مع تولي المماليك حكم مصر وتحديداً في عهد السلطان المؤسس الظاهر بيبرس٫ عاد الأزهر ليطل من جديد على الساحة وليلعب دوراً موثراً في المجتمع المصري وفي حياة أفراده.
غير أن دور الأزهر وطلبته وشيوخه في عهد سلاطين المماليك لم يقتصر على الدور التعليمي كمؤسسة دينية وفقهية بل تعداه الى ما هو اكثر من ذلك٫ فقد التف عوام الناس والبسطاء منهم حول شيوخ الازهر وبات هؤلاء بمثابة الصوت المعبر عنهم لاسيما إنْ طغى السلطان وتجبر على الرعية.
الشيخ الديروطي
ومن بين الشيوخ الأجلاء الذين أبوا إلا أن يكونوا صوت الرعية في مواجهة السلطان٫ الشيخ شمس الدين الديروطي الذي وفد على الأزهر من صعيد مصر وكان واعظاً في فترة حكم السلطان المملوكي قنصوه الغوري.
ويصف الامام عبد الوهاب الشعراني في كتابه “لواقح الأنوار في طبقات الأخيار” الشيخ الديروطي بأنه كان لفرط علمه ومكانته بين العامة “مهاباً بين الملوك” إلا أنه كان في الوقت “من دونهم زاهداً” أي زاهداً في عطاياهم لا يلتفت اليها.
ويضيف الإمام الشعراني في وصفه الديروطى فيقول انه كان “ورعاً مجاهداً صائماً قائماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر” وكان ذا تأثير على مستمعيه فكان إذا خطب في مجلس وعْظٍ في الجامع الأزهر فاضت عيون المستمعين بالدموع “وإذا تكلم أنصتوا بأجمعهم” وكان الناس يتزاحمون لرؤيته إذا خرج إلى الطريق.
كان من الطبيعي أن يخشى السلطان من واعظ يملك هذا القدر من الشعبية ومن القدرة على التأثير على العوام٫ كما بدا من المحتم أن يصطدم الطرفان.
وأتى الصدام الحتمي كما يذكر الإمام الشعراني حين “حط” الديروطي مرة على السلطان الغوري اي انه وجه اليه انتقاداً شديداً وذلك بسبب ما اعتبره تقاعساً من السلطان في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأمة.
وحين وصلت هذه الانتقادات الى مسامع السلطان الغوري٫ استدعى الشيخ الديروطي الى مجلسه٫ فدخل الشيخ شامخاً معتزاً بذاته وألقى السلام على السلطان فلم يرد هذا الأخير٫ ولم يفت هذا السلوك على الشيخ فوجه كلامه الى السلطان وقال له “إن لم ترد السلام فسقت-أي عصيت الله عز وجل- وعزلت” فما كان من السلطان إلا أن رد السلام.
حوار الفقيه والسلطان
ثم دار حوار بين كل من الفقيه والسلطان٫ سأل فيه الغوري الديروطي عن سبب انتقاده له بشكل علني أمام الرعية في مسألة ترك الجهاد مؤكداً -أو متعللاً- أن السلطنة لا تملك مراكب صالحة للقتال وهو منطق رفضه تماما الشيخ الديروطي وقال للغوري “عندك المال الذي تعمر به” ثم مضى ينتقد السلطان ثانية بشكل مباشر وقال له ” قد نسيت نعم الله عليك، وقابلتها بالعصيان أما تذكر حين أسروك، وباعوك من يد إلى يد ثم مَنَّ الله عليك بالحرية، والإسلام، ورقاك إلى أن صرت سلطاناً على الخلق، وعن قريب يأتيك المرض الذي لا ينجع فيه طب ثم تموت، وتٌكفن ويحفرون لك قبراً مظلماً ثم يُدَّس أنفك هذا في التراب ثم تُبعث عرياناً عطشاناً جوعان ثم تُوقف بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة ثم ينادي المنادي من كان له حق أو مظلمة على الغوري فليحضر فيحضر خلائق لا يعلم عدتها إلا الله تعالى”.
هنا أدرك السلطان الغوري أن الترهيب لا يجدي نفعاً مع هذا الفقيه الذي لا يخشى في الحق لومة لائم فلجأ إلى أسلوب آخر معه وهو الترغيب حيث عرض عليه مبلغ عشرة آلاف دينار أملاً في يُسكت هذا المبلغ انتقادات الشيخ٫ إلا أن الديروطي الذي لم يقبل يوماً اجر اي وظيفه من وظائف العلماء مكتفياً بالدخل الذي تدره عليه تجارته فقط ، والذي كان طلبته مثل تماما ينفرون من أن يأكلوا أوقاف الناس٫ رد هذا المبلغ وقال للسلطان “أنا رجل ذو مال لا أحتاج إلى مساعدة أحد، ولكن إن كنت أنت محتاجاً أقرضتك، وصبرت عليك”.
ويصف الامام الشعراني الموقف بقوله “ما رؤى أعز من الشيخ في ذلك المجلس، ولا أذل من السلطان”.
وظل الديروطي ثابتاً على مواقفه التي أبداها في ذلك المجلس المشهود إلى أن لقي وجه ربه في عام ٩٢١ للهجرة ودُفن في مدينة دمياط في زاوية أقيمت خصيصاً له.