في يوم 27يناير2011 سيدة في الثمانين من العمر تمسك في يدها كيساً كبيراً عجزت عن حمله ، و كنت قد خرجت من الجامعة العربية فقد كان المكان مقراً للصحفيين الدبلوماسيين، نرتاح فيه بعض الوقت ، وكلما ضربنا الجوع أصرخ للسيد عمرو موسي سيادة الأمين العام لقد هرمنا من الجوع ويوم سعدنا تكون في عزومة الفول والطعمية من عمرو موسي وهي وجبة مفضلة عنده ويعشقها ويقدمها لضيوف الجامعة العربية الكبار وهي قصة شهيرة لمن يعرف عمرو موسي.
خرجت من بابا الجامعة ولاتزال السيدة تحمل الكيس الكبير، نظرت لي بحب كما كل من في الميدان – أنت جعان؟ قلت والله ياامه فعلاً قالت طيب خد كل وتعالي نوزع الفول ده أوعي تقرف مني أنا زي أمك ، سقطت دموعي ثم قبلت يدها ، فتحت الكيس كان لايزال ساخناً فقد لفت السندوتشات في ورق ألومنيوم مقوي .. أخذت الوجبة وهي تحمل معي الطرشي يقابلني الصحفي صديق العمر د عزازي وهو يخطف السندوتشات .. هات ياخمار أيه ده أنت معاك فلوس منين يا شحات ، قلت كل وأنت ساكت دي عزومة من ماما نظر نحو السيدة قال أيوه كده مظبوط هو الخمار الفقران حيلته حاجة دحنا عاملين الثورة عشانه يضحك من الموقف ثم يخطف الفنان محمد الصباغ رسام الكاريكاتير سندوتش وفي ثواني تجمع الأصحاب منهم لاعب الكرة نادر السيد الصحفي وآخرون وحل الفول مشكلة الجوع المزمن اليومي فقد كان لنا خير معين قالت السيدة العجوز أنا مسيحية من السويس وعندي ثمانين سنة ولادي مهاجرين أمريكا عندي القلب خفت أموت لوحدي جيت أموت معاكم في الميدان ، يرد عزازي تموتي مين يا ماما دأنتي عبقرية في الفول والطعمية ، ويبدو كلمة عزازي فعلاً صحيحة فقد كتب الدكتور محمد المهدي دراسة طريفة وشيقة عن عبقرية الفول والطعمية بشكل مدهش ، صدق أول لا تصدق( أنت حر )توجد 390وصفة مصرية تصنع من الفول والطعمية ، وهي الوجبة المختصرة عند الأسكندرانية بالفلافل، وفي السويس يقدم مع البتنجان ، تلك الوجبة المصرية الخالصة التي تميز ملامح تذوق الطعام المصري الخالص ،وقد تغنى بالفول عدد من المطربين خلال فترة الستينيات والسبعينيات مثل المطرب الشعبي عبد العزيز محمود في أغنيته “بياع الفول” ثم الدويتو الشهير للفنانة صباح وفؤاد المهندس “أنا صايم” وغيرها من الأغاني التي تبرز قيمة الفول لدى المصريين وخاصة في شهر رمضان الكريم.
وكان المدمس كشفاً مهماً في الحفريات الأثرية يقول د محمد أبو رحمه خبير المصريات إن الفول كان يستخدم منذ 6500 سنة قبل الميلاد في فلسطين، وأيضاً في بلاد ما بين النهرين وبعد نحو 3000 سنة عرف الفول طريقه لدول حوض البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا ومصر القديمة والسواحل الأوروبية الجنوبية كاليونان وإسبانيا وإيطاليا وغيرها، وعرفه سكان شمال الهند والصين وتشير الدراسات التاريخية المعنية بالحضارات إلى أن تاريخ الفول يعود إلى العصر الحجري الحديث وقد بدأ استخدامه في الأمريكتين الشمالية والجنوبية من قديم الزمان، وقد تعرف عليه كريستوفر كولومبوس في جزر البهاماز حيث كانت تتم زراعة أنواعه بانتظام وبأساليب متطورة”.
عبد الوهاب لحن للفول والطعمية وغني شكوكو
ومن أبرز من غنوا للفول والطعمية الفنان الشهير الراحل محمود شكوكو والذي قدم أغنية شهيرة في هذا المضمار غنّاها أمام ليلى مراد، في فيلم “عنبر” بطريقة ابن البلد، والمفاجاة من تلحين الموسيقار الكبير عبد الوهاب وذات يوم قالت أم كلثوم لعبد الوهاب عمرك ما حتنجح في الانتخابات طول ما بتاكل الأكل المايص ده ماله الفول يامحمد وطانت كوكب الشرق تعشق الفول المهروس مثل الزعيم مصطفي النحاس الذي كان من محبي الطعمية خصوصاً فترة عمله في الوزارة فقد كانت وجبتة المفضلة كل يوم أما الشاعر الكبير بيرم التونسي فقد كان مغرما بالفول من شدة الفقر فلم يكن يملك ثمن اللحم وعاش كم قال حوالي ثمانية عشرا عاماً محروما من الفول ولما عاد للإسكندرية أول مافعله تناول الطعمية في بحري ،وعشق الفول مع الشاي والشيشة في قهوة متاتيا، كما تناولت السينما قصة فيلم “الفول صديقي” وتدور أحداثه حول أبو زيد الهلالي الذي يبيع الفول والفلافل، ويقرر الانتقال إلى الزمالك. الفيلم من إخراج حسين الوكيل ومن تأليف محمد عفيفي وسيناريو وحوار إبراهيم الموجي. كما قدمت عشرات المسلسلات التلفزيونية شخصيات لها علاقة بالمهنة.
https://www.youtube.com/watch?v=UHdmOtjTv_Y
اعتاد المصريون القدماء طهي الفول في قدر كبير، كانت تصنع أول الأمر من الفخار، ثم النحاس، إلى أن أصبحت تصنع من سبائك من معادن شتى، وقال محمد أبورحمة خبير المصريات والمترجم الذي وضع قاموس اللغة المصرية – تشير إحدى الروايات الشعبية إلى أن رجلا مصرياً يونانياً يدعى ديموس كان يعيش في حي بمصر القديمة، وكان يمتلك حماماً عموميا يحتوي على مستودع لحرق القمامة من أجل تسخين المياه. قرر ديموس استغلال اللهب الناتج عن حرق المخلفات والقمامة في طبخ الفول، فوضع قدر الفول بين المخلفات المشتعلة حتى تنضج، وبالفعل كانت النتيجة على النحو الذي أدهش الكثيرين، الأمر الذي انتشر بين المصريين وقتها، وأطلقوا على ذلك الابتكار في طهي الفول “مدمس” نسبة لليوناني ديموس.
سر عبقرية معجزة الطب مع الفول وخصوصية المصريين
نعود لما كتب الدكتور محمد المهدي خبير الطب النفسي الدولي – كنت أتحدث في التليفون مع صديق إعلامي عزيز حول فكرة برنامج إذاعي أو تليفزيوني نستعرض فيه الشخصيات المصرية العبقرية (وهي كثيرة) ونقوم بتحليل تلك الشخصيات وإظهار مواطن وبواعث العظمة فيها رغم ما عاشته – ربما – من مآس وصعوبات في حياتنا المصرية التي نعرفها , ووصلنا إلى أن العبقرية لا تكون فقط في الأشخاص ولكن أيضا في الأماكن والأزمنة , وحين وصلنا إلى هذه النقطة كنت قد وصلت أنا بالسيارة إلى مطعم في “المقطم” قريبا من عيادتي حيث تعودت أن أتناول ساندوتش فول وطعمية قبل بدأ نشاطي , وبينما أنا أستمتع بطعم الساندوتشين الفول والطعمية ، وأتذكر ارتباطي الوثيق بهما منذ الصغر وبحثي عنهما في الإفطار صباحا حين أسافر خارج مصر فأجدهما في بعض الفنادق خاصة في الدول العربية فأكون في غاية السعادة والرضا , وهنا قفز إلى ذهني فكرة عبقرية الفول والطعمية في حياة المصريين بالذات (فهل تكون العبقرية في بعض الأكلات أيضا؟) , فهذه الأكلة تميزهم , وتعتبر جزءا من هويتهم , لأنها تتغلغل في حياتهم أكثر مما تتغلغل أي أكلة أخرى , لدرجة أن بعض إخواننا العرب كانوا إذا أرادوا مداعبتنا (أو معاكستنا أو مكايدتنا أو معايرتنا ) قالوا : “يافوّال” (على الرغم من أنهم عشقوا هم أيضا الفول والطعمية وبعضهم انضم إلى نادي الفوالين) , وقد كنت أسعد بهذا اللقب , وأضيف لهم : “أنا مصري عربي مسلم فوّال”.
وأتذكر في طفولتي وصباي أسماء مطاعم الفول والطعمية مثل أبو ستو , وأمين الهنداوي , وغيرهم (لم تكن مطاعم بل دكاكين متواضعة) , وفي شبابي مطعم توتو والشويحي والموافي والسيده زينب في المنصورة , وفي سن أكبر مطاعم فلفلة ونعمة والتابعي الدمياطي وجاد والشبراوي والعمده والبغل وغيرهم في القاهرة . فماهي ياترى مواطن العبقرية في الفول (الذي قد يبقى فولا كماهو أو يتحول إلى طعمية ) ؟ … انها كثيرة لا يحصرها عد ولكن نكتفي بمايلي:
هو أكلة للفقير والغني , أي أنه عابر للطبقات الاجتماعية , وموحد للمصريين على حبه، يأكله المثقف والأمي, وأذكر أن الأستاذ نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله وخضوعه لعمليات جراحية , حين أفاق كان أول مطلبه طبق فول وقرصين طعمية , وهكذا حدث مع كثير من المبدعين العظام في مصر.
يؤكل في الصباح والمساء على حد سواء، هو أشهى أكلة في رمضان, وينافس أعظم الأطباق على الفطور أو السحور، ومن عجب أيضاً يأكله الإنسان والحيوان على السواء , وهذا يعلم الإنسان التواضع.
كما أنه يمسك البطن ويمنع الجوع لفترة طويلة و بلاهة آكلي الفول , والتي تظهر في بعض مراحل هضمه , قد تكون نوعا من المسكنات والملطفات لمآسي وآلام الحياة , فالفول صديق المعذبين والمتعبين والمقهورين، ويقبل شركاء آخرون على الترابيزة مثل الباذنجان والبطاطس والبيض والعجة والجرجير والبصل والمسقعة ويتناغم جدا معهم في وئام غذائي عجيب , ويتقبل شاكرا وممتنا كوباية الشاي بعده “علشان تحبس” , وبالتالي يصبح هو مظهر من مظاهر قبول الآخر والتعددية في الحياة المصرية.
مع رخص ثمنه (على الأقل نسبيا ) يؤكل الفول بأشكال متعددة فهناك فول بالزيت وفول بالطحينة وفول بالسمنة البلدي وفول بالزبدة وفول بزيت الزيتون وفول بالزيت الحار وفول بالليمون وفول بالطماطم وفول بالصلصة وفول بالبيض والفول السادة والفول المهروس والفول المقشّر والفول النابت . وتأخذ الطعمية أيضا تنويعات مثل الطعمية السادة والطعمية بالسمسم والطعمية بالبصل والطعمية بالبيض , وقد تكون على شكل كرات صغيرة أو أقراص مختلفة الحجم . هذه التنويعة الثرية لا توجد في أي أكلة أخرى.
يؤكل في مطاعم للأثرياء والطبقة المتوسطة , ويؤكل على عربية في الشارع للفقراء والكادحين
انتقل من المحلية إلى العالمية فأصبحنا نراه في كثير من الدول العربية وبعض الدول الأجنبية
لا يسبب الحساسية , وكثير من المرضى يصبح هو الأكلة الآمنة والصحية لهم (باستثناء وحيد في مرضى أنيميا الفول)
يصنع في “قدرة” في المطاعم , ويكمر في “زراوية” توضع في “محمة الفرن” في القرى (قديما شويه) ويطبخ في “حلة” أو “كسرونة” أو “دقيّة” (قد تكون بعض هذه الكلمات قد انقرضت فلا تنزعج)
لكل هذه الأسباب سالفة الذكر نجد أن الفول والطعمية قد تحولا من مجرد أكلة إلى حالة انتماء وهوية وثقافة وترابط ومتعة .
مفاجأة الفول يؤخر الشيخوخة
وكثيرا ماأتمنى إن تكرّم ربي عليّ وأدخلني الجنة أن أجد هناك حاجتي من الفول والطعمية طبق واحد من الفول كفيل بأن يجعلك سعيداً طيلة اليوم لفوائده الصحية، حيث أكدت الدراسات العلمية الحديثة أن تناول الفول بصفة يومية مع وجبة الإفطار وخاصة في الصباح يساعد الشخص على الشعور بالسعادة والنشاط والهدوء النفسي، على عكس ما يشاع لدى الكثير من أن تناول الفول يجلب الغباء والخمول.
وبحسب الدراسات الحديثة فيؤكد أطباء التغذية العلاجية أن تناول الفول يساعد على إفراز العديد من الهرمونات المهمة التي يتسبب نقصها في الجسم الإصابة بالاكتئاب ومنها هرمون الميلاتونين، وله دور أساسي في تنظيم الساعة البيولوجية في الإنسان، وتنظيم عملية النوم، كما أنه منشط قوي للمناعة، وله دور في تأخير الشيخوخة.
ويحتوي الفول كما تشير الأبحاث على فيتامين ب3 المفيد في إنتاج الطاقة وسهولة الهضم، ويؤدي نقصه إلى الشعور بالقلق والعصبية الزائدة، ومادة التروبتوفان التي تعتبر حمضاً أمينياً يدخل في بناء ثلاثة بروتينات تسبب السعادة أولها السيروتونين وهو هرمون السرور والانشراح وله دور كبير في عملية النوم واعتدال المزاج وفتح الشهية.
ولا يختلف أحد على أن طبق الفول له مكانة خاصة في حياة المصريين، فهو كنز غذائي على موائدهم ولا يمكن الاستغناء عنه في الوجبات الرئيسية، إذ يحتوي على بروتين يعادل 300 غرام من اللحم، والألياف ذات القيمة الغذائية العالية والمفيدة جداً للإنسان كما أنه يقاوم الكآبة ويجلب السعادة، كما أنه يجعل الشخص أكثر قدرة على تحمل الأزمات.
وقد عرفت نجوماً كبارا في المجتمع المصري يعشقون الفلافل ، مثل هانى أبوريدة عضو المكتب التنفيذي بالاتحاد الدولى لكرة القدم فيفا أن أكلته المفضلة هي الطعمية بجانب أنه لا يمانع من تناول الفول والطعمية على مائدة الإفطار وليس السحور فقط.