنها لا تنسانى ” هذا ما قاله عن نفسه الزعيم أحمد عرابى

فرغم مرور 138 عام على الثورة العرابية إلا أن دوافعها وأحداثها ونتائجها ما تزال محل دراسة وجدل بين المؤرخين ورجال السياسة فهذا الحدث الجلل الذى غير وجه مصر لعقود طويلة ما يزال يلقى بظلاله على واقعنا حتى الآن هذا الجدل الذى بدأ مبكرا جدا فبعد 20 عام قضاها عرابى فى المنفى عاد إلى الوطن مرضا أصابته الغربة بالشيخوخة وانحنى ظهره بهموم لا حدود لها

وبعد أن عاد دخل عليه فى ليلة ما رجل يدعى “إبراهيم أغا التتونجى ” ويقول له ياراعرابى أما تدرى من أنا ” فيرد عرابى : لا .. أعلمنى باسمك وماذا تريد منى فى هذا الوقت ؟

فيرد أغام : أنا إبراهيم أغا يا بن الكلب يا خنزير … ويبصق فى وجهه ثلاث مرات ويتركه حزينا يعتصره الألم

ويرى الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى أن الاستعمار قد صفى الثورة العرابية مرتين مؤكدا فى كتابه ” الثورة العرابية “كان طبيعيا أن تقع الثورة العرابية بين براثن – المدرسة الاستعمارية – فى التاريخ المصرى لحساب الاستعمار العالمى تصفية آثارها الفكرية وتشويه دروسها النضالية بعد أن نجحت القوى الاستعمارية المسلحة فى تصفيتها كسلطة حكم ثورية “

الثورة العرابية صلاح عيسىهكذا كان الخديوى توفيق

فى 11 يوليو 1882 قام الأسطول الإنجليزي بضرب الإسكندرية وتدمير قلاعها وأجزاء من أحياء الإسكندرية وكان ذلك تحت زعم قيام الجيش المصرى جديد قلاع الإسكندرية وتقوية استحكاماتها، وإمدادها بالرجال والسلاح

واضطر الكثير من الأهالى للهروب من المدينة، وواصل الأسطول القصف في اليوم التالي، فاضطرت المدينة إلى التسليم ورفع الأعلام البيضاء بعد تدمير أغلب المدينة، واضطر أحمد عرابي إلى التحرك بقواته إلى كفر الدوار، وإعادة تنظيم جيشه

وفى المقابل استقبل الخديوى في قصر الرمل بالإسكندرية الأميرال بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطاني، وانحاز إلى الإنجليز، وجعل نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرفهم حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية. فأثناء القتال أرسل الإنجليز بعض من جنودهم لحماية الخديوي أثناء انتقاله من قصر الرمل إلى قصر رأس التين عبر شوارع الإسكندرية المشتعلة. ثم أرسل الخديوي إلى أحمد عرابي في كفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمّله تبعة ضرب الإسكندرية، ويأمره بالمثول لديه في قصر رأس التين؛ ليتلقى منه تعليماته

رفض عرابي الانصياع للخديوي بعد موقفه من ضرب الإسكندرية، وبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديوي بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل إلى يعقوب سامي باشا وكيل نظارة الجهادية يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في الموقف المتردي وما يجب عمله، فاجتمعت الجمعية في 17 يوليو 1882 وكان عدد المجتمعين نحو أربعمائة، وأجمعوا على استمرار الاستعدادات الحربية ما دامت بوارج الإنجليز في السواحل، وجنودها يحتلون الإسكندرية

الخديوي توفيق
الخديوي توفيق

وفي 22 يوليو 1882م عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية، حضره نحو خمسمائة من الأعضاء، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومفتيها، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون، ومديرو المديريات، وكبار الأعيان وكثير من العمد، فضلا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة

في الاجتماع أفتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر، وهم محمد عليش وحسن العدوي، والخلفاوي بمروق الخديوي عن الدين؛ لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، وبعد مداولة الرأي أصدرت الجمعية قرارها بعدم عزل عرابي عن منصبه، ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها؛ لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف ولم يكتفوا بهذا بل جمعوا الرجال والأسلحة والخيول من قرى وعزب وكفور البلاد

ليلة الخيانة الكبرى

ففى الثالث عشر من سبتمببرعام 1882 كانت مصر على موعد مع الجولة الفاصلة فى المواجهات التى دارت بين زعماء وقوات الثورة العرابية وجيش المحتل الإنجليزى فى التل الكبير وكانت معركة خاطفة تعتبر أسرع معركة حربية فى التاريخ الحديث فلم تستغرق أكثر من ثلاثين دقيقة أخذ فيها العرابيون على حين غرة وانتهت بهزيمة ثقيلة لهم

الثورة العرابية

وكانت ” الخيانة ” حاضرة بقوة خلال مسيرة عرابى النضالية لكنها هذه المرة كانت أشد مرارة وأكثر ألما فقد كانت هى العنوان الرئيس فى تلك الجولة الحاسمة ولعل المثل الشعبى الذى القائل: “الولس كسر عرابى” وكلمة الولس هذه تضمنت تأويلين الأول أنها مشتقة من اسم القائد الإنجليزى (ولسى)ومشتقة من الصفة المصرية (مولس) بتشديد اللام أي خائن قد شاع منذ تلك الواقعة الحزينة .. كما تحتفظ الذاكرة الوطنية حتى الآن بالهتاف الشعبى ” يا توفيق يا وش القملة .. مين قالك تعمل دى العملة ” كان هذا الشعار يردده البسطاء وهم يجمعون التبرعات لجيش عرابى … تبرعات من قوتهم الشحيح خبزهم وقمحهم وأرزهم ليكون زادا فى معركة الوطن

ويذكر التاريخ أن أشهر من خانوا عرابى فى تلك المعركة كان رئيس الحزب الوطنى محمد باشا سلطان، الذي وزع الذهب على بدو الصحراء الشرقية، وعلى رأسهم سعيد الطحاوى الذي كان مرشدا لعرابى وجاسوسا عليه، وعلى يوسف الشهير “بخنفس “

 كان عرابى في خيمته فجاءه الطحاوى يقسم له أن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع ثم ذهب لقائد الإنجليز “ولسى” وطمأنه أن المصريين سينامون ليلتهم نوم الأبرار، ويزحف الإنجليز في الظلام ويصل الإنجليز إلى الخط الأمامى للجيش العرابى وكان عبدالرحمن حسن قائد فرقة السوارى الذي يتعين عليها أن تكون في المواجهة يعلم بنبأ الهجوم، فتحرك بجنوده بعيدا عن أرض المعركة، ليمرالجيش الإنجليزى وينطلق ستون مدفعا وأحد عشر ألف بندقية، وألفان من الحراب، تقذف الجند النائمين فتشتتوا وكان عرابى يصلى الفجر على ربوة قريبة وسقطت قذيفة على خيمته فأسرع وامتطى حصانه ونزل لساحة المعركة فهاله ما رأى وحاول جمع صفوفه دون جدوى

معركة التل الكبير
معركة التل الكبير

وكما كانت الخيانة هى عنوان تلك المعركة إلا أن البطولات التى سجلها جنود وقادة جيش عرابى ستظل ناصعة ومن أبرز هؤلاء الأبطال محمد عبيد هذا البطل الاستثنائى الذى ظل يقاتل متحديا الخيانة ورصاص الإنجليز هذا تناثرت جثته فى صحراء مصر بين أكثر من عشرة آلاف جثة سقطت فى تلك المعركة

واليوزباشى حسن رضوان قائد المدفعية الذي كبد الإنجليز خسائر فادحة، حتى سقط جريحا وأسيرا وكذلك أحمد فرج، وعبدالقادرعبدالصمد وغيرهم الكثير من عشاق مصر وترابها

بعد دخول الإنجليز مدينة القاهرة في 14 سبتمبر 1882 ووصول الخديوي لقصر عابدين في 25 سبتمبر 1882 عقدت محاكمة لأحمد عرابى وبعض قادة الجيش في المعركة وبعض العلماء والأعيان، ولقد احتجز أحمد عرابي في ثكنات العباسية مع نائبهِ طلبة باشا حتى انعقدت محاكمته في 3 ديسمبر 1882 والتي قضت بإعدامه، وخفف الحكم بعد ذلك مباشرة  إلى النفي مدى الحياة إلى جزيرة سرنديب (جزيرة سيلان) وفى منتصف ديسمبر 1882 استقل سبعة من قادرة الثورة على رأسهم عرابى وثمانيه وأربعين من رفاقهم سفينة “مريوتس ” من ميناء السويس متجهة إلى منفاهم فى سيلان .. يقف التاريخ كثيرا عند ذلك المشهد  ووقفت مصر بفقرائها ورموزها الوطنيه عاجزة عن استيعاب لحظة تبدد حلمها وتعثر خطوتها نحو الخلاص

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock