فن

الانبياء والصحابة في الدراما.. منع غير مبرر وتناول نمطي وضعيف

رغم حديثنا المتواصل عن الانبياء والصحابة وتناول سيرتهم وافعالهم في قصص متوارثة نحفظها عن ظهر قلب و ننقلها جيلا بعد جيل، الا اننا نقف دائما ضد اي محاولة لتناول هذه القصص والسير في عمل فني، بحجة انها شخصيات مقدسة لا يجوز تجسيدها، و كيف لممثل قدم اللص والقاتل ان يجسد شخصية نبي او صحابي جليل، وذلك اعتقادا من صاحب هذا الرأي ان الجمهور من السذاجة حيث يختلط عليه الامر بين تجسيده للصحابي و اي شخصية درامية اخرى، وبسبب هذا الراي حُرم الجميع من اعمال درامية تُجسد و تحكي لنا هذا التاريخ الكبير لشخصيات لها أثر كبير وعظيم في تاريخ الوطن العربي والاسلامي كله، شخصيات كان يجب ان تُقدم للاجيال الجديدة كنموذج و قدوة او حتى كجزء من تاريخ هذه الامة.

البداية كانت في 26 مايو عام 1926 عندما اعلنت مجلة المسرح عن وصول مدير شركة اجنبية (ماركوس الالمانية) للتعاقد مع يوسف بك وهبي لتجسيد شخصية الرسول في فيلم “النبي محمد” بوساطة المخرج وداد عُرفي، ثم قام يوسف وهبي بعدها بنشر صوره بماكياج وملابس الشخصية، وتعرض وقتها لعاصفة من الهجوم والنقد، حيث كتب الصحفي عبد الباقي سرور في صحيفة الاهرام ان تجسيد يوسف وهبي لشخصية النبي محمد استهزاء بالدين واهانة للرسول ولكل المسلمين خاصة وان صور يوسف وهبي بالملابس والماكياج كانت اقرب لـ راسبوتين والتي قدمها يوسف على المسرح او هكذا اعتقد الرافضين للأمر، ونشر يوسف وهبي بيان للرد على هذه المقال وانه قصد من تجسيد النبي محمد توضيح عظمة هذه الشخصية للمجتمع الاوربي وانه في حال رفضه للعمل سوف يقوم ممثل اجنبي اخر بتجسيدها وهو لا يعلم عن الرسول اي شيء واضاف وهبي انه اكثر الناس غيرة على الاسلام والرسول، وطالب وهبي في البيان برأي رجال الدين في هذا الامر، ثم قام الملك فؤاد وقتها بتهديد يوسف وهبي بالنفي وسحب الجنسية وقامت وزارة الداخلية بالتحقيق معه ثم اصدر الازهر فتوى تحريم تجسيد الانبياء والصحابة، واضطر يوسف وهبي لرفض الفيلم وتقديم اعتذار للأزهر و للملك والجمهور، وبعد سنوات اعلن يوسف وهبي ان الفيلم تم انتاجه وان من جسد شخصية الرسول ممثل يهودي ولكن لا نعرف كيف ظهرت الشخصية.

وفي عام 1938 قدم المخرج محمد عبد الجواد فيلم “حياة والام المسيح” من تأليف انطوان عبيد و مراجعة د. طه حسين عميد كلية الاداب وقتها، وحصل الفيلم على موافقة شيخ الازهر ( محمد مصطفى المراغي) وهو ما يعني انه لا مانع ديني من ظهور و تجسيد الانبياء في السينما، الفيلم من بطولة احمد علام (المسيح) عزيزة حلمي (مريم العذراء) سيمحة ايوب (مريم المجدلية) و عدد كبير من النجوم، و تم تنظيم عرضا خاصا للفيلم حضره رجال الدين الاسلامي والمسيحي وعددا من الوزراء وعددا كبيرا من نجوم التمثيل في مصر وقتها، حيث يعتبر اول فيلم مصري وعربي يتناول حياة احد الانبياء.

واستمر هذا المنع بعد ذلك، حتى عندما قدمت السينما المصرية عددا من الافلام عن بداية الدعوة للاسلام وما تعرض له الرسول والمسلمين الاوائل من تعذيب وذلك من خلال افلام ” فجر الاسلام، ظهور الاسلام، الشيماء، هجرة الرسول، بلال مؤذن الرسول” لم يظهر الرسول ولا اي من الصحابة واكتفى صُناع هذه الافلام بالشخصيات الدرامية هربا من ازمة تجسيد النبي والصحابة وبالطبع احدث هذا الامر خللا كبيرا في الدراما، خاصة مع التناول الساذج والسطحي لهذه الفترة وما بها من احداث، حيث ظهر الشخصيات بشكل كاريكاتوري اقرب للكوميدي، المسلمين باللون الابيض مع اضاءة شديدة على وجوههم والكفار باللون الاسود وماكياج حاد و منفر وطريقة اداء مبالغ فيها، و لم يخلو اي من هذه الافلام من قصة حب بين الابطال ظنا من صُناع هذه الافلام ان الجمهور لن يُقبل على اي عمل الا من خلال قصة حب ملتهبة و رومانسية، ويعتبر فيلم بلال مؤذن الرسول هو الفيلم الوحيد في هذه الفترة الزمنية  الذي تناول شخصية حقيقة من الصحابة وبعد موافقة الازهر وهو ما يؤكد ان القبول والرفض مجرد اجتهاد شخصي.

في عام 1976 قام المخرح السوري مصطفى العقاد بانتاج فيلم الرسالة بنسخة اوربية بطولة انتوني كوين واخرى عربية بطولة عبد الله غيث وحصل الفيلم وقتها على موافقة الازهر الشريف والمجلس الشيعي اللبناني، وبرر الازهر الموافقة بأن المنع يشمل الانبياء و العشرة المبشرين بالجنة وحمزه ليس منهم، كما ان المذهب الشيعي لا يمنع تجسيد الانبياء والصحابة، وبدأ تصوير الفيلم في صحراء المغرب ونتيجة لضغوط سعودية لاثبات انها المرجعية الدينية في الوطن العربي وليس الازهر، اضطرت المغرب لرفض الفيلم ومنع تصويره، واضطر العقاد للانتقال إلى ليبيا لاستكمال تصوير الفيلم حيث وجد دعما كبيرا من الحكومة الليبية ومن الرئيس القذافي الذي حاول التقرب للعرب بهذا العمل بعد فشله في تصدير نفسه كـ جيفارا او كاسترو العرب، كما شارك في التمويل امير الكويت كجزء من صراع القوة مع السعودية في الخليج، واستمر منع الفيلم 22 عاما وكان سبب المنع من الازهر ايضا و مبرره أن حمزه من اهل الجنة ولا يجوز تجسيده !! و صرح العقاد وقتها انه وجد صعوبة شديدة في هذا الفيلم لان العمل يتحدث عن الرسول والرسالة ومع ذلك هو مضطر لعدم اظهار شخصية الرسول والصحابة رغم ان وجودهم طبيعي وهام في الاحداث والدراما وهو ما استدعى الحديث عن  حمزه لانه غير ممنوع ظهوره، كما ان الاوربيون لم يعتادوا على فيلم يتحدث عن شخصيات لا تظهر امامهم وهو ما جعل كل شركات الانتاج في هوليوود ترفض انتاجه او حتى المشاركة في انتاجه الا شركة واحدة وافقت و طلبت ان يُجسد محمد علي كلاي شخصية بلال او وحشي، ولكن العقاد رفض حيث رأى ان وجود كلاي سوف يصرف نظر وانتباه الجمهور عن قصة الفيلم والمغذى منه، هذا الرفض ادى لانسحاب الشركة وايضا غضب كبير في امريكا خاصة من الاميريكيين ذوو الاصول الافريقية.

https://www.youtube.com/watch?v=Wcfo0x_Vp78

وفي عام 1994 قام يوسف شاهين بكتابة فيلم “يوسف وأخوته” بمشاركة رفيق الصبان و قدم السيناريو للأزهر الذي اعترض بشدة ورفض الفيلم، اضطر يوسف ورفيق باجراء بعض التعديلات على السيناريو وتقديمه للرقابة مباشرة دون الرجوع للازهر وتكتم خبر الفيلم حتى ينتهي من تصويره ويصبح امرا واقعا، ولكن وصل الخبر إلى احد النقاد والذي قدم عِدة شكاوي في شاهين، شكوى للازهر اتهمه بإهانة الانبياء والرموز والمقدسة وشكوى للمخابرات اتهمه بالتمويل من الصهانية لتزييف التاريخ المصري لصالحهم، وطالب الازهر بالسيناريو لمراجعته وابداء الرأي فيه وعندما انتهى الازهر من الفحص والرفض كان شاهين انتهى من تصوير الفيلم وتم طرحه في دور العرض، وتم رفعه من السينمات بعد ايام قليلة، ولجأ شاهين للقضاء لعودة الفيلم مرة اخرى للسينمات وبالفعل حكمت المحكمة بعرضه مرة اخرى، و كتب شاهين على افيش وتتر الفيلم انه من وحي الخيال ولا يُجسد اي شخصيات دينية او تاريخية، ولكن ظل الفيلم حتى اليوم ممنوعا من العرض التليفزيوني.

وفي المسرح حاول الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي والمخرج كرم مطاوع عام 1972 تقديم عرضا مسرحيا ” الحسين ثائرا” يتناول سيرة الحسين وال البيت وما حدث لهم في الفتنة الكبرى وقتلهم من اجل البيعة وطمع اليزيد في الخلافة، وبالطبع رفض الازهر هذا العرض وكان له عِدة ملاحظات قام الشرقاوي بتنفيذها كلها مثل تغيير اسمالمسرحية من ثأر الله إلى الحسين ثائرا وان يكون الحوار عن طريق راوي حيث يقول عبد الله غيث في البداية ” يقول الحسين” وتقول امينة رزق “تقول السيدة زينب” ومع ذلك استمر الرفض لان السبب الحقيقي للرفض كان اعتقاد النظام ان العمل يُحرض الناس للخروج ضد السادات بالاضافة لموقف الازهر من تجسيد ال البيت والصحابة مهما التزم الشرقاوي يتنفيذ اي توصيات او ملحوظات، وخاطب الازهر وزارة الثقافة بمنع تقديم العرض، ولكن اصرار كرم مطاوع على هذا العمل جعله يستمر في تقديم البروفات رغم التحذيرات والتهديدات وهو ما قابله بفتح ابواب المسرح امام الجمهور لحضور البروفات لمدة شهر كامل في تحدِ كبير للجميع، اضطرت وقتها الشرطة لحصار المسرح ومنع الجمهور والممثلين من الدخول وبعدها قدم مطاوع استقالته من المسرح، و استمرت محاولات الشرقاوي وكرم مطاوع لعرض المسرحية حتى وفاة الشرقاوي عام 87 و وفاة كرم عام 96، وبعد ثورة يناير حاول كل من جلال الشرقاوي وعصام السيد الحصول على موافقة الازهر إلا انهم فشلوا ايضا.

قصة الحسين ثائرا كانت تمثل عشقا خاصا للراحل نور الشريف والتي ظل سنوات يحاول اقناع الازهر ان يقدمها في عمل فني ” سينما او تليفزيون” وبالطبع قوبل طلبه بالرفض، حتى انه تعهد باعتزال التمثيل بعد هذا العمل احتراما لشخصية الحسين ولكنه لم ينجح في اقناعهم.

والدراما التليفزيونية رغم انتاجها الوفير من الاعمال التاريخية والدينية الا انها لم تكن افضل حالا من السينما، حيث قدمت العديد من الاعمال التي تناولت سيرة الانبياء و الصحابة ولكن دون ظهورهم واكتفت بظلال و نور، كما في مسلسلات ” لا اله الا الله ، على هامش السيرة، محمد رسول الله، الوعد الحق” حيث قدمت شخصيات الانبياء كافه وايضا الصحابة عبارة عن ظلال و نور والحوار قيل من خلال راوي ” يقول محمد، يقول ابراهيم، يقول موسى، يقول عمر” واتسم التناول بالسطحية والنمطيه كما في السينما.

وكان التحول الكبير من خلال الدراما السورية والتي ظهرت منافسا و نِدا قويا للدراما المصرية، حيث قدمت العديد من الاعمال الدرامية التي تناولت سير الصحابة وتاريخ الاسلام من خلالهم و تم تجسيد كل الشخصيات دون حرج او منع ” عُمر، الحسن والحسين” وحققت هذه الاعمال نجاحا كبيرا رغم رفض الازهر لها، لكن مع وجود العديد من القنوات الفضائية العربية اصبح المنع والحجب امر مستحيلا وتابع الجمهور العربي هذه الاعمال وهو ما شجع صُناعها على تقديم المزيد منها.

https://www.youtube.com/watch?v=GLHXV5-5CUc

قد أتفهم فتوى منع ظهور وتجسيد الانبياء لما لهم من قدسية و مكانه خاصة، لكن قرار وفتوى منع الصحابة امر يحتاج إلى مراجعة، هم بشر مثلنا ولا يُوحى اليهم وعاشوا اكثر من نصف عمرهم يعبدوا الاصنام ولا قدسية لهم، و من غير المنطقي اننا بعد كل هذه السنوات نستمر في اظهارهم من خلال ظلال و نور و حوار على لسان شخصيات اخرى، هذا المنطق حرم اجيال كثيرة من رؤية سير هؤلاء العظماء ومنعت تجسيد جزء هام من تاريخ الامة، في الوقت الذي قدم اخرون سير الصحابة بل والانبياء كما في الدراما الايرانية ونالت اعجاب الجمهور نتيجة تميزها في العرض والتناول،  كما لم يحدث للجمهور اي خلط بين الممثل والصحابي الذي جسده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock