بقلم عامر سلطان، نقلًا عن موقع البي بي سي، المصدر الأصلي: هُنا
لم تصدم صور نزول آية الله الخميني على سلم الطائرة في طهران، في الأول من فبراير/شباط عام 1979، عاصمة أوروبية بقدر ما صدمت لندن.
عبرت الصدمة عن نفسها، في الساعات الأولى من عودة زعيم الثورة التي أطاحت بنظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، بقرار فوري بإجراء مراجعة شاملة لتحديد أسباب فشل بريطانيا، مخابراتيا ودبلوماسيا، في التنبؤ بما حدث، كما تكشف وثائق الخارجية البريطانية.
حسب الوثائق، التي حصلت عليها، فإن السفير البريطاني في طهران سير أنطوني بارسونز كتب في يوم 10 مايو/آيار 1978، إلى الدكتور ديفيد أوين، وزير الخارجية آنذاك، يؤكد له أن “المعارضة التي يتزايد صخبها ـ والمؤلفة من رجال الدين والراديكاليين اليساريين والشيوعيين ـ ليست تهديدا جديا للشاه”.
إلا أنه بعد ثمانية أشهر فقط فوجئت الحكومة البريطانية بمغادرة الشاه، تحت ضغط الثورة، إيران التي كانت تتمتع فيها بريطانيا بوجود قوى في كل المجالات.
مرّ 15 يوما فقط لتأتي المفاجأة الثانية وهي عودة الخميني من منفاه في فرنسا، في أول فبراير/ شباط، لتتأكد الطبيعة الإسلامية للثورة.
في اليوم نفسه، أمر الدكتور أوين بإجراء “تشريح يحلل الأحداث” التي سبقت سقوط نظام الشاه ونجاح الثورة الشعبية التي سيطر عليها رجال الدين.
وزاد من إصرار الدكتور أوين على إجراء المراجعة، التي تابع بنفسه كل مراحلها، أنه تلقى تقريرا مفصلا من السفير، لاحقا، يعترف فيه بأن البريطانيين “قللوا من شأن قوة المعارضة بما فيها الطلاب والطبقات الدينية والتجار، وقدرتها على الاتحاد” في مواجهة نظام الشاه المستبد.
وأرسل سير بارسونز تقريره بعد يومين من مغادرة الشاه طهران، وجاء في شكل برقية وداع بمناسبة انتهاء فترة عمله سفيرا في طهران.
وقالت البرقية، في تنبيه واضح، إن “نظام الشاه خدم مصالحنا بقدر جيد، ومن المحتم أنها (المصالح) سوف تعاني، أيا تكن النتائج” المترتبة على ما حدث.
واختتم السفير برقيته محذرا من أن “المستقبل، بالنسبة للجميع، لا يزال غامضا وينذر بالشؤم”.
جعل هذا التحذير الدكتور أوين يشدد على أن يكون التحليل المطلوب معمقا للأحداث في إيران ويشمل فترة طويلة تمتد بين عامي 1974 و1978.
ومن بين الأسئلة التي طلب الوزير إجابات عليها “هل هناك دروس تتعلم منها وزارة الخارجية فيما يتصل بالعلاقة بالأنظمة المستبدة وتقديم النصح لها، وكذلك العلاقات مع عناصر المعارضة (لهذه الأنظمة)”.
وانتقدت نتائج المراجعة، التي أجراها الدبلوماسي نيقولاس براون على مدار 11 شهرا “تغليب المصالح التجارية، ومنها بيع الأسلحة” على “فهم التطورات في إيران” و”قطع العلاقات مع المعارضة خاصة رجال الدين” واتباع “الإطراء” وسيلة في التعامل مع الشاه “لإرضائه وضمان استمرار أفضاله”.
وحملت النتائج بشكل واضح بارسونز، الذي كان سفيرا في طهران بين عامي 1974 و 1979، قدرا ملحوظا من المسؤولية عن الإخفاق البريطاني في عدم فهم الوضع، ومن ثم الفشل في التنبؤ بالتطورات.
وشملت الانتقادات الموجهة له أنه كان يكتب التقارير بطريقة “تستهدف عدم إزعاج لندن، أو إثناء رجال الأعمال” من التعامل مع إيران.
غير أن باسونز، الذي تولى لاحقا منصب مندوب بريطانيا في الأمم المتحدة، رد مدافعا بقوة عن نهجه في التعامل مع الأزمة في حينها.
وقال، في خطاب إلى إدارة الشرق الأوسط، إنه سعى “للتخفيف من هوس كل الفرس بما فيهم الشاه بأيادي البريطانيين الخفية”، مشيرا إلى أن هذا الهوس نتج عن “150 عاما من التدخل البريطاني الشامل في شئون إيران الداخلية”.
وقال “كان أملنا الوحيد من إقامة علاقة عمل مربحة مع الشاه هو فعل أي شيء ممكن لتهدئة هذه الشكوك وألا نفعل أي شيء يغذيها”.
وقال بارسونز إنه في هذا السياق جاءت “السياسة المتعمدة التي اتبعتها أنا والسفيران السابقان علىّ (في طهران) القائمة على تجنب كل الاتصالات مع الملالي (رجال الدين الشيعة) والسياسيين القدامى”.
وأشار إلى أن “هذين العنصرين هما اللذان كانا لنا أياد خفية معهما في الماضي”.
وصارح السفير وزارته قائلا “الحقيقة هي أنه ما لم نكن قد أسقطنا هذه الاتصالات، ما كان لنا أبدا أن نحقق علاقة مع الشاه احتجنا إليها من أجل تعزيز مصالحنا”.
وتابع قائلا إن المصالح “لا تتعلق فقط بالعقود التجارية ولا بمسائل حيوية مثل التعاون بشأن انسحابنا من الخليج ومناطق أخرى تشابكت فيها السياسات الخارجية”.
إلا أنه أقر بأن قطع العلاقات مع الملالي عزز سوء التقدير البريطاني بشأن قوة المعارضة وغذى الاعتقاد بأن الشاه “لن يسقط إلا بانقلاب عسكري وليس بعمل شعبي حاشد”.
وكانت الحكومة العسكرية التي شكلها الشاه في 6 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1978 قد فشلت في السيطرة على الوضع وإجهاض الإضراب الوطني العام الذي شل النظام، وحينها بدأ العد التنازلي لسقوطه.
وعاد السفير ولفت الانتباه إلى أنه “لا يجب أن ننسى أبدا كيف استفدنا من نظام الشاه لعدد من السنوات. فالشركات والصناعة البريطانية جنت قدرا هائلا من الأموال من إيران قبل وأثناء فترة الازدهار”.
ماذا جاء في تكليف سير بارسونز بإجراء المراجعة؟
أعطيت المراجعة عنوان هو “السياسة البريطانية في إيران بين عامي 1974 و 1978”. وتحددت أهدافها في التالي:
إجراء تحليل للتقارير والتقييمات البريطانية للوضع في إيران خلال الماضي القريب جدا، وخاصة خلال الشهور الثلاثة الماضية أو نحو ذلك.
رصد لخيارات السياسات التي دُرست وأسباب اتخاذ القرارات بشأن الخيارات التي تقررت.
طرح مقترحات بشأن الدورس التي يمكن تعلمها من الإخفاق في توقع ما حدث.
كيف حللت الدول الأخرى الموقف، ومدى اختلاف التقييم البريطاني.
سبل تعويض الخسائر الناتجة عن السياسة البريطانية إن كان التعويض ممكنا.
ماهي أهم النتائج الأخرى للمراجعة؟
جاءت المراجعة في 96 صفحة واستغرق إعدادها أحد عشر شهرا بالضبط بين الأول من فبراير/شباط، والحادي والثلاثين من ديسمبر / كانون الأول عام 1978. وشملت خلاصاتها:
كان من الخطأ السماح بتوقف الاتصال مع شخصيات المعارضة الإيرانية. فقد “حرم هذا السفارة من مصادر المعلومات التي كان يمكن أن تقدم إسهاما مهما في التحليل السياسي”. في الوقت نفسه، أدى هذا التوقف إلى “إعاقة قدرة بريطانيا” على المساهمة المحتملة في ترتيب انتقال السلطة من الشاه إلى حكومة انتقالية منتخبة “بسبب عدم معرفتها الحميمة بالمعارضة”.
كان “الإطراء هو السلاح المستخدم” في التعامل مع الشاه “لتجنب خسارة أفضاله”. غير أن ما توصلت إليه هذه الدراسة هو أنه رغم صعوبة التعامل مع الشاه، فإن “الغرب بالغ في تقديره له”. وقد أظهر أنه “جاهز وراغب في الإضرار بالمصالح الغربية إن اُسىء إليه”، غير أنه ” نادرا، في الممارسة، ما تصرف بهذه الطريقة”.
لم يكن هناك تحليل بشكل كاف للتطورات السياسية في إيران.
رغم أهمية إيران الرئيسية للمصالح البريطانية بداية من عام 1974، ركزت وزارة الخارجية مواردها على القسم التجاري في السفارة في طهران، بينما تولى إعداد التقارير السياسية شخص واحد كانت لديه مسؤوليات أخرى.
لو اُعطيت أولوية متقدمة لإعداد تقارير عن الوضع السياسي بالتزامن مع زيادة الموارد للقسم التجاري، لكان من الممكن أن تصبح معرفة السفارة بإيران أكثر تفصيلا وعمقا.
كيف أجرى سير بارسونز المراجعة؟
عندما أسند الدكتور أوين مهمة إجراء المراجعة إلى سير بارسونز، كان الأخير منتدبا من وزارة الخارجية إلى إدارة تقييم المواقف في وزارة شؤون مجلس الوزراء.
وأعطي كل الصلاحيات اللازمة لإنجاز مهمته الملحة، بما في ذلك الاطلاع على كل الوثائق والمراسلات وإجراء المقابلات مع الأشخاص الذين يرى ضرورة للحدث معهم .
وتكشف الوثائق أنه سافر إلى واشنطن للقاء مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أيه” ووزارة الخارجية.
كما زار السعودية للقاء وزيري الدفاع والخارجية للوقوف على تقييم أجهزة المملكة للموقف في إيران حينذاك.
واستعان سير بارسونز أيضا بسفارات بريطانيا في العراق وباكستان ودول غربية أخرى للإجابة على السؤالي التالي: “هل كانت سياسة حكومات هذه الدول مختلفة اختلافا كبيرا” عن التقييم البريطاني؟”.
وأجرى أيضا مقابلات مع أكاديميين وصحفيين وعلماء تاريخ متخصصين في الشأن الإيراني.
ماذا جاء أيضا في رد السفير بارسونز على الانتقادات؟
حتى لو كان بإمكاننا استئناف العلاقات مع المعارضة، خاصة مع الملالي لجمع المعلومات الاستخباراتية، فإنه كان من المحتمل أن تستغل المعارضة هذه العلاقات سلاحا في معركتها مع الشاه.
لم نقلل أبدا من قسوة وحقارة منظمة المخابرات والأمن القومي “سافاك”.
كان تقديري هو أن النظام الإيراني، كغيره من أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، لا يعتمد على الشعبية بل يتوقف بقاؤه على مساندة قيادة القوات المسلحة. ولذا قدرت، خطأ، بأن الشاه لن يسقط إلا بإنقلاب عسكري وليس بعمل شعبي.
القول بأننا أعطينا الشاه أكبر من حجمه ليس دقيقا. فهو لم يكن ينبح فقط، بل يعض وبقسوة أحيانا. وأحد الأدلة على ذلك أنه حظر الاستيراد من هولندا لشهور وأوقف التجارة مؤقتا مع عدة دول أوربية أخرى.
لم تكن خطة انسحابنا من منطقة الخليج لتتم بالشكل الذي نُفذت به لولا علاقتنا الجيدة مع الشاه. وكانت لسياساته قيمة كبيرة بالنسبة لنا في عدد من المناطق، وما كنا لنتمكن من تأمين المزايا التي تمتعنا بها من دون علاقاتنا الوثيقة معه، رغم علمنا بأن هذا القرب يفرض قيودا على حرية عملنا داخل إيران.