عرفت المجتمعات المُتحضرة فكرة الحياة الحزبية بعد سنوات قليلة من الثورة الفرنسية ، فسمعنا عن الدستور القائم على فكرة العقد الإجتماعي التي أسسها ودعا اليها عدد من مفكري الغرب قبل الثورة الفرنسية وبعدها ، مُتمثلة في فكرة الفصل بين السلطات ” السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية”.. والتي لا ينبغي أن تّطغىّ إحداها على الأخريّ.
كانت محاولات رفاعة الطهطاوي والشيخ حسن العطار ومحمود سامي البارودي ومحمد عبده والأفغاني وغيرهم في نقل النموذج الغربي الحديث في الحياة البرلمانية هو الجُهد الرائد في الشرق كله لتحديث النظام السياسي المصري ثم العربي بعد ذلك ، فقد نجح أحمد عرابي وعدد من رفاقه في تأسيس أول حزب سياسي مصري بالمعنى المُتعارف عليه في الفقه التشريعي والتنظيمي خلال السنوات الأخيرة من حكم الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر بين عام ١٨٦٣الى عام ١٨٧٩ حيث خلعته بريطانيا في تلك السنة ، غير أنه يُحسب لهذا الحاكم المُستنير، أنه لجأ إلى الشعب ليتحصن به في مواجهة التحالف البريطاني الفرنسي مُمثلاً في نظام الرقابة الثنائية لكلا الدولتين على كافة شؤون الحياة المصرية ، فما كان من الخديوي إسماعيل إلى الإسراع بتأسيس أول مجلس نيابي مصري ويُشكل حكومة مسؤولة أمام المجلس ليصد غائلة هذا التحالف الإستعماري البغيض …
الحديث في ذلك المجال يطول ، غير أن مصر دخلت القرن العشرين وهي حُبلىّ بالثورة والغضب إثر انكسار الثورة العٌرابية في عام ١٨٨٢ ، فعرفت البلاد تكوين الأحزاب وفق النمط الأوروبي ، وبدأت المحاولات الدؤوبة للخروج عن سيطرة الخلافة العثمانية ، وكانت ثورة الشعب المصري في سنة ١٩١٩ إيذاناً بالقطيعة مع الغرب ، قطيعة بدت خجولة في بادئ الأمر مُمثّلة في إعلان الإستقلال المنقوص في عام ١٩٢٢ ، ثم ما صدر عنه بسنة واحدة في وثيقة دستورية ليبرالية في عام ١٩٢٣ ، أي دستور ٢٣ ….
إلاّ أن السنوات القليلة التي تّلّتْ صدور هذا الدستور جاءت بحدثين بالغي الأهمية ، الأول هو ” إعلان سقوط الخلافة العثمانية في مارس عام ١٩٢٤ ” أما الثاني فهو تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية في ٢٢ مارس عام ١٩٢٨ …
وكما هو واضح أن ثمة محاولة من مؤسس الجماعة “حسن البنا ” لإستعادة الدور المفقود بسقوط الخلافة العثمانية ، دون أن يقف كثيراً عند أسباب سقوطها ، وهي الفساد والإستبداد معاً ، واستخدام الدين مظلة لكل ماهو فاسد من أفعال الطُّغَاة والمستبدين من الحُكّامْ …
فماذا عساه أن يفعل الأستاذ ” البنا” بعد تأسيسه لجماعته؟؟
ماكان عليه سوى ترويج حملته الدعوية وإيصالها إلى من يطمع في وراثة خلافة آل ” عثمان ” التي هدمها وقضىّ عليها ” مصطفى كمال أتاتورك” في عام ١٩٢٤ ، وكان الملك ” فؤاد ” ملك مصر هو أول من راودته أحلام الخلافة ، ووجد في جماعة الإخوان الساعية اليه خير سند ، لكنها أحلام لم تستمر طويلاً ، فقد أصطدم بكتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” لمُفكر مستنير وشجاع هو الشيخ ” علي عبد الرازق ” ليُثبت بالأدلة والبراهين التاريخية والشرعية والفقهية ، بان الخلافة ليست من صحيح الإسلام ، وأن الأصل في الإسلام ، هو الحكومة المدنية لا الدينية ، فالدولة الأموية تُسمى الدولة ” الأموية ” فقط وليست الدولة الأموية الإسلامية وهو الأمر نفسه مع الدولة العباسية والإمبراطورية العثمانية ، وأقام الشيخ ” عبد الرازق ” حجته على صحة ما ذهب اليه ، بالقراءة المُدققة والشرعية والفقهية ل ” وثيقة المدينة ” التي بمُقتضاها ووفق نصوصها أدار “رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ، الحُكمْ بين أهل المدينة من مسلمين ويهود ومسيحيين ، ومنح لكل صاحب كتاب سماوي الحق بأن يحكم بما يخصه من أحوال العقائد والأحوال الشخصية كما جاء في نصوص كتابهم …
وعندما أدرك ” حسن البنا ” أن المُناخ الليبرالي الذي جاء مع دستور ١٩٢٣ لن يسمح بوجود تلك الدعاوى بالوجود والبقاء في مصر ، بادر بالذهاب إلى المملكة العربية السعودية ليعرض الأمر نفسة على العاهل السعودي ” الملك عبد العزيز ” ، حيث كان من ضمن من ذهبوا إلى الملكة لأداء فريضة الحج عام ١٩٣٦ ، وعندما إلتّقىّ العاهل السعودي الأستاذ ” البنا” ضمن مجموعات كثيرة إلتقاها آنذاك ، دعا الى إنشاء فرع للجماعة في أراضٍ المملكة ، فما كان من الملك عبد العزيز أن قال له:
“ان كل سكان المملكة إخوان مسلمين ، ولا داعي لما تطالب به” …
وبدت محاولات ” حسن البنا” في ذلك اللقاء لإحياء الخلافة الإسلامية تصطدم بجدار الرفض كما حدث في مصر ، إلاّ أن عدد من مؤرخي حياة ” ابن سعود ” مثل ” أمين الريحاني ” وغيره ، يقولون إن حكام المملكة أخذوا فقط من التراث العثماني تلك الصفات التي كان يحتكرها الخليفة العثماني من بينها التحالف مع القبائل، وتحريض بعضها ضد بعض ، ونفي الخصوم ، أما موضوع الخلافة فلم تكن الظروف العامة والإقليمية والدولية تسمح بها لأسباب يطول شرحها ….
إلاّ أن ” حسن البنا” وجد ضالته خلال دراسته للتجربة السعودية في أمرين بالغي الأهمية ، أولاهما:
أن الملك عبد العزيز ، وحّدّ أقاليم الجزيرة العربية بقوة السلاح ، وذلك بتجنيد الشباب في جماعات سميت ” الإخوان ” والهجرة إلى الصحراء والتدريب على فنون القتال وأساليب الحرب وذلك في سنوات العقد الثاني من القرن الماضي ، أي مابعد عام ١٩١٤ ، سنة وضع مصر تحت الحماية البريطانية ، وقبل تأسيس الأستاذ ” البنا” جماعة الإخوان بنحو خمسة عشر عاماً ، أما الأمر الثاني ، فهو المرجعية الدينية السلفية كما يُجسدها المذهب الوهابي المُتشدد كإطار فقهي ومذهبي للدولة الجديدة ، المملكة العربية السعودية …
” حسن البنا ” الذي ذهب ليقنع العاهل السعودي بفكرة الخلافة ، عاد من زيارته للمملكة بفكرة واحدة بدت مُسيطرة على كل كيانه ” لماذا لايكون هو خليفة المسلمين ؟
ولماذا لا يحمل السلاح هو وجماعته لتأسيس دولة الخلافة الموعودة؟ ..
منذ تلك اللحظة ودّعّ ” حسن البنا ” مرحلة العمل الدعوي التي استمرت نحو عشر سنوات من سنة التأسيس أي عام ١٩٢٨ إلى عام ١٩٣٨ ، فقد بدأ في تأسيس فرق الكشافة والجوالة وتكوين الجهاز السري المُسلح ، والتوجه بأقصى سرعة إلى أن يكون خليفة للمسلمين مؤسساً لدولة الخلافة المأمولة ، فهو ” الإمام ” المُرتجى والمُرتقب ، وجماعته ” هم جماعة المسلمين ” وليست ” جماعة من المسلمين ” !!
أما أتباعه هم أصحاب الملة وأساتذة العالم ، وغير ذلك هم الْكُفَّار ودولتهم هي دولة الْكُفْر وحصن الجاهلية البائدة !!!…
على هذا النهج الإقصائي سار الخّلف على درب السلف ، وبدت المحاولات خجولة بعد اغتيال ” حسن البنّا ” في فبراير ١٩٤٩ ، فلم يُسمع للجماعة بعد اغتيال مؤسسها صوتاً غير صوت السلاح والتخريب والإغتيالات ، رغم أن آخر كلمات ” البنّا ” هي وصفه لمن اغتالوا رئيس الوزراء ” النقراشي باشا ” والقاضي ” الخازندار ” وحكمدار القاهرة ” سليم زكي ” وغيرهم ، أن مافعله هؤلاء من أعضاء التنظيم السري المسلح ” ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين ” !!
يقولها بمنطق ” التقية ” المعمول بها عند الشيعة ، وهي التصريح بغير ما يُبْطِن ، وبهدف رّد العقاب عنه وعن جماعته !!!
كانت آخر كلمات الندم هي ” والله لو استقدمت من الأيام ، ما استدبرت ” .
أي ما كونت تنظيماً مسلحاً للجماعة ” !!
قالها لعضو الجماعة الدكتور ” عبد العزيز كامل ” الذي أصبح فيما بعد ، وبعد انشقاقه عن الجماعة وزيراً للأوقاف في زمن ” عبد الناصر ” …
بعد اغتيال ” البنّا ” جاء خليفته القاضي ” حسن الهضيبي ” مُرشداً للإخوان ، والذي أدرك أنه بعد شهور من القيادة ، أنه بات رمزاً أقرب الى الصورة ، فالتنظيم المُسلَّح بقيادة ” عبد الرحمن السندي ” كان صاحب اليد الأولى والطولىّ في أي قرار !!!
وكان حادث محاولة اغتيال الرئيس ” جمال عبد الناصر ” في ميدان المنشية في ٢٦ اكتوبر عام ١٩٥٤ بداية فصل جديد في صدام الجماعة مع الدولة …
كان العنف والقتل يضرب بغير وعي ، كان الأمر يحتاج الى مُفكر ومُنظر لكي يعطي للإرهاب غطاءاً ومنهجاً !!
هنا ظهر ” سيد قطب ” في منتصف الخمسينيات فيلسوفاً للعنف والقتل والتكفير وإزاحة كل من يعترض أهدافهم من الطريق ، وأولهم من ينافسهم عَلى مواقع السلطة والقرار !!
والعودة الى مفردات ما حدث غداة رحيل ” مبارك ” في يوم الحادي عشر من فبراير يقدم أكثر من دليل !!
وتلك قصة أخرى !! ..)