هناك صورة لا تبرح مخيلتي كلما هل هلال شهر رمضان الكريم: صورة أمي وأخواتي وهن ينهين إعداد الطعام وأنا وأخي نستكمل تجهيز المائدة، وأبي وهو حانِ على مصحفه يتلو قسطاً منه، وصوت الشيخ محمد رفعت ينبعث من المذياع ويلف كل أرجاء الحجرة بنسمات من الروحانية.
هكذا ارتبط في ذهني صوت الشيخ رفعت – ولعله في أذهان كثير من المصريين – بأجواء شهر رمضان التي يميزها التعبد والخشوع.
ولا يقتصر سماعنا لآيات القرآن الكريم على شهر رمضان فحسب أو في بيوتنا فقط، لكنها تتردد كل يوم في المساجد والسرادقات، وتُسمع أصداؤها في بعض الطرقات أحايين، متهادية من بعض الدكاكين بأصوات مختلفة، أصوات قد تميزها وأخرى ربما لا تميزها، أصوات من السماء. وليس تأثير تلاوة القرآن الكريم بمقتصر على المسلمين فحسب، بل ترق لها قلوب أقوام آخرين فتفيض أعينهم دمعاً.
https://www.youtube.com/watch?v=SB6WIbtaIOo
”ورتل القرآن ترتيلا“
ولاشك في أن أسر تلاوة القرآن الكريم يرجع في كثير منه إلى لغة الكتاب المبين: تراكيب جمله وآياته ، والفواصل المتناغمة بين هذه الآي، ومفرداته المختارة، وما ترسمه كل هذه التراكيب والمفردات من صور لافتة.
ويرجع أسر التلاوة أيضاً إلى الطريقة التي ينتهجها القراء في أدائهم، تلك الطريقة التي تنبني أسسها على قواعد التجويد في المقام الأول، ومقامات الموسيقى العربية، ثم حسن الصوت بعد ذلك.
قراءة القرآن الكريم على هذا النحو الخاص واجب ديني والاستماع له وهو يتلى واجب ديني أيضاً ”وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون“.
ومما يميز القرآن الكريم عن غيره من الكتب المقدسة الأخرى أن قراءته عبادة يثاب عليها فاعلها كالصلاة والصوم مثلا، ”إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور“.
ولكل عبادة اصولها وقواعدها التي تنظم أداءها وينبغي العمل بها عند القيام بهذه العبادة. ولا تشذ تلاوة القرآن الكريم عن ذلك.
وقد وردت أول إشارة إلى قواعد تلاوة القرآن الكريم في القرآن ذاته في الآية الرابعة من سورة المزمل ”ورتل القرآن ترتيلا“ وهي السورة الثالثة من حيث التنزيل.
والترتيل في اللغة يفيد جودة التلاوة والترسل والتأني فيها. وهذا ما تؤكده آية أخرى في سورة الإسراء ”وقرآنا فَرْقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا“. فالمكث أو التأني في قراءته أمر مطلوب.
الحفظ شفاهة
وكان أسلوب الرسول عليه السلام في قراءته للقرآن الكريم يؤكد أن لهذه القراءة طريقة خاصة ينبغي على المتلقين منه التزامها. فقد سئل أنس رضي الله عنه: كيف كانت قراءة النبي؟ فقال: ”كانت مداً مدا، ثم قرأ ”بسم الله الرحمن الرحيم“ يمد ”بسم الله“، ويمد ”بالرحمن“ ويمد “بالرحيم“. وقالت أم سلمة رضي الله عنها: ”كان رسول الله يقطّع قراءته، يقول: ”الحمد لله رب العالمين“ ثم يقف، ثم يقول: ”الرحمن الرحيم“ ثم يقف.
وعلى هذا المنهج تلقى الصحابة القرآن من فم الرسول عليه السلام بعد أن تلقاها هو من جبريل عليه السلام، وكان الصحابة – كما ورد في أخبارهم – لا يحفظون من الآي إلا عشرا، فإذا حفظوها انتقلوا إلى غيرها وهكذا. وانتقل القرآن الكريم شفاهاً من الصحابة إلى التابعين ثم منهم إلى من بعدهم. ولما تزل تلك هي الطريقة المعتمدة في تلقي القرآن وحفظه شفاهاً وليس عن الصحف.
ولا غرابة في ذلك فمن أراد أن يحفظ القرآن عليه أن يأخذه عن حافظ آخر، لأنه لا يأخذ حين يأخذ الآي أو الكلمات فحسب، بل يتلقى مع ذلك الكيفية التي تُقرأ بها هذه الآيات والكلمات. وعلى هذا النحو تمتد سلسلة التلقي من المتلقي إلى شيخه ومن شيخه إلى شيخ شيخه حتى تنتهي إلى الرسول عليه السلام.
ثم جاء وقت دونت فيه قواعد التلاوة كما استخلصها العلماء من شيوخهم من المقرئين: أي الذين كانت مهمتهم تحفيظ القرآن للمتلقين. وأصبحت هذه القواعد تعرف بقواعد التجويد. ولا بد لنا من وقفة هنا لنقول إن مصطلح “التجويد” يتردد في أيامنا هذه على غير معنى واحد. فعلم “التجويد” هو العلم الخاص بقواعد تلاوة القرآن الكريم طبقاً للطريقة التي وردتنا عن الرسول عليه السلام.
أما أسلوب “التجويد” في قراءة القرآن اليوم فيطلق على طريقة التلاوة التي تتسم بالبطء والتلوين الموسيقي الذي يتميز بتنوع المقامات الموسيقية وتنوع طبقات الصوت بين أدناها في “القرار” وأعلاها في “الجواب”.
ويقابل هذه الطريقة أسلوب الترتيل الذي كان المرحوم الشيخ محمود خليل الحصري أول من سجل القرآن الكريم كله به. وكان ممن اشتهر من أئمة أسلوب التجويد في مصر الشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، والشيخ علي حزين، والشيخ أبو العينين شعيشع وغيرهم، ثم جاء من بعدهم جيل آخر سنعرض له فيما بعد.
الأصوات و ”التحفة“
علم التجويد الذي ذكرناه من قبل علم تدور موضوعاته حول وصف أصوات العربية ومخرج كل صوت وطريقة نطقه الصحيحة. ثم الأحكام الخاصة بالأصوات “الصائتة” أو أصوات المد واللين، وهي الألف الممدودة، والياء الممدودة، والواو الممدودة، وهي جميعاً تتعرض للمد والتطويل إذا وقعت قبل الهمزة أو صوت مشدد مثل: “السماء” و”الضالين”، والأحكام الأخرى الخاصة بالأصوات الصامتة وهي تمثل بقية أصوات العربية كالباء والتاء والهاء وهلم جرا، وتتعلق بها أحكام من قبيل الإدغام والتفخيم والترقيق والغُنة والإخفاء والإظهار والقلقلة عند النطق بها متجاورة مع بعض الأصوات الأخرى.
ويتعرض علم التجويد كذلك إلى أحكام الوقف في القرآن الكريم. متى يجب الوقوف ومتى يمتنع ومتى يستحب أو يجوز.
ولكل هذه الأحكام قواعد مضبوطة تتبع في تلاوة القرآن الكريم بصفة عامة سواء في أسلوب الترتيل أم في أسلوب التجويد. ولا تختلف هذه القواعد من قراءة إلى أخرى إلا اختلافاً طفيفاً يتعلق في أغلبه بكيفية الأداء، كأن يكون مدّ الأصوات الصائتة مثلاً (أي أصوات المد واللين) بإشباع أكثر في قراءة معينة منه في قراءة أخرى. فقراءة ورش التي يشيع استخدامها في المغرب العربي تتميز بإشباع أصوات المد واللين من قراءة حفص التي تشتهر في المشرق العربي.
https://www.youtube.com/watch?v=I4LVFmXwRXk
ولتسهيل مهمة الطلاب نظَم العلماء قواعد التجويد في أبيات من الشعر كما فعل ابن مالك في قواعد النحو العربي عندما نظم ألفيته. ويعرف القراء من منظومات قواعد التجويد اثتنين يحفظهما كثير من القراء عن ظهر قلب كحفظ القرآن ذاته، وهما ”تحفة الأطفال“ للشيخ سلمان الجمزوري، و”المقدمة الجزرية“ لابن الجزري.
وبعد أن يتم التلميذ حفظ القرآن الكريم يحفظ ”التحفة“، ثم يأخذ شيخه في شرح القواعد المتضمنة في كل جزء مع ذكر أمثلة على ذلك من القرآن يتبعها التلميذ بمزيد من الأمثلة التي ترد على خاطره مطبقاً القاعدة في قراءته ويرده الشيخ إن أخطأ. وعندما ينهي التلميذ ”التحفة“ ينتقل إلى ”المقدمة“ حتى يختمها. وعند هذه المرحلة يكون التلميذ القارئ قد أصبح مؤهلاً لقراءة القرآن الكريم طبقاً لقراءة حفص مثلاً التي تركز عليها هاتان المنظومتان، وأصبح كذلك كفؤا لإقراء القرآن على هذه القراءة.
صوت القارئ
لا تزال الطريق مع ذلك طويلة أمام هذا الحافظ الذي درس قواعد التجويد قبل أن يستطيع الجلوس أمام السامعين ويتخذ من تلاوة القرآن مهنة له. فكل قواعد التجويد التي تتضمنها متون علم التجويد المعروفة لا تتعلق إلا بنطق أصوات القرآن نطقاً صحيحاً سواء في انفرادها أم في تركيبها في كلمات وجمل. ولكن هذه القواعد لا تتعرض إلى ما يمكن أن نسميه بجماليات الأداء.
فعدة القارئ المجيد – إلى جانب اتقانه لقواعد التجويد – صوت حسن، وأذن تفرق بين المقامات الموسيقية، ومساحات صوتية يستطيع القارئ – وقتما أراد – تسخير طبقاتها المختلفة للتعبير عن المعاني القرآنية التي ينقلها لمستمعيه من دون أن يهتز صوته في انتقاله من طبقة إلى أخرى.
ولن يتوفر هذا لقارئ القرآن إلا إذا ألم بمبادئ الموسيقى العربية وتعلم قسطاً عن مقاماتها. وهو يحتاج – بالإضافة إلى هذا – إلى مواصلة التدريب الصوتي الذي سيكسبه سعة في مساحات صوته، وسلاسة في الانتقال من طبقة صوتية إلى أخرى.
وهكذا ندرك أن تدريب قارئي القرآن الكريم لا يقتصر فقط على ما يمكن أن نسميه بالتدريب ”الديني“ الذي يتمثل في حفظ آيات الكتاب الكريم أولا، ثم تعلم قواعد نطقها كما تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل منذ أن تلقى الرسول عليه السلام الوحي من جبريل عليه السلام، لكنه يمتد ليشمل كذلك نوعاً آخر من التدريب هو التدريب ”الفني والموسيقي“.
الشيخ رفعت
كان من بين الأصوات التي برعت في مصر صوت الشيخ محمد رفعت. وقد توفرت له من الصفات ما جعله مدرسة يقتدي به، ودفع هذا كثيرين ممن أتوا بعده إلى تقليده، أذكر من هؤلاء الشيخ علي حجاج السويسي الذي حكى لي كيف كان يذهب إلى المسجد الذي كان يقرأ فيه الشيخ رفعت ليستمع إليه، ثم يعود إلى البيت فينسل إلى حجرة يغلقها على نفسه، ويأخذ في تقليد الشيخ رفعت ما استطاع.
والشيخ رفعت يعتبره كثير من القراء والدارسين والفنانين أفضل قراء القرآن الكريم قاطبة في القرن العشرين . ويعجب الناس في أدائه موسيقيته وفهمه وإتقانه لفن التجويد بجميع جوانبه، ثم خشوع تلاوته الذي يهز القلوب وكأنه آتِ من السماء.
وكان الشيخ رفعت (رحمه الله) أول القراء الذين يقرأون في الإذاعة المصرية عند افتتاحها في سنة ١٩٣٤.
ومما يمتاز به صوت الشيخ رفعت – كما يقول بعض الدارسين الموسيقيين – أنه يصعب التنبؤ بمساره الموسيقي وانتقاله من مقام إلى مقام. كما يميز صوت الشيخ رنينه المؤثر. وقد عرف عن الشيخ ارتباط موسيقيته في القراءة بالمعاني التي يتلوها، وهو ما يعرف بتصوير المعاني. ولا شك في أن هذا كله هو ما شدنا ولا يزال يشد أسماع الناس إلى صوت الشيخ رفعت سواء في رمضان الكريم أم في غيره كلما تردد هذا الصوت السماوي الجميل.