رؤى

طه حسين.. وإنشاء جامعتي الإسكندرية والمنصورة

تبقي ثورة 1919، صاحبة الوهج الذي أضاء عقل العميد الدكتور طه حسين؛ كي يبدع مشروع مصر الثقافي الذي ما زال صالحا إلى اليوم.. في معارك ومظاهرات الثورة كان عميد الأدب العربي يجالس زميله مؤرخ الثورة الشيخ الدكتور عبد الوهاب النجار, وقد شكّل هذا الثنائي أهم لجان منح درجة الدكتوراه في عدة جامعات مصرية؛ بخلاف كلية الآداب بجامعة القاهرة. فأحمد أمين وزكي مبارك من طلابهما لنيل الدكتوراه.. وغيرهما الكثير.

دخل طه حسين معركة الوعي وحدد موقفه من قضايا وطنه مبكرا، فكتب يحذّر من وعد بلفور الذي صدر 2 نوفمبر عام 1917، وتعهدت فيه بريطانيا لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين, أيضا حرص العميد علي تأسيس منارات العلم والجامعات وتكوين وتخريج المعلم, تلك القضايا شكلت محور عقل طه حسين الصحفي ووكيل نقابة الصحفيين ورئيس التحرير ووزير المعارف والمحاضر الدولي المرموق, وأحد قادة النهضة  الفكرية في مصر ومؤسس جامعات الإسكندرية وعين شمس والذي وضع نواة جامعة أسيوط وجامعة المنصورة لذلك لقب بـ “أبو الجامعات المصرية”.

يقول د طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: “فالمعلم الأولِي في مصر يشغل في حياتنا الاجتماعية مركزًا متواضعًا جدًّا من الناحية المادية؛ لأن الدولة تقتر عليه في الرزق، ولا تأجره إلا أجرًا يمكنه مما يقيم أوده ليس غير.

والمعلم الأولي إنسان كغيره من الناس، له حقه المطلق في أن يعيش، وفي أن يعيش عيشة راضية إلى حدٍّ ما، وفي أن يبسم للأمل، ويبسم له الأمل، وفي أن يربي أبناءه ويعلمهم خيرًا مما ربي هو ومما تعلم، وفي أن يطمع لهم في مراكز خير من مركزه، ولا بد من أن تمكنه حياته من ذلك، ومن أن تأجره الدولة أجرًا يلائم عمله الخطير من جهة، وحقه الطبيعي وأمله المعقول من جهةٍ أخرى.

ثورة 1919
ثورة 1919

وإذا غيرت الدولة رأيها فيه ونظرها إليه، وفتحت له أبواب الحياة الراضية، والأمل الباسم، تغير فيه رأي الشعب أيضًا، وتغير نظر الشعب إليه وحكمه عليه، وظفر بحظٍّ معقول من الكرامة والاحترام بين مواطنيه. وكما أننا نريد أن يشعر الطالب في مدرسة المعلمين بأنه كغيره من المصريين، له الحق مثلهم في أن يكون عزيزًا كريمًا، فنحن نريد أن يشعر المعلم حين يؤدي واجبه بهذه العزة والكرامة ليكون مثالًا لهما أمام التلاميذ.

ومن أغرب التناقض أن نزدري المعلم الأولي، أو ننظر إليه نظرة عطف وإشفاق خير منهما الازدراء، ثم نطلب إليه ونلح عليه في أن يشيع في نفوس أبنائنا العزة والكرامة والحرية والاستقلال.. لا أعرف شرًّا على الحياة العقلية في مصر من أن يكون المعلم الأولِي كما هو الآن عندنا سيئ الحال منكسر النفس، محدود الأمل، شاعرًا بأنه يمثل أهون الطبقات على وزارة المعارف شأنًا”.

ظل التعليم قضية العميد ومحور نقاشاته مع مفكري عصره, فقد قال لشاعر الهند الكبير طاغور الذي زار مصرفي شتاء عام ١٩٢٦، بحضور أحمد شوقي وسعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا، وفضيلة الإمام الأكبر د. مصطفى عبد الرازق – قال: “إن الحرية السياسية هي التي ستهيئ الفرصة للتعليم الوطني، والتعليم الوطني هو الذي سيدفع المواطنين إلى الإصلاح الاجتماعي”.

يقول د. محمد حسن الزيات في كتابه “ما بعد الأيام” وتستمر معركة د. طه حسين مع قضية التعليم وتحت عنوان جامعة الإسكندرية.. يشرح الزيات مشهد تأسيس الجامعة علي يد العميد طه حسين فيقول: “في آخر فبراير ١٩٤١، يتولى هيكل باشا وزارة المعارف من جديد, ويتحدث طه حسين مع هيكل، إنه راضٍ عن طبيعة عمله في وزارة المعارف، لكنه غير راضٍ عن نظرة الوزارة نفسها إلى شئون الثقافة، يقول إنه لذلك كان قد رفع استقالته إلى النقراشي باشا فرفضها، وفوجئ طه حسين بتعيين الوزير الجديد، فلم يجد من الذوق أن يترك العمل بمجرد تولي الدكتور هيكل منصب الوزارة, وهيكل يذكر طه حسين أنه هو نفسه كان أول من اقترح أن يتولى طه حسين أمور الثقافة بالوزارة، وهو الآن يطلب إليه أن يستمر في تحمل هذا العبء، وأن يضيف إليه عبئًا آخر وهو أن يكون مستشارًا فنيًّا للوزارة.

ما بعد الأيام

ويترك هيكل الوزارة قبل إتمام الإجراءات اللازمة، ويحل محله أحمد نجيب الهلالي باشا، فتتم في عهده إجراءات تعيين طه حسين مستشارًا فنيًّا لوزارة المعارف, ويدخل طه حسين مستشار وزارة المعارف, ويقول للسكرتير: “الآن أريد دوسيه جامعة الإسكندرية بالكامل، ويدخل طه حسين مكتب الوزير أحمد نجيب الهلالي باشا, فيسأله الوزير: “هل هناك أي رغبات يمكن أن تعاون الوزارة على تحقيقها؟”.

د. طه: طبعًا، الطلبات الخاصة بجامعة الإسكندرية وميزانيتها.

الوزير: لم أكن أتكلم عن الميزانية ولا عن الجامعة.

د. طه: يا معالي الوزير “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ” أنا لا أتكلم إلا عن الميزانية وعن الجامعة.

ويطيل الوزير السكوت ثم يقول: “نكتب للمالية”.

فيرد طه حسين: “هذا مشروع خطاب من معاليك لوزير المالية بالمطلوب, والميزانية المطلوبة كبيرة؛ لأنها مطلوبة لمهمة كبيرة، يتعلق بها مستقبل التعليم في مصر، ومعاليك تشرح ذلك هنا في هذا الخطاب، بشكل مقنع ورائع، وتبيِّن لوزير المالية أيضا أن الجامعة ضرورية لتنمية مصر اقتصاديًّا، وذلك لأن المصريين المتعلمين المتخرجين في الجامعة سوف يحسنون استغلال موارد البلاد في المستقبل، ومع أن الخطاب مقنع ورائع فإنه قطعًا غير كافٍ ولا منتج بنفسه، ولكي يكون منتجًا نذهب معًا لمقابلة رفعة رئيس الوزراء”.

ويطلب الوزير رئيس الوزراء بالتليفون، ثم يقول للمستشار إن رفعته سيقابلهم غدًا الساعة العاشرة صباحًا في مجلس الوزراء، ويضيف أن “رفعة الرئيس يقول لك إن الإسكندرية نفسها قد أصبحت مهددة، وإن الألمان أصبحوا على بعد سبعين ميلًا منها، وإن هناك هجمات جوية عليها”.

ويقول طه حسين: «إن رفعة الرئيس ومعاليك تعلمان أن هذا سبب قوي لإصرارنا على تعمير الإسكندرية، على زيادتها عمرانًا بإنشاء الجامعة، منارة الإسكندرية كانت إحدى عجائب الدنيا السبع، ألا يجب أن يشع ضوء حضارتنا من جديد عبر البحر الأبيض المتوسط على دنيا الحضارة؟

أستأذن الآن، غدًا إذن نذهب لرفعة الرئيس، وعندي عمل في جامعة الإسكندرية بعد ذلك”.

ويقول الوزير: “بالتأكيد لا تسافر للإسكندرية الآن، انتدب أحدًا يحل محلك”.

ويرد طه حسين: “لا، وزير المواصلات يغضب، محلي محجوز بقطار بعد الظهر غدًا بعد انتهاء مقابلة النحاس باشا”.

ويقول الوزير: “كان يجب أن أعرف أن لا فائدة من الإلحاح، إلى الغد إذن”.

وفي الزمالك، على مائدة الغداء، في اليوم التالي، أسرة طه حسين تتناول القهوة. يقول طه حسين: “ذهبت اليوم إلى رئيس الوزراء مع الوزير نجيب الهلالي، ووجدنا وزير المالية عنده، واختصرنا في جلسة اليوم مكاتبات كانت سوف تظل شهورًا أو سنوات تزحف من وزارة لوزارة ومن ديوان لديوان”.

طه حسين
طه حسين

وتسأله أمينة: “كيف كان النحاس باشا؟”.

يرد طه حسين: “كان رائعًا، كان متحمسًا جدًّا، أخبرني بحديث دار بينه وبين الأمير محمد علي ولي العهد عندما ذهب يسلم عليه بعد عودته من الخارج، قال له الأمير: يا باشا، فهمت أن وزارتكم تريد تعليم جميع الناس، ومن سيخدمنا إذن إذا علمتم جميع الناس؟ فقال له النحاس باشا: أنت عائد يا سمو الأمير من أوروبا، هل كنت تُخدم هناك خدمة حسنة؟ قال الأمير: طبعًا، ليت عندنا خدمة مثل الخدمة في أوروبا. فقال له النحاس باشا: إن من كانوا يخدمونك في أوروبا يا سمو الأمير متعلمون، وهذا هو ما نريد أن يكون عليه الحال هنا. فضحك الأمير وقال: إذا كان كده يبقى عال”.

وتسأل السيدة سوزان: “والمهم، الميزانية ورغبتك في إنشاء كل الكليات مرة واحدة”.

ويقول طه حسين: “موافقة تامة، ووزير المالية ارتبط فعلًا”.

وينتهي من شرب القهوة ويسأل: “كم الساعة الآن؟ أظن أن موعد القطار قد حان”.

سوزان: “إذن أنت مصمم على أن تسافر للإسكندرية والقنابل تسقط عليها، وجيوش رومل على بعد سبعين ميلًا منها، وقد تقتحم المدينة وأنت فيها”.

ويقول طه: “أنت قطعًا تدركين أن إنشاء جامعة الإسكندرية يمكن أن يعد عملًا من أعمال المقاومة الوطنية، أظن أنني يجب أن أغادر الآن إلى المحطة، ثم إن الألمان لن يقتحموا الإسكندرية، إن مصر كنانة الله في أرضه”.

وقبل أن يترك طه حسين مكتب الوزير يقول له إنه تلقى خطابًا من الأستاذ العقاد، يوصي فيه بالشبان الذين يقومون بترجمة دائرة المعارف الإسلامية, وإنه هو نفسه معجب بعملهم الذي كان يجب أن تنهض الدولة بمثله، ولذلك فإنه يرجو الاستجابة إلى مطالبهم البسيطة، ويقدم إليه مذكرة بذلك، ويقول إنه يرجو أن يقوم علماء المسلمين في المستقبل القريب بإصدار دائرة معارف إسلامية بأنفسهم. تقدم طه حسين للبرلمان المصري بطلب زيادة ميزانية التعليم

وعندما كان وزيرا للمعارف وبعد رفض طلبه توجه بنفسه للبرلمان وخاطب أعضاءه قائلا: “الجهل حريق لا ينفع معه التقطير” ويستدعي طه حسين أحد معاونيه من تلاميذه، وكان قد اختاره ليعمل معه في الجامعة وفي الوزارة.

يقول طه حسين: “كنت تحدثت مع الوزير عن إنشاء أكاديمية مصرية للفنون، وأريد أن تجمع بعض البيانات لإعداد مذكرة تقدم للوزير، فقال: “عليك أولًا أن تطلب إلى الإدارة المختصة بيانًا بجميع الجمعيات العلمية والأدبية التي تعِينها الوزارة حاليًّا وبرامج عملها ونشاطها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وثانيًا أن تعد لي بنفسك بحثًا عن الأكاديميات في فرنسا وروسيا وإنجلترا وألمانيا، وعندما تجمع هذه المعلومات تتعرض لبحث إمكان إنشاء الأكاديمية المصرية، وتوضح تصورك لها حسبما تحدثنا فيما مضى، إن في التاريخ العربي مؤسسات مماثلة سبق العرب بها العالم الحديث؛ بيت الحكمة في عصر المأمون مثلًا.

وسجلت “مجلة الفكر الحر” التي تصدر عن كلية الآداب ويحررها الطالب محمد عبد العزيز إسحاق، ونشرت إجابة سؤال للعميد: “هل يصلح الأديب للوزارة؟”.

ويبتسم طه حسين ويقول: “ولمَ لا؟ لقد كان وزراء الدولة العربية في أرقى عصورها من الأدباء، وفي الدولة المتحضرة في العصر الحديث نجد وزراء مثل دزرائيلي في إنجلترا وهو أديب بارع في القصص، ونجد بوانكاريه في فرنسا وهو لم يصل إلى منصب الوزير فقط بل إلى رئاسة الجمهورية، وكليمنسو الطبيب الأديب الوزير، وإدوارد هربو الذي رأس الوزارة عدة مرات، ووزير الأشغال الحاليَّ في فرنسا الذي يشرف على دائرة المعارف الفرنسية الجديدة.

طه حسين

ليس السؤال الذي سألتموه موضوعًا كما ينبغي، السؤال الذي يجب أن يُلقى هو هل يصلح غير الأديب أن يكون وزيرًا؟

إن نظام الحكم الديمقراطي يريد من الوزير أن يكون عالمًا بنفس الجماهير قادرًا على التحدث إليها وتوجيهها، بارعًا في الخطابة أمام الشعب وأمام البرلمان.. الأدباء أحق الناس بأمور السياسة وأبرعهم في تصريفها، يشهد لهم بذلك التاريخ منذ بركليس إلى محمد بن عبد الملك.

ونجح الوزير طه حسين في تنفيذ حلمه في تعليم مصري متميز, فهو صاحب فكرة إنشاء جامعة المنصورة, بعد أن توجه له بعض أبناء المحافظة عندما كان وزيرا للمعارف طالبين منه إنشاء جامعة على غرار جامعتي فؤاد الأول والإسكندرية, فلم يخذلهم لكنه طالبهم بجمع مائة ألف جنيه للبدء في إنشاء كلية للطب تكون نواة للجامعة, ثم زار طه حسين المنصورة يوم 2 مارس 1951, حيث جمع من أبنائها مائتي ألف جنيه في ذلك الوقت, منهم ثلاثين ألف جنية من العمدة سراج الدين أبو شعيشع, فقد وعده بالتبرع بعشرة آلاف جنية عن كل وجبة طعام يتناولها في بيت آل سراج الدين وبقي العميد في المنصورة ثلاثة أيام كاملة حتي جمع كل احتياجات طب المنصورة من أعيان الدقهلية بإنشاء كلية للطب في المنصورة تكون نواة للجامعة.

ولم يدر بخلد طه حسين أن كلية الطب التي اقترحها كنواة للجامعة ستكون يوما ما واحدة من أهم كليات الطب في عالمنا المعاصر وأهمها على الإطلاق في الشرق الأوسط وأنها ستنقل الطب المصري من المحلية للعالمية وستجعل المكان الذي احتضنها مؤهلا ليكون عاصمة مصر الطبية بفضل جهود الأساتذة الرواد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock