فن

“العندليب” و “الفاجومى” و”النمر الأسود” .. جَمعهُم اليُتم والإبداع

عندما نتأمل مقولة الفيلسوف الأمريكي ” وليام جيمس ” أن ” الألم هو مفتاح الإبداع وطريق العبقرية ” سنجد أن الفيلسوف الأمريكي قد اختزل  تفاصيل علاقة المبدع بالألم ليجعل منه مدخلا مهما في تحليل الظاهرة الإبداعية.

فالإبداع يولد في كثير من الأحيان من رحم الألم لتتحول المعاناة إلى وقود للموهبة وطاقة هائلة تساعد في حشد الطاقة الإيجابية للمبدع وتحدد انحيازه ورؤيته الفنية والفكرية والحياتية.

في الأول من أبريل نحتفل بيوم “اليتيم ” ويتبارى الجميع في دعم ملايين الأطفال الذين فقدوا عائلهم واضطروا للحياة في دور الرعاية الاجتماعية أو لدى أسر أخرى عن طريق التبني أو تركوا في شوارع المدن بلا مأوى.

وقد عرف العالم الاحتفال ب “أول جمعة في إبريل” بـ اليوم العالمي لليتيم في عام 2003 حين انطلقت فكرة الاحتفال به من قبل مؤسسة “ستار فوند يشن” البريطانية.

وفى مصر، بدأت فكرة تخصيص يوم لليتيم عندما اقترح أحد متطوعي جمعية الأورمان الخيرية، بتخصيص يوم للاحتفال باليتيم،

إن المشاعر القاسية لدى الأطفال الذين يعانون اليتم يمتد تأثيرها النفسي على مدار حياة الإنسان ويطبع على شخصيته صفات نفسيه وسلوكية متعددة إلا أنه بكل يحمله من معاناة ومرارة يمثل أحد عوامل الإبداع التي أشار لها “جميس ” في مقولته.

ويليام جيمس
ويليام جيمس

وقد عرفنا نماذج عديدة جسدت هذا المعني للتحدي وصارت  معاناة اليتم مكونا رئيسا في إبداعها واصرارها على النجاح وكأن هناك علاقة وثيقة بين التحدي وبين المعاناة إذا توافرت الموهبة والإرادة ومن أهم  الشخصيات الشهيرة التي عرفت اليتم المبكر وسكنت مؤسسات الرعاية الاجتماعية – الملاجئ – وتجرعت مرارة الوحدة  الفنان الكبير “شارلي شابلن ” و الفنانة الشهيرة ” مارلين مورو ” والمطرب السعودي ” محمد عبده “

وبمصر في يوم اليتيم نتوقف أمام ثلاثة تجارب ملهمة هي “العندليب ” و” الفاجومى ” و” ناظر مدرسة التمثيل المصرية “

العندليب .. من الملجأ إلى صدارة الغناء

في حرارة يونيو 1929ولد “عبد الحليم شبانة “توفيت والدته عقب ولادته، ثم لحقها والده قبل أن يتم حليم عامه الأول، فأصبح يتيم الأب والأم وأستقر به الحال في بيت خاله الذي عزم على تربيته هو وأخوته الثلاثة، وكان يتردد على أحدى الملاجئ بشكل  متواصل  وقضى فيه قرابة التسع سنوات، وهناك تعلم القراءة والكتابة وعشق الموسيقى وتعلم العزف على الآلات الموسيقية

 كان  الطفل عبد الحليم   يقف ” في  الملجأ  عام 1937 يرتدي بنطلونا قصيرا “كاكي”  يتفحص الأطفال من حوله. كان حليم يمسك بعسلية  فخطفها منه طفل اخر جري وراءه حليم حتي احتمي الطفل بضابط علي المعاش عينته إدارة الملجأ مشرفا علي الاطفال وملاحظتهم وكان هذا الرجل غريب الاطوار ويعامل الاطفال علي انهم نجس وكان دائما يقول ان الضرب في اولاد الحرام له ثواب عند الله ” هكذا قال العندليب في مذكراته التي حررها المحامي محمد رفعت.

ويضيف “حليم ” في مذكراته “لا أحد يستطيع ان يميز لون او شكل او طعم أكل الملجأ يكفي ان اقول ان الارز كان لونه بنيا او اسود”

https://www.youtube.com/watch?v=L-0lOY5NXDs

كان حليم يغني في حفلات الملجأ ولكنه كان يكرهها لان الحاضرين كانوا يختارون بعض الموجودين في الملجأ ممن لا أهل لهم للعمل كخدم وهذا هو سر معاملة عبد الحليم الطيبة مع الخدم عنده فيما بعد. كان حليم يكره دخول دورة المياه لأنه كان يلاحظ نزول بعض قطرات الدماء نتيجة اصابته بالبلهارسيا بعد ان يقضي حاجته وهذا معناه انه سيخبر اخته التي بدورها ستخبر أخاها اسماعيل الذي سيصحبه الي المعمل الطبي ويوخز بالإبر التي يكره مفعولها من قيء وألم.

طبعت مرحلة الملجأ تأثيرا شديد الأهمية على شخصية “حليم ” فصار أكثر حساسية في التعامل مع الآخرين وأكثر زهدا في التعاطي مع متع الحياة يدرك الشعور بالحرمان ويسكنه دائما إحساس قاسى بالوحدة رغم الزحام والضجيج الذى عاش فيه

في 30 مارس عام 1977 جاء خبر رحيل العندليب كالصاعقة على الملايين من عشاق فنه رحل عبد الحليم حافظ أثناء رحلة علاج في لندن وتتشح مصر بالسواد حدادا على صوتها الذى توقف عن الغناء .. ذلك الصوت الذي حمل قدرا لا حدود له من الشجن والحزن المقيم رغم النجاح الكبير الذي حققه في مسيرته الفنية.

الفاجومى … وجع الفقر والوحدة

في في 23 مايو عام من عام 1929 أي قبل  شهر تقريبا من ميلاد العندليب ولد “أحمد فؤاد نجم ” في محافظة الشرقية أيضا لأب يعمل بالشرطة وأم فلاحة أمية من الشرقية، وكان ضمن سبعة عشر ابنًا لم يبق منهم سوى خمسة، وكعادة أهل القرى التحق بعد ذلك بكتّاب القرية، ثم توفَّى والده فانتقل إلى بيت خاله بالزقازيق، حيث التحق بملجأ للأيتام، والتقى فيه “عبد الحليم حافظ “

ويقول “صلاح عيسي ” في تصديره لمذكرات “نجم ” التي حملت عنوان ” الفاجومى ( وتثقل مؤنته الواهية على أقاربه فيبحثون عن داهية يودونه فيها فلا يجدون إلا ملجأ الأيتام بمدينة الزقازيق وبين زحام اليتامى الفقراء تثقله مشاعر الوحدة فيغيب في فترات صمت طويلة حتى يبدو لمن يحيطون به أنه نسى الكلام وتقرب مشاعر الوحدة بين جدران الملجأ بينه وبين يتيم وحيد نحيل من زملائه ينتمى لقرية الحلوات القريبة من قريته اسمه عبد الحليم شبانه وفى حجرة الموسيقى يكتشف الاثنان أن الغناء يعزى المحروم ويؤنس غربة اليتيم فيغنيان ويحفظان المقامات والتواشيح والأدوار والطقاطيق ) ويضيف عيسى : (أما أحمد فؤاد نجم فقد غادر الملجأ – كما دخله – يتيما وفقيرا ووحيدا)

الفاجومي

صنعت  تلك المرحلة بقسوتها رصيدا هائلا في وجدان “نجم ” وكان لها دور شديد التأثير في انطلاق طاقته الإبداعية التي تميزت بانحيازه المطلق للفقراء والمهمشين

أحمد زكى  .. ناظر  مدرسة التمثيل

يالها من صدفة تستحق التوقف والتحليل  .. أيضا “أحمد زكى ” من مواليد الزقازيق محافظة الشرقية لكن الفارق بين كل من “العندليب ” والفاجومى ” وبين ” ناظر مدرسة التمثيل المصرية أن زكى لم يلتحق بدار الأيتام التي احتضنت جدرانها رفيقيه في اليتم.

الغوص في عالم “أحمد زكى ” بما يملكه من عبقرية جعلته يحتل مكانة استثنائية بين أقرانه من الممثلين العرب يتطلب أن نعود إلى البدايات الصعبة والتعيسه لهذا الطفل الأسمر “أحمد ” زكى عبد الرحمن “ الذى ولد عام 1949

توفي والده وهو رضيع في عامة الأول، واضطرت الأم الشابة   القروية أن ترضخ  لإلحاح الأهل بعد أن خافوا عليها من لقب الأرملة وما يحمله من مشاكل فزوجوها مباشرة، ليعيش الطفل في بيت الجد والعم والأقارب.

https://www.youtube.com/watch?v=tNnzH6vDjrQ

قال “أحمد” عن أمه وعن طفولته الصعبة : ” حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام. والدي توفي وأنا في السنة الأولى. أتى بي ولم يكن في الدنيا سوى هو وأنا، وها هو يتركني ويموت. أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيت العائلة بلا اخوة. ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة. ذات يوم جاءت إلى البيت امرأة حزينة جداً، ورأيتها تنظر إلي بعينين حزينتين ثم قبلتني من دون أن تتكلم ورحلت. شعرت باحتواء غريب، هذه النظرة تصحبني إلى الآن. في السابعة من عمري أدركت أنني لا اعرف كلمة «أب وأم» والى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما أشعر بحرج ويستعصي علي نطق الكلمة “

تركت الطفولة الحزينة بكل ما بها من وحدة وفقر تأثيرا على أحمد زكى الذى أصبح بعدها بـ25 عاماً أشهر نجم في تاريخ السينما العربية فأطلق كل مخزونه الإنساني وحصاد تجاربه في  أعماله  لتمتزج موهبته  غير العادية في التمثيل مع خبرات حياتية وتجارب شديدة الغنى بالتفاصيل وتقدم للفن  العربي أروع الأعمال  السينمائية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock