فن

الإفلاس الموسيقي

ضجة بلا بهجة. إزدحام بلا إنسجام. فزع بلا مُتع. وفرة بلا خبرة. رغوة بلا نشوة. أعمال بلا جمال. هدر بلا سحر. قل ما شئت. تلك حالتنا الموسيقية اليوم. حالة إفلاس. أغان كثيرة. عازفون بلا حصر. مطربون يتوالدون كالأرانب. أسماء تلمع بسرعة وتنطفئ بسرعة. كلمات رفع بعضها برقع الحياء، وبعضها الآخر لم يفكر فيه من الأصل. هذا هو  واقع  الحال. فالقليل من الموسيقى يصلح اليوم للاستماع فما بالك بالاستمتاع. ولهذا تجد نفسك في ظل فوضى النغم الحاضرة مضطراً للعودة إلى الوراء. لتسكن الماضي وتفتش في الدفاتر القديمة. لتسمع أم كلثوم وتتجاهل “نجوم” اليوم. وهذه العودة في حد ذاتها إفلاس. أن تعيش في زمن وروحك معلقة بزمن آخر لدليل على إفلاس العصر الذي نحياه .

تتابع المشهد الموسيقي بهدوء حتى لا تظلم الجيل الجديد. تلتمس له فرصة تلو فرصة تلو فرصة. وبعد صبر وضبط نفس تجد نفسك تندب حاله تماماً مثلما تندب حالك. قلة قليلة منه فقط تستحق الثناء. والكثرة يجب عليها الفناء. فلا غناء ولا اعتناء ولا إرتقاء. مجرد كتلة صوتية-موسيقية مزعجة تعيش حالة إفلاس. معظم من يسمع ومن يغني أفلس. معظم من يكتب ومن يلحن أفلس. معظم من ينتج ومن يوزع أفلس. أقول معظم لأن هناك بالفعل أعمالاً حلوة. لكنها قليلة وخجولة. ممنوعة أو ممتنعة عن الريادة. غير منتشرة وغير مقدّرة. أما أكثر الأعمال ف تجارية وصبيانية. صاخبة وشهوانية. أنانية وفارغة. أعمال تحكي عنا وتقول: أنتم في حالة إفلاس موسيقية مزمنة.

إن كنت كبير السن لن تجد طرباً جديداً يشدك بسهولة أو صوتاً يفرض نفسه عليك. تلجأ إلى القديم. والقديم برغم جماله يبقى قديما. معادا ومكررا  فضلاً عن أنه ابن عصره بمعنى أنه مستهلك. وإذا كان تكرار الاستماع للقديم يشهد له بالجودة إلا أنه يشهد علينا بالإفلاس، وبأننا لم نعد قادرين على أن ننتج ما هو أفضل أو على أقل تقدير قريب من القديم في قيمته. حتى المحاولات الطيبة التي تُجري لإعادة توزيعه تظهر حالة الإفلاس الموسيقي التي نعيشها ولا تخبئها لأن الإبداع أن تأتي بجديد كامل وليس بتوزيع يبقى سجيناً في زي القديم. صحيح أن القديم ملجأ آمن للسميعة لكنه الملجأ الذي نشعر فيه أننا يتامى.

 أما لو كنت صغير السن فحالة الإفلاس تبدو أوضح. بداية لا يوجد أدنى شك في أن من بين صغار السن من يتمتع بأصوات جميلة وقدرات موسيقية طيبة. لكن معظمهم يفتقر بكل أسف إلى الذكاء الموسيقي. يستسلمون للتيار ولا يحسبون خياراتهم بدقة. يغنون الشيء ونقيضه. يغنون الحديث الفج بصخبه ولهوه وعبثه وإسفافه. والقديم العتيد بذكرياته وأشواقه. أصوات شابة لا تعرف لها ولا تعرف هي لنفسها هوية. والهوية للفنان هي أكسير الحياة. هي الفارق بين الوجود والعدم. بدونها يصبح مسخاً. قد يتصور بعضهم أنه يبدع وأن الناس تتلهف عليه لمجرد أنه يكرر أغاني السابقين ويعيد توزيع موسيقى العصر الذهبي. لا يلحظون أن الناس غالباً ما تجامل وأنهم مضطرون للاستماع من خلالهم للقديم طالما لا يوجد جديد راق يشدهم. مثل هؤلاء المطربين والموسيقيين يقللون من قيمة أنفسهم. فلن تستطيع أية مطربة تكرر أغاني أم كلثوم، مهما علت، أن تكون مثلها أو تقترب من قدراتها. ولن يتمكن مطرب يعيد تقديم أغاني محمد فوزي أن يصبح فوزي جديدا. وليس بمقدور عازف ماهر أن يصنع لنفسه مجداً لمجرد أنه يعيد تسجيل موسيقى السنباطي أو فريد أو عبد الوهاب. والسبب بسيط. الناس لديها تسجيلات العباقرة. لو أرادوا أن يسمعوا موسيقى الماضي فلماذا يسمعون التقليد ولديهم الأصل؟.

ثم يظهر العجب أكثر في الألحان. ثمة فقر لا يغتفر في توظيف المقامات. أغنيات جديدة ليس لها حصر تبدأ وتنتهي بمقام الكرد. فكان أن تشابهت الألحان مثلما تشابهت الأصوات. استسلم أغلب الملحنين للسوق ولشروط السوق بدلاً من أن يقاوموها ويفرضوا أنفسهم وإبداعاتهم عليه. استسهلوا المقامات والإيقاعات وبالطبع الكلمات… وإفلاس الكلمات وحده كابوس مفزع. هشاشة لا تطاق في الأفكار والمفردات. وأقول هشاشة على سبيل التهذيب. وبخلاف بعض الأصوات الطيبة، انتشرت أصوات منفرة يؤدي بعضها بخنف أو بعنف وبعضها ليس إلا عنواناً للتلف.

لم يعد حالنا الموسيقي مبهجا. لا المجتمع يقاوم الإسفاف الموسيقي كما يجب. ولا المبدعون قادرون على صد الموجة. ولا الدولة مهتمة بالأمر. ولم يكن الوصول إلى حالة الإفلاس الموسيقي غريباً بعد أن انفتح الباب أمام كل من هب ودب. أذكر في هذا الصدد ما قاله المؤلف الموسيقي الأمريكي الشهير “آرون كوبلاند”  “أن أي أديب لو كتب كلمتين عن الموسيقى فكلمة واحدة منهما ستكون خاطئة”. فما بالنا بحجم الخطأ عندما يعج مجال الموسيقى بزعيط ومعيط ونطاط الحيط، ومجهولين يقدمون أنفسهم بأريحية عجيبة على أنهم فنانون وموسيقيون.

بكل أسف، ما تزال العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من حقل الموسيقى. لقد عرفت الموسيقى العملة الرديئة في كل العصور. لكن العوالم في الأيام الخوالي مثلاً لم تكن لديهن ثقة وغرور أمساخ الموسيقى في زمننا هذا. كن  يجرين وراء لقمة عيشهن  لكن داخل كار العوالم. كن  يتنافسن مع عوالم من أمثالهن . أما الموسيقى بمعناها الوجداني السامي فكان لأهلها قدرهم ومكانتهم. كانت كل ألوان الموسيقى والفن موجودة. لكن الفرز كان جيداً وفعالاً ليرتقي إلى مصاف النجوم من يصلح ويستحق ويبقى في كار العوالم من يناسب طبيعتهن. أما اليوم فاختلط الحابل بالنابل. لم يعد السداح مداح الموسيقي يقل عن السداح مداح الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي. زادت الميوعة ولم يعد الإفلاس محصوراً في الموسيقى وحدها وإنما تغلغل في الثقافة بكل فروعها وتنويعاتها. إفلاس حوّل بغرابة عاهات إلى قامات وأقزاما إلى أعلام.

  وكما هو الحال في كل حالات الإفلاس، كان لا بد وأن تكثر الاستدانة. فالإفلاس إما أن يقع بسبب التوسع في الديّن أو قد تكون الاستدانة السبيل الوحيد للخروج منه. وقد استدان المفلسون موسيقياً من مصدرين: من التراث ومن الحداثة. أما التراث فلم يأخذوا منه حباً فيه أو حفاظاً عليه أو تعلماً منه، وإنما لأنه أعطاهم بلا تعب أو شروط أو مقابل. لجأوا إليه للاسترزاق والتربح فكان أن عبثوا به بدلاً من أن يرتقوا لمكانته ويضيفوا إليه. قدموا منه أعمالاً بأصوات تضج بالنشاز وبطرق أداء استدعت في بعض الأحيان اللجوء إلى القضاء. قدموا محفوظات قديمة ما تزال متاحة بأصوات أصحابها الأصليين. لكنهم أضافوا إليها بهرجة وتراقصا وصخبا إن ناسب شيئاً فلا يناسب غير الإفلاس التعليمي والفكري الذي يعيش فيه كثير من صغار السن. وكان أن صفق لهم وتراقص معهم الناس فأعادوا الأمر وزادوا فيه ما أوضح عمق حالة الإفلاس التي وصل إليها طرفا المعادلة الموسيقية: المطرب والمستمع. لم يعد المستمع يبحث عن جديد راق ولا يضغط من أجله. ولم يعد المطرب مهتماً بتقديم جديد خلّاق ولا يعبأ بالكيف بقدر اهتمامه بالكم.

https://www.youtube.com/watch?v=LNpOhPMKtU0

نفس الأمر ينطبق على المفلسين الذين لجأوا إلى الحداثة. اندفع أكثرهم إلى كل هابط وافد. لبسوا قفازات وسلاسل وملابس جلدية ووضعوا على عيونهم نظارات غريبة. رفعوا ذبذبة الميكروفونات. صرخوا ودسوا كلمات أجنبية بجانب الكلمات العامية الضعيفة التي اختاروها. تعلموا القفز ونسوا وقار الموسيقى. قدموا شكل الموسيقى ونسوا المضمون فتسببوا في كل مشاكل الموسيقى.

عمت حالة إفلاس موسيقية برغم المواهب الطيبة التي يملكها عدد من المطربين والعازفين الجدد. حالة لا تنفصل عن الخواء والغثاء اللذيْن ضربا الثقافة عموماً. وقد عمّق من مأساة الإفلاس الموسيقي ملوك التربح من كل كارثة. فقد دخل مغامرو المال بإسم رجال الأعمال في ميدان الانتاج الموسيقي، فقدموا للمجتمع إنتاجاً يناسب طبقاته الجديدة وميولها اللاهية. وبدلا من أن تكون الموسيقى وسيلة للإرتقاء بالوعي وتهذيب الشعور حولوها إلى آلة لصناعة التفاهة. قدموا التفاهة الموسيقية وتحكموا لسنوات في مصادر الموسيقى وروافدها. أخضعوها لحسابات الربح والمال وليس لمعايير الذوق والجمال….

 والمال وفيّ دائماً أبداً لشهواته، لا يريد إلا مزيداً من المال ولو أدى ذلك إلى إفلاس القيم كل القيم بما فيها قيم الجمال ومن بينها قيم الجمال الموسيقى. لهذا فيما كانت أموال تجارة الموسيقي الرخيصة تزداد كان رأس المال الموسيقي الطاهر يتبدد. تراكم المال في أيدي المتربحين من موسيقي الغرائز والهيجان. أما الموسيقى ذلك الفن الراسخ الذي وصفه “جبران خليل جبران” بعبقرية في كتابه “الموسيقى” فكان أمرها مختلفاً. تهاوت وتراجعت. فقد وُجد الإنسان، كما يقول “جبران” “فأوحيت إليه الموسيقى من العلاء لغةً، ليست كاللغات تحكي ما يكنه القلب للقلب”. ولأنها لغة خاصة تأتي من العلاء فلا تنمو الموسيقى الحقيقية إلا بهدوء وبطء وبصبر ومجهود. لكن محدثي الموسيقى لما اقتحموها تسببوا في إفلاسها الروحي… والموسيقى إن أفلست  فإنها تكشف حالة المجتمع وتفضح جفاف المشاعر الذي يعيشه.

إن العيش على موسيقى وطرب السابقين لا يكفي لاكتشاف مبدعين جدد أو للخروج من حالة الإفلاس الموسيقي الراهنة. هو موقف مفلس تجاه الماضي الموسيقي الرائع الذي نملكه مثله مثل العيش على أمجاد الرياضة والسياسة والتاريخ القديمة. كما أن التعايش مع الموسيقى السطحية والتافهة المنتشرة حالياً لن ينتج مبدعين ولن يحل المشكلة أيضاً لأنه تعايش مضطرين وليس أكثر. كلٌ من الموسيقى القديمة المعادة والجديدة الهابطة ينذر بخطر أكبر إن تُرك الإفلاس الموسيقي يعبث أكثر من ذلك. ولن يحقق أي مطرب نذر نفسه ليكون ظلاً لعبد الوهاب أو عبد الحليم قيمة ترفعه وترفع مستوى الموسيقى. فعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهما من الأعلام لهم تراث محفوظ يمكن الوصول إليه وسماعه من المصدر. هؤلاء المرددون يضيّعون وقتهم ويهدمون شخصياتهم ولا يقدمون جديداً برغم الاعتراف بموهبة البعض منهم. أما من انتهج موسيقى السفاهة والحماقة والركاكة فقد حان الوقت لمحاسبته على جرائم التخريب الموسيقي التي أرتكبها. جرائم إبادة للذوق العام ترقى إلى مستوى الإرهاب السمعي والوجداني.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker