كانت تقترب على مهل. ثم بخطوة واحدة وصلت الصين بسرعة البرق إلى المنطقة. مثلها مثل النمر. يربض. يصبر. ثم يتحرك ببطء بخطوات محسوبة. وفجأة يقفز قفزته الحاسمة. هذا ما فعلته الصين قبل أيام مع إيران عندما وقعا اتفاقاً أسموه “بالوثيقة الشاملة للتعاون”. اتفاق يمنح بكين دوراً في الخليج حتى سنة 2046. بنوده كثيرة ومتشعبة. توقيته لا يخلو من دلالة. وآثاره القريبة والبعيدة تبدو من الآن عميقة. خمس سنوات قضاها الجانبان في التفاوض حول مضمونه منذ أن زار الرئيس الصيني “تشي بينج” طهران في يناير 2016. حسبتها إيران صح. لم تضيع سنوات ترمب عبثاً. عرفت أن أبواب أمريكا لن تفتح أمامها مع رئيس توعدها بإلغاء الاتفاق النووي. بدأت التفاوض مع الصين على صفقة كبرى. ولما أنسحب ترمب من الاتفاق وشدد معاقبة طهران، كانت هي أيضاً تشد من عزمها لإتمام التفاوض مع الصين حتى لو كبدها ذلك تخوفات الإيرانيين أنفسهم. وقعت الاتفاق برغم أن كثيرين خارج إيران وداخلها يخشون أن تكون فيه جوانب سرية. الرئيس السابق “أحمدي نجاد” حذر في يونيو 2020، والمفاوضات جارية بين الجانبين، من أن الاتفاق سيتضمن جوانب سرية وأكد على أن “الأمة الإيرانية لن تعترف باتفاق سري مدته 25 عاماً بين إيران والصين” منبهاً إلى أن أي اتفاق يوقع مع دولة أجنبية لا يعرف عنه الناس سيكون باطلاً.
من الباب الكبير
ما عُرف عن الاتفاق يشير إلى أنه كبير في حجمه وفي مغزاه. تعهدت الصين بموجبه مثلاً بضخ استثمارات في صناعة النفط الإيرانية وحدها بمقدار 280 مليار دولار. واستثمارات أخرى في صناعة النقل بقيمة 120 مليار دولار. مقابل ذلك ستحصل بكين على خصم قيمته 32% على مشترياتها من النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية الإيرانية. وستكون لها الأولوية في تنفيذ خطط التنمية في إيران، وبالأخص في مجالات السكك الحديدية والموانئ والاتصالات والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات والصرافة. ليس هذا فقط، بل تشير كثير من التقارير والمصادر إلى أن طهران ستسمح بوجود قوة أمنية صينية على أراضيها قوامها 5000 فرد. وحتى يتشابك الجانبان هيكلياً ذهب الاتفاق إلى الحديث عن ربط مشاريع البنى التحتية في إيران بالمشروع الصيني العالمي الضخم المعروف “بالحزام والطريق.” وضعت إيران يدها في يد الصين. الأولى تحتاج قوة عالمية تساندها تناكف بها مع القوة العالمية التي تعاندها. والثانية، أي الصين، دخلت الشرق الأوسط من الباب الكبير. من أكبر باب يسبب للولايات المتحدة القلق: إيران.
وكأي اتفاق كبير في التاريخ، قد يتعرض الاتفاق لكثير من المشكلات. وسوف يتعرض بالفعل لأنه يضغط على أعصاب المنافسين والخائفين. لكنه لنفس هذا السبب قد يمضي قدماً إلى الأمام ليتجاوز الطابع الاقتصادي الذي يحاول طرفا الاتفاق أن يُظهراه به. هو اتفاق إستراتيجي بالنظر إلى حجمه وطرفيه والظروف الدولية والاقليمية التي وقع فيها. لهذا سوف يؤثر على عديد من الملفات في المنطقة والعالم.
اتفاق يجمع أصوليتين: واحدة شيعية والأخرى شيوعية، شديدتيْ التناقض في الأفكار ومع هذا جمعتهما المصلحة. ولا غرابة لأن الأصولية الوحيدة المقبولة في العلاقات الدولية أصولية المصالح. فالأيديولوجية التي تلتصق بإيران والتي تستعملها لرص صفوف الشيعة في المنطقة لا تعني لها شيئاً أمام مصالحها حتى لو تطلب الأمر منها التحالف مع دولة ما زالت تقدم نفسها رسمياً على أنها شيوعية، فضلاً عن أنها تقتل فعلياً وتنتهك حقوق المسلمين الإيغور في إقليم سنكيانج. فعند إيران، كما عند غيرها، الإسلام سلاح تفخخه لو “الوضع استلزم” وتجففه لو “الوضع تأزم.” ولم تخش الصين بالمثل من التوصل إلى اتفاق كبير كهذا مع إيران الإسلامية. بل ربما رأته عز الطلب. فمن سيغيظ ويخيف أمريكا أكثر من التلويح في وجهها بورقة التعاون مع إيران. لم تعبأ الصين مثلما يعبأ بعض العرب إلى الآن بهاجس تصدير الثورة الإيرانية. تحالفت مع طهران لأنها قدرت أنها خطوة إستراتيجية مضمونة.
رسالة إلى واشنطن
اتفاق مقصود أن يكون طويل المدى لأنه يستهدف إعادة تشكيل موازين القوى العالمية. يبعث رسالة مزدوجة إلى واشنطن. واحدة من الصين والأخرى من إيران. الصين تقول للأمريكيين لا تأتوا إلينا في شرق آسيا. نحن من سيأتي إليكم. لن نجعلكم تنسحبون من الشرق الأوسط أو تخفضون قواتكم فيه. سنشغلكم ونشاغلكم حتى لا تكثفوا وجودكم بالقرب من حدودنا. دعونا نشتبك لكن بعيداً عن أراضينا وأراضيكم: في الشرق الأوسط. أرض الاشتباكات الدائمة ومسرح كل الحروب التي خاضتها القوى العالمية التي غيرت الموازين. دعونا نشتبك معكم لمدة 25 سنة. فربع قرن مدة مثالية للصين ترمي فيها بنار الغضب الأمريكي بعيداً عن أراضيها إلى أن تستكمل مشروعها في الصعود. وما المانع فهي ترى الشرق الأوسط فرصة استثمار كبرى ناجحة إن هدأ وفرصة إهلاك كبرى لمنافسيها الأقدم منها فيه إن احترق. رسالة بكين واضحة. من الآن سيكون أي تفكير أمريكي في خفض القوات في الشرق الأوسط مرهوناً باستراتيجية الصين التي اختارت – لو تحتمت مواجهة أمريكا – أن تواجهها في الشرق الأوسط ومن باب كبير ومدخل ساخن: إيران.
إيران بدورها كانت في حاجة ماسة إلى اتفاق دسم مع منافس واشنطن الآخر. فلها علاقات متشعبة مع روسيا تزعج واشنطن. فلماذا لا تبني علاقات أخرى عميقة مع الصين؟، خاصةً أن بكين لم يسبق لها أن قضمت أراض من إيران كما فعلت روسيا. اتفاق فتح شهية إيران للاستقواء الاستراتيجي. فرفضت بقوة كل الضغوط الأمريكية لإعادة التفاوض على مضمون الاتفاق النووي. تقول بوضوح، خاصة بعد توقيع الاتفاق، أن أية عودة للاتفاق النووي الموقع في 2015 لن تكون إلا بالشروط الإيرانية. سوف نتشدد أيها الأمريكيون وسوف تقبلون.
هذه الروح الاستراتيجية المتمردة لدى الصينيين والإيرانيين هي جزء من إعادة تشكيل التوازنات العالمية وبالتالي التوازنات الاقليمية في منطقتنا. وهذا ما التقطه ثعلب العلاقات الدولية الأمريكي العجوز “هنري كيسنجر” مؤخراً عندما تكلم من خلال تشاتام هاوس عبر الانترنت ناصحاً الرئيس “بايدن” بإعادة تطبيق استراتيجية “البينج بونج” التي استعملتها أمريكا مع الصين في سبعينيات القرن الماضي. حثه على التنسيق مع الصين وتقديم بعض التنازلات لها مقابل وقف تقاربها مع روسيا وتحجيم علاقاتها المتنامية مع إيران. والرجل منذ بداياته واقعي صرف. يتحالف حتى لو مع الشيطان إذا كان ذلك يضع ميزان القوى في مصلحته. وبالتالي قد لا تكون فكرته مستبعدة. قد تطرحها أمريكا على الصين. لكن هل ستقبل بها الصين مثلما فعلت قبل نحو نصف قرن؟ الأغلب أنها لن تقبل إلا بشروط صعبة بل قد تجدها واشنطن مستحيلة. الصين تعرف، مثلما تعرف واشنطن، أنها ستتربع بعد عشر سنوات على قمة الاقتصاد العالمي، وهو ما لم يكن عليه الحال في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
https://www.youtube.com/watch?v=qwtu7CxcQFQ
حسابات معقدة
وما ينسحب على التوازن على قمة النظام العالمي ينسحب على منطقة مثل منطقتنا تتأثر بالخارج كثيراً. من المنتظر مثلاً أن تبدي إيران تشدداً أكثر. فمن يستطيع أن يحاصرها أو يمنعها من تصدير نفطها وقد تعهدت الصين الشرهة لاستهلاك ستة ملايين برميل منه يومياً بشرائه لخمس وعشرين سنة. ثم إنه انتصار لنظام الملالي. فبدلاً من التلويح الأمريكي تارة والسعودي تارة أخرى بالإطاحة بآيات الله، ها هي الصين تأتي لتعقد اتفاقاً ممتداً مع ذلك النظام لتمنحه شرعية ودعماً خارجياً قوياً ربما هو الأهم له منذ الثورة في 1979. ولن تترك حالة الانتشاء الاستراتيجي الإيرانية العرب في حالهم. سيضطرون، بالذات في دول الخليج، إلى البحث عن استراتيجية للرد على تلك المتغيرات الجديدة. قد يكون التنافس مع إيران على كسب ود الصين واحداً من تلك الاستراتيجيات. لكنها استراتيجية مجازفة تفتح الباب لاستنزاف جديد لمنطقة مجهدة أصلاً من كثرة الاستنزاف. تفتحه للاعب دولي جديد لم يشبع بعد له طموح واسع في المنطقة والعالم. الاستراتيجية البديلة للتودد للصين تعميق التقارب مع الولايات المتحدة، خاصةً إذا لم تأخذ واشنطن بنصيحة كيسنجر واختارت بدلاً من التنسيق مع الصين خيار التصعيد. وهذه الاستراتيجية أيضاً غير مريحة لأنها ستربط المنطقة أكثر بالمشروع الأمريكي. كما ستدفع إسرائيل أكثر نحو الخليج بحجة أن تشكيل تحالف عربي إسرائيلي برعاية أمريكية ضد إيران المدعومة صينياً بات هو السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار. ولا غرابة في أن إسرائيل كانت قد استبقت بالفعل توقيع الاتفاق الإيراني الصيني باتفاقاتها مع البحرين والإمارات وعلاقاتها الفعلية القوية غير الرسمية مع السعودية. إسرائيل يزعجها استقواء إيران بالصين ويزعجها بالمثل إعلان الصين غير المسبوق عن استعدادها لرعاية محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية بنفسها.
تبقى كلمة عن تاريخ نهاية الاتفاق: 2046. اختارته الصين ليتزامن مع وصول برنامج الفضاء الذي أعلنه الرئيس “تشي بينج” إلى هدفه بوضع الصين على قمة الريادة العالمية بحلول 2045. كما يأتي وسط تحذيرات أطلقها قبل عدة أسابيع الأدميرال “فيليب ديفيدسون” قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهادي والهندي عندما حذر من أن الصين تسعى بحلول 2050 لكي تحل محل الولايات المتحدة كقوة عالمية أكبر ، وأنها تواصل تسريع مشروعها الرامي لإحكام قبضتها على شرق آسيا باستعادة السيطرة على تايوان في 2027 بدلاً من 2050.
هذا الاتفاق طويل المدى لم يجر التفاهم حوله أو التوقيع عليه اعتباطاً. فلو كان قصير المدى لأعتُبر مجرد خطوة تكتيكية تلوّح بها كل من إيران والصين في وجه واشنطن. لكن طرفيه أرادا له أن يبرز كخيار استراتيجي. ومثل كثير من الاتفاقات الاستراتيجية في تاريخ العلاقات الدولية فإن الهدف منه محاولة تغيير معادلات القوى العالمية والاقليمية. قد ينجح الاتفاق في ذلك وقد يفشل لكن في الحالتين ستكون الكلفة كبيرة بالذات على الضعفاء.