فن

في شرفة ليلى مراد مع صالح مرسي

في شتاء عام 2007، نشر الشاعر والناقد حلمي سالم قصيدة بعنوان ” شرفة ليلى مراد” في مجلة إبداع، وقد أحدث نشر القصيدة لغطا شديدا بسبب ما ورد فيها من مقاطع قيل أنها تضمنت إساءة للذات الإلهية.. وأما شرفة ليلى مراد التي قصدها سالم، فكانت تلك التي وقفت فيها ليلى لترد على فوزي شحات الغرام في أحد مشاهد الفيلم الشهير “ورد الغرام”.. وهو مشهد جُمعت له آيات الجمال بكل ألوانها، وتظهر فيه ليلى كأميرة بالغة الرقة تتعطف بدلال لا يخلو من خفة ظل على العاشق المتيم الذي يطلب ميعادا غراميا لوجه الله!.

وكان صالح مرسي الصحفي والروائي ذائع الصيت في عالم الكتابة عن قصص المخابرات العامة، قد نشر كتابا عن ليلى مراد عام 1995، في مؤسسة دار الهلال. وقد استند الكتاب إلى عدة حوارات مسجلة أجراها الكاتب مع الفنانة “ليلى مراد” تروي فيها قصة حياتها.. ويكشف الكتاب الذي أعادت دار الشروق نشره في 2010، ثم في طبعة لاحقة عن تفاصيل عديدة في حياة ليلى مراد لم تفصح عنها من قبل.. وربما تحمل هذه التفاصيل نوعا من الصدمة لمحبي فن المطربة الخالدة.. منها مثلا أنها لم تكن ترغب أبدا في أن تكون فنانة.. وربما كان ذلك بسبب المعاناة التي عاشتها أسرتها بسبب تقلب أحوال والدها الفنان زكي مراد ما جعل الأسرة تعيش لأعوام في يسر.. كانت ليلى آنذاك طالبة في مدرسة “نوتردام دي زابوتر”  التي لا يلتحق بها إلى أبناء الطبقة العليا.. ثم يسوء الحال بالأسرة لدرجة الانتقال للسكن بحي السكاكيني في شقة ضيقة بعد أن كانت الأسرة تعيش في حي العباسية في شقة مكونة من ثماني غرف. كانت المدرسة هي عالم ليلى الأثير، وكان البيت وسهرات الوالد وأصدقائه من الفنانين هو الواقع الذي يعصف بأحلامها في الحياة الهانئة الوادعة بمعزل عن الأزمات التي وصلت في أحيان كثيرة إلى بيع أثاث المنزل، وعدم القدرة على دفع إيجار الشقة.. تحملت ليلى المسئولية بعد انقطاع أخبار أبيها بعد سفره إلى الولايات المتحدة، واضطرت لترك المدرسة والعمل في أشغال الإبرة نظير سبعة قروش يوميا استطاعت بها أن تدفع مقدم ماكينة خياطة لتعمل عليها ليل نهار من أجل أن تعول أسرتها الكبيرة العدد.

ومع عودة الأب من أمريكا خالي الوفاض تضطر الأسرة إلى الانتقال إلى حي حدائق القبة.. وفي هذا البيت تغني ليلى أمام عدد من أصدقاء أبيها لأول مرة فينبهر الحضور بصوتها وقدرتها على أداء الألحان الصعبة التي كان كثيرون من فناني هذا العصر لا يستطيعون أداءها بهذا الإتقان والجمال.. غنت ليلى في تلك الليلة أغنية جارة الوادي، ثم تلتها برائعة عبد الوهاب “ياما بنيت قصر الاماني” فأبدعت حتى أن والدها زكي مراد دهش لبراعتها وقوة صوتها برغم ضعفها وهزالها الشديد.. إلا أنه لم يفكر في أن تحترف ليلى الغناء.. لم يفكر في ذلك لأسباب عديدة تتعلق بأحوال الفن المتقلبة في هذه الفترة نقصد بدايات العشرينات من القرن الماضي، إذ كان رحيل الشيخ سيد درويش وانكسار الثورة وبطش المحتل الغاصب قد أثر بالسلب لفترة بدأت الأجواء بعدها تستقبل رياحا جديدة تعصف بالقديم.

ومع إلحاح الأصدقاء الذين كان يصرون على أن تغني ليلى في السهرات المنزلية يبدأ الوالد في تدريب ليلى وتعليمها أسس المغنى، برغم علمه أنها لا تريد أن تصبح مطربة.. لكنها تحب الغناء لتدندن أغنيات عبد الوهاب الذي طلب منه الوالد الحضور للمنزل للاستماع إلى ليلى والحكم على موهبتها فحضر بصحبة آل “بيضا” وعندما سمعها وهي تغني له “ياما بنيت قصر الأماني” ثم رائعتي الشيخ أبو العلا “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه” و”أراك عصي الدمع” توجه إلى أبيها متسائلا لماذا خبَّأ ليلى عنهم كل هذا الوقت .. وكانت هذه الشهادة بالنسبة لزكي مراد كافية لأن يبدأ في صناعة المطربة ليلى مراد التي ستصبح إحدى أهم نجمات الغناء في مصر.

وقَّع عبد الوهاب مع ليلى عقد لشركة “بيضا فون” بعشر اسطوانات  مقابل ثلاثين جنيها للأسطوانة، وكان لابد من عمل عدة حفلات، ولم يكن الوالد يملك شيئا، فكانت البداية في مسرح رمسيس حينما قبل يوسف وهبي بعدم تقاضي إيجار المسرح إلا بعد انتهاء الحفل، وبدأ العمل والتدريب على الأغنية الجديدة الوحيدة “آه من الغرام والحب آه” التي كانت من ألحان الموسيقي الشاب رياض السنباطي.. بالإضافة إلى أغنيتين  قديمتين هما “في البعد ياما كنت أنوح ” و”أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه” وقد تحايلت الأم السيدة جميلة مراد لتبدو ليلى في هيئة أكبر من سنها.. كيف مرت تلك الليلة التي أغشي فيها على الاب في الكواليس؟ وكيف كان النجاح مدويا بعد أن استطاعت ليلى أن تتجاوز كل هذه العوائق لتترك نفسها لتستغرق في غناء شجي بالغ الصدق لا يجد أدنى صعوبة في الوصول إلى القلوب والاستيلاء عليها والأخذ بالألباب فيما يشبه السحر.

عبد الوهاب وليلى مراد
عبد الوهاب وليلى مراد

في هذه الليلة أصرت ليلى على ارتداء فستان أسود صنعته بأيديها، ولم تفلح محاولات الجميع في إثنائها عن ارتداء هذا الفستان، وكانت حجتها أنه يظهرها أكبر سنا، أما إذا ارتدت الأبيض فستبدو كطفلة لشدة هزالها.. لكن الحقيقة أن إصرارها على ارتداء الأسود لم يكن يعني إلا أنها تودع ليلى تلميذة الـ”نوتردام دي زابوتر المتطلعة لحياة القصور كزميلاتها.. تودع أحلامها في حياة كحياة الأميرات لتدخل غمار عالم مازال في نظر الكثيرين ليس محل احترام كبير، غير ما يمكن أن تجره عليها حياة الفن من مصاعب و أزمات.. كانت في حال من التسليم والرضوخ وكأنها تتمثل قول القائل: مشيناها خطا كتب علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها.

وعندما اختار عبد الوهاب لتشاركه بطولة فيلم “يحيا الحب” لم تكن سعادتها أنها ستمثل أمام المطرب الذي استحوذ على اهتمام كل فتيات جيلها تقريبا، ولا كانت فرحتها بالمبلغ الذي تقاضته وكان ثلاثمئة جنيه فقط.. بل كانت سعادتها لأنها ستكون في الفيلم ابنة باشا.. لتستعيد ولو لساعات قليلة تلك الفتاة التي ودعتها يوم قررت أن تصبح فنانة. ويكاد المخرج محمد كريم أي يئد حلمها حين أصر على أنها غير مناسبة للدور.. لكن تمسك عبد الوهاب بها أنقذ الموقف ومر الفيلم بسلام بل وحقق نجاحا كبيرا. لكن التجربة لم تتكرر بسبب تمسك كريم برأيه وكان شريكا لعبد الوهاب.. ولكنه سيسعى بعد ذلك للإخراج لها لكنها ستغالي في أجرها ربما انتقاما لكرامتها فيفشل الاتفاق.

كانت ليلى قد طافت بأرجاء مصر تغني في الحفلات والأفراح ما أصابها بالإرهاق الشديد غير تعرضها لكثير من المواقف المحرجة، فكانت السينما لها بمثابة طوق نجاة.. وبعد “يحيا الحب” مثلت من إخراج “توجو مزراحي” فيلم “ليلة ممطرة” مقابل ألف ومئتي جنيه.. لتنتقل الأسرة إلى مصر الجديدة شارع الطيران. ثم إلى شارع المراغي في شقة أفخم وأرحب بعد أن ارتفع أجرها عن الأسطوانة الوحدة من ثلاثين جنيها إلى ألف جنيه مرة واحدة.

كان البطل أمامها في “ليلة ممطرة” هو يوسف وهبي الذي استطاع بذكاء كشف سريرتها وما تعانيه بسبب إحساسها الدفين بتدني نظرة الناس للفنان، فإذا به يشجعها ويعلمها أن الفنان لابد أن يحترم ذاته ليحترمه الناس.. وكان يوسف ابن باشا حقيقي فأثر كلامه فيها جدا فقررت أن تخلع الثوب الأسود في حفلاتها وترتدي الأبيض تعبيرا عن سلامها النفسي ورضاها بما قسمه الله لها.

ليلى مراد ويوسف وهبى
ليلى مراد ويوسف وهبى

ثم يتعاقد معها “مزراحي” مجددا على فيلمين “ليلى في الظلام” و”ليلى بنت الريف” بعد أن رفعت أجرها إلى ثلاثة آلاف جنيه عن الفيلم الواحد.. ويحقق الفيلمان نجاحا كبيرا.. لتعيش ليلى هذه الأيام في سعادة غامرة بعد أن اشترت سيارة شيفروليه فارهة كانت تقودها بنفسها مثل الأميرات وبنات الباشوات.

ثم يكون النجاح المدوي لفيلمها “ليلى” عن قصة غادة الكامليا.. والذي وصل أجرها عنه إلى ثمانية آلاف جنيه. ومن الطريف أن ليلى كانت تتردد على مستشفى الصدر حتى تتعلم كيف تسعل كما يسعل مرضى الصدر إذ كانت بطلة القصة تعاني من هذا المرض.. ووصل بليلى الحال أنها صارت تسعل طوال الوقت ولم تستطع التوقف إلا بعد أخذ إجازة طويلة في الإسكندرية حيث التقت هناك بالحب الذي ملك عليها حياتها لمدة ثلاث سنوات وحالت ظروف موت والدتها وتعاظم مسئولياتها دون الزواج بعد أن كان شرط الحبيب الأرستقراطي أن تترك العمل بالفن.. وهذا ما كان قد أصبح في حكم المستحيل بعد الوفاة المفاجئة للسيدة جميلة مراد والدتها.

ضحت ليلة بحب حياتها من أجل اسرتها ولم يكن ذلك غريبا عليها، فقد دخلت عالم الفن لذات السبب، ولم يكن أمامها إلا أن تغرق نفسها في العمل لتنسى أحزانها إلى أن يقتحم أنور وجدي حياتها ويباغتها بطلب الزواج لتعيش معه قصة حب عاصفة تستمر لنحو سبع سنوات وتنتهي بالطلاق بعد تحقيق كثير من النجاحات الفنية، لتزهد ليلى بعدها في الفن وتقرر الابتعاد بعد شعورها الجارف بالرغبة في الأمومة فتتزوج وتنجب ثم يحدث الطلاق لتتزوج من المخرج فطين عبد الوهاب وتنجب منه مجددا.. لتعيش لتربية ولديها بعيدا عن الأضواء بعد عاشت حياة التألق في سماء الفن لسنوات.

في سيرة ليلى يتجاور الفني والإنساني ولا يفترقان أبدا، إنها مثال حي للتفاني من أجل إسعاد الآخرين، إنها نموذج للفنان الذي يروي فنه بدمه ودموعه ويرعاه بآلامه وأحزانه، وهو مع كل ذلك شديد الالتزام بقيمه لا يحيد عنها، حتى وإن عانى من استغلال أقرب الناس له.. ستبقى ليلى مراد فريدة في تاريخ الفن قادرة على الولوج إلى قلوبنا دون استئذان مهما طال الزمان.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock