رؤى

زهرة المدائن (19): القدس.. ومشروعات التسوية الإسرائيلية

لقد عبر بوضوح عن النوايا الإسرائيلية في القدس، دافيد بن جوريون، أول رئيس لوزراء إسرائيل، أثناء النقاش الصاخب في مجلس الشعب المؤقت “الكنيست لاحقًا” (يوم 24 يونيو 1948)؛ في هذا النقاش، لم تكن المسألة إلحاق القدس بـ”إسرائيل”، بل كيفية تحقيق هذا الهدف في ضوء العقبات والظروف العسكرية والاقتصادية التي تواجه تحقيقه.

قال بن جوريون: “إننا نفهم حاجة رفاقنا من القدس للبوح بما في صدورهم. ولكنه ليس صحيحًا أن القدس قد غبنت. إن رفاقنا في القدس –إذا حكمنا بناء على أقوالهم– لا يقدرون أن مسألة القدس قدرة عسكرية.. ورغم أننا لا نستطيع حل كل مشاكل القدس بالقوة العسكرية وحدها، لكنها المرحلة الأولى لاحتلال القدس، تعقبها بعد ذلك عدة مراحل، تتعلق بالجانب الاقتصادي، والاجتماعي، وأيضًا الديموغرافي للقدس”.

وهكذا، وضع المؤسس الفعلي لـ”إسرائيل” الأساس الاستراتيجي لكيفية التعامل مع القدس.

احتلال القدس (يونيو 1967)

وبنشوب “حرب يونيو 1967″، توفرت الفرصة الملائمة لإسرائيل لاحتلال المدينة المقدسة كاملة –بل لاحتلال فلسطين كاملة– فبدأت باجتياحها (ظهر الخامس من يونيو)، حيث كانت خطة الهجوم تقضي بتطويق المدينة وإجبار سكانها على الاستسلام.

ولكن بعد ظهور إمكانية صدور قرار عن مجلس الأمن، يقضى بوقف إطلاق النار، قبل تنفيذ خطة الاستيلاء على المدينة؛ تقرر بعد اتصالات وزارية في صبيحة السابع من يونيو، بادر إليها مناحم بيجين، الوزير بلا وزارة في حكومة الائتلاف التي تشكلت عشية الحرب، اقتحام المدينة (القديمة)، حيث تم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه؛ ودخل دايان إلى القدس ليعلن أمام حائط المبكى: “لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، عدنا ولن نبارحها أبدًا”(…).

وبعد 18 يومًا من احتلال مدينة القدس، كانت السلطات المحتلة قد وضعت حجر الأساس للسيطرة على المدينة، بإصدارها في 26 يونيو 1967، قانونًا يسرى بموجبه “قانون الدولة وقضاؤها وإدارتها” على القدس؛ وآخر يشرع لإلحاقها بمنطقة صلاحية مجلس بلدية القدس “اليهودي”. وتكرست هذه السيطرة “القانونية” بقرار ضم مدينة القدس في 30 يوليو 1980، حين أقر الكنيست قانونًا أساسيًا يعتبر “القدس الكاملة والموحدة عاصمة لإسرائيل”(!!).

ومنذ إقرار هذا القانون، بل منذ احتلال القدس، بدا أن الحكومات الإسرائيلية، تسير في خطوات متتابعة لبلوغ استهداف محدد، وهو تحويل “القانون” من الصياغة النظرية إلى التطبيق الفعلي علي الأرض؛ وهو ما يتضح من خلال ملاحظة البرامج الاستراتيجية والتاكتيكية التي وضعت بناءً على هذا الاستهداف، وأهمها ـ قطعًا ـ البرامج الخاصة بالاستيطان والتهويد.

وفي اعتقادنا أن مقاربة هذا الهدف، إنما تتم من خلال وضع اليد على النوايا الإسرائيلية تجاه القدس، كما يشير إليها الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي.

نعني: أن مركزية القدس، المشار إليها، يمكن أن تتبدى بوضوح إذا ما عدنا إلى كافة مشروعات التسوية التي طرحت من جانب الاستراتيجيين الإسرائيليين (سبع عشرة مشروعًا للتسوية).. لنعرف أن مشروع التسوية الراهن لم يكن أول مشروعات التسوية المطروحة من جانب إسرائيل؛ ولنتأكد من جهة أخرى من موقع مدينة القدس على خارطة هذه المشروعات.

مشروعات التسوية الإسرائيلية

ـ مشروع بن جوريون 1967، وكان أول مشروع يطرح أفكارًا حول منح السكان الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة حكمًا ذاتيًا، يديرون شئون حياتهم في إطاره، إذ إنه كان قد طرح بعد أن وضعت حرب 1967، أوزارها بأسبوعين فقط. وقد أخرج بن جوريون القدس من المشروع، مقترحًا ضمها إلى حدود “دولة إسرائيل”.

ـ مشروع آلون 1967؛ وهو المشروع الذي طرحه آلون (وزير الخارجية الإسرائيلية، حينئذ) بعد شهر واحد من الحرب، وكان يتعلق بسيناء والجولان. وقد استند فيه إلى أفكار بن جوريون، غير أن مشروع آلون كان أكثر تفصيلا وتحديدا ووضوحا. وقد حظي المشروع بشهرة واسعة رغم أنه لم يناقش في إطار حكومي أو حزبي.

وفي ما يتعلق بالقدس، فقد تضمن المشروع بندًا، مؤداه: “العمل على إقامة ضواحي بلدية مأهولة بالسكان اليهود في شرق القدس، علاوة على إعادة تعمير وإسكان سريعين للحى اليهودي بالبلدة القديمة من القدس” وهو الأمر الذي ترجمته إسرائيل عمليًا، خلال السنوات التالية، إلى الدرجة التي أصبحت فيها المدينة محاطة تقريبًا بالمستوطنات اليهودية.

ـ مشروع أبا إيبان 1968؛ وهو المشروع الذي طرحه إيبان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ويتألف المشروع من تسع نقاط، وقد طرح في 9 أكتوبر 1968، من أجل “تحقيق سلام في الشرق الأوسط على أساس إنشاء حدود آمنة، من خلال مؤتمر لدول الشرق الأوسط، خلال خمس سنوات، والاعتراف بسيادة دول المنطقة”. أما البند الخاص بالقدس، فقد تناوله المشروع على الشكل التالي: “إن إسرائيل مستعدة لمناقشة التوصل إلى اتفاقيات مناسبة مع هؤلاء الذين يعنيهم أمر القدس”.

ـ مشرع جولدا مائير 1971؛ وهو مشروع طرح في الأصل ردًا على مقترحات الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، عبر مقابلة نشرتها صحيفة “التايمز” اللندنية في 12 مارس 1971، رفضت فيه مائير مقترحات الرئيس السادات، وحددت “مطالب إسرائيل” من أجل تسوية الصراع، وتناولت القدس في بند خاص، جاء فيه: “تبقى القدس موحدة، وجزءًا لا يتجزأ من إسرائيل”.

ـ مشروع مبام للسلام 1972؛ وهو المشروع الذي طرحه حزب “مبام”. وكانت جريدة “عال همشمار” الإسرائيلية قد نشرت في عدديها الصادرين في10 و17 أغسطس 1972، الفقرات الأساسية من المشروع، الذي أقرته اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحزب السادس الذي انعقد لاحقًا، في 27 ديسمبر 1972. وقد تضمن المشروع بندًا عن القدس، جاء فيه: “إن القدس الموحدة هي عاصمة دولة إسرائيل..”(!!).

ـ مشروع دايان 1972؛ وقد طرح من خلال مقابلة صحفية أجرتها مع دايان صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، وقد تضمن طرح دايان أن “في الإمكان الوصول إلى تسوية حول القدس، تمنح معها الأماكن المقدسة وضعًا خاصًا، ولكن المدينة يجب أن تظل موحدة، من الناحتين السياسية والقانونية”.

ـ وثيقة جاليلي 1973؛ وهى الوثيقة التي شكلت أساس برنامج حزب العمل في انتخابات الكنيست التي جرت في ديسمبر 1973، وجاء فيها في ما يتعلق بالقدس: “القدس وضواحيها: استمرار الإسكان والتنمية الصناعية في العاصمة وضواحيها، لتثبيت الأقدام في ما وراء مجالها، ويبذل جهد في سبيل تحقيق هذا الهدف لشراء أراضي، وتستغل أراضي الدولة في نطاق المنطقة الواقعة شرق القدس وجنوبها”.

ـ مشروع حزب مبام 1976؛ وهو المشروع الذي طرحه فران، أحد الزعماء البارزين في حزب مبام، ويتعلق أساسًا بالقدس؛ وجاء فيه: “تعتبر القدس الموحدة عاصمة إسرائيل.. ويتم سن قانون القدس، كجزء من القوانين الأساسية لدولة إسرائيل حيث تحدد فيه المكانة الخاصة للقدس”(!!).

ـ مشرع رعنان فايتس 1976؛ وهو المشروع المطروح من جانب رئيس قسم الاستيطان في الوكالة اليهودية منذ 1963، ونشرته صحيفة “عال همشمار” في 7 أكتوبر 1976، وجاء فيه: “تتكون الدولة من ثمانية ألوية، وستكون عاصمتها القدس، التي سوف تشكل لواءً قائمًا بذاته، ومقرًا للحكومة المركزية”.

ـ مشروع بيجين “الحكم الذاتي” 1977؛ وطرحه مناحيم بيجين، من خلال خطاب ألقاه في الكنيست يوم 28 ديسمبر 1977، وتضمن مشروعًا عبارة عن مجموعة من الأسس لتحقيق تسوية سلمية مع العرب؛ وتناول المشروع القدس كما يلي “في ما يتعلق بإدارة الأماكن المقدسة للديانات الثلاث في القدس، يصدر ويقدم اقتراح خاص يضمن حرية وصول أبناء جميع الديانات إلى الأماكن المقدسة الخاصة بهم”.

ـ مشروع يعقوبي 1988؛ وقام بطرحه وزير المواصلات الإسرائيلي، وأحد زعماء حزب العمل، الداعين إلى تسوية القضية الفلسطينية في منتصف ديسمبر 1988؛ وقد تناول يعقوبي القدس ببند خاص، جاء فيه: “لن تكون القدس موضوعًا للحوار مع الفلسطينيين، وسيتم بحث أية ترتيبات ممكنة، تستهدف مراعاة الحساسيات الدينية للعرب في القدس، ولكن في وقت متأخر”.

ـ مشروع شارون 1989؛ وهو المشروع المقدم رسميًا من شارون وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق يوم 29 مارس 1989، بهدف وقف وتصفية الانتفاضة، وجاء فيه حول القدس: “يجب أن نوضح أن القدس ستبقى موحدة، دون أي مكان للآخرين فيها، وفي أي تسوية يتم التوصل إليها، فإن الأمن سيبقى بأيدي إسرائيل، والجيش الإسرائيلي و”الشين ـ بيت” سيكون لهما مطلق الحرية في الحركة والعمل”(!!).

ـ مبادرة السلام “الإسرائيلية” 1989؛ وهى المبادرة التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية برئاسة إسحاق شامير في 14 مايو 1989، بخصوص إنهاء حالة الحرب مع الدول العربية والحل لعرب الضفة الغربية وقطاع غزة والسلام مع الأردن، ولكنها لم تتطرق إلى القدس نهائيًا. ويكفى أن نقتطع من خطاب شامير أمام اللجنة المركزية لليكود، في جلسة خصصت لمناقشة المبادرة، الفقرة التالية: “… طرح بعض الأعضاء نقاطًا مختلفة، تتعلق بمبادرة السلام. فقد طرحوا، مثلًا، موضوع القدس.. إن القدس ليست جزءًا من المبادرة، القدس عاصمة شعبنا الأبدية، وعاصمة دولتنا الأبدية”.

وبعد..

فمن خلال هذه الرحلة السريعة داخل مشروعات التسوية التي طرحت من جانب “الاستراتيجيين الإسرائيليين” لا نعتقد أننا في حاجة إلى الإجابة عن التساؤل المثار في بداية الحديث، خاصة في ظل ما هو معروف ليس فقط عن رؤية الحكومات الإسرائيلية التالية؛ ولكن أيضًا في ظل الملامح العامة لعملية التسوية المتعثرة راهنًا… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock