ثقافة

أهداف سويف و”خارطة الحب” (1-2)

عندما انتهيت من قراءة هذه الرواية البديعة، تذكرت مقالة منشورة في مجلة المصور الأسبوعية القاهرية، للدكتور “عبدالعظيم أنيس” عالم الرياضيات الشهير والمناضل الكبير والناقد الأدبي في نفس الوقت، عن أهمية عملية التصنيع في مصر.

كانت تلك الفترة في مُنتصف الستينيات من القرن الماضي، كانت فترة التحولات الكبرى في تاريخ الوطن على كل صعيد.

في هذه المقالة تحدّث الدكتور “أنيس” عن أنَّ هناك ثلاثة أنواع من الصناعات هي: “الصناعات الصغيرة، والصناعات التحويلية، ثم الصناعات الثقيلة” وقد عرّف كل واحدة من هذه الصناعات بما يتفق مع أصول العلم، ولكنَّه دعا إلى أهمية بناء منظومةٍ مُتكاملة من الصناعات الثقيلة في مصر؛ إذا أردنا أن نتقدم.. فالصناعة الثقيلة هي المعنية بتصنيع الآلات التي تقوم عليها كل صناعة.

تذكرت هذه المقالة الرائدة عندما وصلت إلى الصفحة الأخيرة من تلك الرواية الرائعة التي وصلت صفحاتها إلى ٤٦٠ صفحة من القطع الكبير وغير المُعتاد في نشر الأعمال الروائية، والتي صدرت عن دار “الشروق” المصرية سنة ٢٠٠٣، فذلك العمل الإبداعي الفريد هو ما ينطبق عليه تعبير “الصناعات الثقيلة” بحق وبصدق!.

عبدالعظيم أنيس
عبدالعظيم أنيس

فقد استطاعت “أهداف سويف” أن تُقدم عملا رائدا –بكل المقاييس– في عالم الإبداع والسرد العربي، عملا من الصعب أن يتشابه مع أعمال عربية أخرى، سوى ثلاثية “نجيب محفوظ” “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” رغم الاختلاف  في البناء المعماري القصصي، ورغم الاختلاف في الفترة الزمنية التي يتناولها هذين العملين، لكنَّ التشابه –هنا– يأتي في طبيعة التأريخ الذي تناوله “نجيب محفوظ” و”أهداف سويف”.. ففي الوقت الذي أرَّخ أديب “نوبل” لتلك الفترة المُمتدة من تاريخ مصر بين ثورتي ١٩١٩، وثورة يوليو ١٩٥٢، فإنَّ “سويف” تناولت السنوات الأولى من القرن العشرين من حياة مصر، تلك السنوات المُمتدة بين  عامي ١٩٠٠، و ١٩١0، فيما تحدثت “أهداف” بصورة سردية موازية عند وقائع عصرية تبدأ من سنة ١٩٩٧، وحتَّى سنة ٢٠٠٠ أي بداية الألفية الجديدة من حياة مصر والعرب والعالم.

هذه الرواية “الثقيلة” بمعنى الإطراء والإشادة، هي في الأصل منشورة باللغة الانجليزية، فمؤلفتها هي “أهداف سويف” ابنة عالم الاجتماع والمفكر الكبير، الدكتور “مصطفى سويف” صاحب الأبحاث الرائدة في علم الاجتماع،  وعلم النفس في تاريخ مصر، وابنة الدكتورة “فاطمة موسى” أستاذة الأدب الإنجليزي، التي قامت بترجمة هذا العمل الكبير الى لغة الضاد، فجاء النص آية في الجمال والدقة والروعة، ورغم ذلك كان من الصعب على القارئ، أي قارئ، سواء القارئ المُتخصص أو العادي أن يواصل القراءة، فالنص لا يقدر عَلى كتابته سوى من أخذ عهدا على نفسه أن يكتب عملا إبداعيا مميزا ورائدا، أو لا يكتب.

والأمر نفسه ينطبق عَلى المترجم، أو القارئ!.

 إلى هذا الحد نجحت “أهداف سويف” في الإبداع، ونجحت الدكتورة “فاطمة موسى” في الترجمة، ولذلك كان من صور الوفاء أن تُهدي الابنة هذه الرواية البديعة الى أمها:

“إلى أمي فاطمة موسى، منها بدأت، واليها أرجع”.

تخاطب أمها كأنَّها “أمُّنا الأرض” فالارتباط وثيق بين أفراد هذه العائلة المصرية الوطنية الرائدة، من ناحية وارتباطهم بالوطن وكل تطوراته وتحولاته من ناحية ثانية.

 فرغم حياة “أهداف سويف” الموزعة بين مصر وبريطانيا؛ إلا أنَّ تلك المُبدعة التي ولدت في مارس من عام ١٩٥٠، تشعرك من وقائع حياتها، ومن نصوص إبداعاتها أنَّها تذوب عشقا في هذا الوطن، ولا أقصد مصر فقط، ولكن –أيضا– قضايا قومية وإنسانية كبرى نذرت نفسها وثقافتها، من أجل الدفاع عنها.. قضايا الديمقراطية والتحرر الوطني العربي، وخصوصا قضية فلسطين، التي لم يعد يتذكرها أحد الآن!.

تتوزع وقائع رواية “خارطة الحب” عَلى أربعة أقسام هي:

“بداية، نهاية بداية، بداية نهاية، ثم نهاية” وهي تمتد عَلى ٢٩ فصلا، وتتحدث عن قصة حب رائعة وعظيمة بل وخالدة بين “شريف باشا البارودي” السياسي المصري الوطني، وابن أخ “محمود سامي البارودي” شاعر السيف والقلم وأحد كبار زعماء الثورة العُرابية، ورئيس وزراء الثورة، والليدي “آنا ونتربورن” التي تنتمي إلى الطبقة العليا البريطانية، بكل ثقافتها وتقاليدها العريقة والاعتزاز  بالنفس، فضلا عما حباها الله من جمال مُبْهر وشخصية آسرة، اجتمعت عندها كل صفات النُبل والسمو والحب والوعي، فهي صاحبة جملة رشيقة، وقدرة مُذهلة في التعبير عما يجول بخاطرها عندما تُمسك بالقلم، وموهبة رائعة في الرسم، عندما تجلس أمام “النول” فتُخرج أجمل اللوحات من نسج يديها وصميم ذوقها!.

أهداف سويف
أهداف سويف

الليدي “آنا ونتربورن” هي أرملة ضابط شاب هو “إدوارد تشارلز” ابن السير “تشارلز” الذي يؤمن بتحرر الشعوب التي طالها الاحتلال البريطاني، ومن بينها مصر، والذي ناله من سياسة بلاده الحمقاء والإمبريالية كارثة طالت ابنه “إدوارد” الذي أصرّ عَلى المشاركة في حملة بلاده عَلى السودان، بدعاوي وطنية زائفة، لإجهاض وتحطيم الثورة المهدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، فجاء بقايا إنسان لهول ما رآه من مذابح وحرق الآلاف من السودانيين دون جريرة، وبقسوة يشيب لها الولدان.

  الضابط “إدوارد” الذي خالف رغبة أبيه بالسفر الى السودان، أدرك بعد فوات الأوان حكمة هذا الرجل، فسرعان ما غادر الحياة قهرا وعذابا نفسيا وهو في عمر الشباب، وترك وراءه زوجة صغيرة السن، باهرة الجمال، رائعة العقل، وترك –أيضا– ولحُسن حظها رجلا عظيما هو السير “تشارلز” ليكون لها الأب والمُرشد والموجه والراعي، والتي حملت عنه أفكاره ومُعتقداته في حرية الشعوب المُستعمَرة، والتي تلخِّصها كلماته بعد أن رأى ابنه يُلامس الموت، وبات عَلى وّشّك الرحيل، موجها خطابه إلى الليدي “آنا ونتربورن”:

“قلت له، نصحته، قلت له هذه ليست حربا شريفة، هذه حرب من صنع خيال الساسة، حرب لإرضاء تلك الأرملة الغارقة في إمبراطوريتها، الملكة “ڤيكتوريا” إمبراطورة الرعاع، آه.. ما الفائدة؟”.

 بهذه الروح العادلة، وتلك الرؤية التحررية لكل شعوب العالم، وبدافع الرغبة لمعرفة الحقيقة، ذهبت هذه السيدة العظيمة الى مصر، بعد أن غادر زوجها الحياة.. في عام ١٩٠٠ كان وصولها إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، ولأنَّها الليدي “آنا  ونتربورن” فقد وجدت نفسها في رعاية اللورد ” كرومر” الحاكم الفعلي لمصر والسودان، الذي أمام كلماته وقرارته وحتى نزواته وحماقاته لا يوجد في “بر مصر” من لم يردعه ولا يرفض له طلبا أو حتَّى إشارة، ابتداءً من الخديوي “عباس حلمي الثاني” إلى غالبية ساسة هذا الزمان!.

   ولكن هذا الزمان، زمن ” كرومر” العجيب، لا يعدم  من الشرفاء، فكان هناك الإمام “محمد عبده” و”مصطفى كامل” و”محمد فريد” و”أحمد لطفي السيد” و”قاسم أمين” و”طلعت حرب” و”يعقوب آرتين” والشيخ “علي يوسف” والشعراء “أحمد شوقي” و”حافظ إبراهيم” و”إسماعيل صبري” و”محمود سامي البارودي”..  ثم بطلنا “شريف باشا البارودي” المُحامي البارع، خريج الجامعات الفرنسية، والمثقف الكبير، وعضو الجمعية التشريعية، وسليل الثورة العُرابية، وحامل لوائها في التحرر؛ رغم الانكسار والهزيمة التي طالت وطأتها الثقيلة عمه “محمود سامي البارودي” الذي عاد إلى وطنه بعد سنوات النفي في سيلان بصحبة عرابي باشا فاقدا البصر، فضلا عن والده، الذي غادر الدنيا وهو عَلى قيد الحياة، واعتكف في بيته لا يكلم إنسيا حتَّى وصل إلى مشارف الموت.

محمود سامي البارودي
محمود سامي البارودي

ولأنَّ الأقدار لها حكمتها التي لا يعلمها سوى الله، فقد التقى “شريف باشا البارودي” بمن تُماثله في رؤيته بحق الشعوب في التحرر، فبقدر ما حمل التراث الثوري للثورة العرابية في وجدانه، وباتت غاية تحرير وطنه هي الغاية الكُبرىّ، بل هي الحياة.. ورثت هي –أيضا– عن السير “تشارلز” والد زوجها الراحل، كل فلسفة التحرر والعدل وحق الشعوب في الحرية.

 في يوم ” ٢٣ مايو ١٩٠١ “عُقد قران” ليدي آنا ونتربورن” المسيحية، الرشيدة البالغة، أرملة المرحوم كابتن “إداوارد ونتربورن” من الفرقة ٢١ “لانسرز” في جيش صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا العظمى، عَلى “شريف باشا البارودي” ، مُسلم، صاحب أملاك ومن الأعيان وعضو المجلس التشريعي ومهنته محامي”.

 هذا هو نص عقد الزواج بصيغته الرسمية. أمَّا شاهدا العقد فهما “حسني بك الغمراوي” زوج “ليلى هانم البارودي” أخت “شريف” باشا و”شكري بك العسلي” من أعيان فلسطين، ومن قادة حركتها الوطنية، ونسيب عائلة البارودي.

تصف الليدي “آنا ونتربورن” هذه اللحظة المجيدة في تاريخها فتقول: “وأنا أوقع العقد رنتْ زغرودة “مبروكة” وهي مُربية “شريف” باشا، زغرودة عالية صادقة، ولم يُفكر أحد في إسكاتها، عقدَ زواجنا الشيخ “محمد عبده” صديق “شريف” باشا، وإذا كان لأي إنسان القدرة عَلى منح البركة، فهي لهذا الشيخ الورع”.

منذ هذه اللحظة بدأت مرحلة جديدة، لا  في حياة “شريف” باشا وزوجته الليدي “آنا ونتربورن” فقط، ولكن في حياة مصر، وحياة تلك العائلة التي كتبت سيرتها “أهداف سويف” بكل اقتدار وإبداع، وامتدت رحلتها معها بين عصرين، عصر الاحتلال البريطاني لمصر ما بين سنوات العقد الأول من القرن الفائت، وتلك السنوات الأخيرة من نفس القرن، وقد نالت استقلالها، لكن عوامل نهضتها باتت هَمَّ أبنائها في عموم الوطن، وتلك الحلقة الأخيرة من عائلة “شريف باشا البارودي” والليدي “آنا ونتربورن”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock