كان افتتاح الإذاعة المصرية في عام ١٩٣٤ نقطة مهمة في تاريخ تلاوة القرآن الكريم في مصر والعالم العربي والإسلامي عامة، كما ذكرت في المقالة الأولى. فمنذ ذلك التاريخ أخذت أصوات القرّاء المجيدين يُكتب لها الشيوع في بقاع أوسع من القرية أو المدينة التي نشأ فيها هذا القارئ أو ذاك. وشرعت آذان المستمعين، المحبين لكلام الله والعاشقين في آن واحد للنغم والموسيقى، تألف وتطرب لما تسمع.
وهكذا تكونت في مصر مدرسة مميزة في تلاوة القرآن الكريم كان على رأسها – كما ذكرنا في مقال سابق – المرحوم الشيخ محمد رفعت. وجاء بعد الشيخ رفعت كوكبة من كبار القرّاء يضيق المقام عن ذكر أسمائهم جميعاً، لكننا نذكر من بينهم أئمة تركوا آثاراً بارزة في المدرسة المصرية في القراءة القرآنية.
الشيخ علي محمود
كان من هؤلاء الأئمة الشيخ علي محمود الذي عاش في الفترة ما بين عامي1878 و1949 والشيخ علي من المنشدين الدينيين المجيدين، وله عدد من التسجيلات في هذا الفن الأصيل الذي وصفه الشيخ أحمد عامر، أحد قراء المدرسة المصرية المعاصرين، بأنه ”أساس علم النغم كله“.
وكان الشيخ علي محمود – ليس فقط في رأي المسلمين والعرب، بل حتى في رأي الدارسين الغربيين الذين درسوا فن تلاوة القرآن الكريم مثل الباحثة الأمريكية كريستينا نيلسون – نموذجاً فريداً في التلاوة الموسيقية.
ويقال إن الشيخ كان يؤذن للصلاة من مسجد الإمام الحسين كل يوم بمقام مختلف عن اليوم السابق. ويتميز أسلوب الشيخ علي محمود في التلاوة بتنوع النغمات الموسيقية وتراثها وبقفلاته البارعة. وكان الشيخ علي أحد أساتذة محمد عبدالوهاب. وكان يعلم عبدالوهاب – كما روى لي الشيخ أبو العينين شعيشع – بعض الأشياء المستعصية في المقامات، وكان عبدالوهاب يجلس على الأرض عندما يغني الشيخ قصائده الدينية.
https://www.youtube.com/watch?v=VPk69avrx4c
الشيخ محمد سلامة
كان الامتداد الطبيعي لأسلوب الشيخ علي محمود في تلاوة القرآن الكريم أحد تلاميذه الذين ربما توارت أسماؤهم هذه الأيام، غير أن آثارهم لا تزال حية فيمن تتلمذوا لهم. كان هذا التلميذ هو الشيخ محمد سلامة الذي بدأ بتلاوة القرآن الكريم محترفاً وهو في التاسعة عشرة.
وكان الشيخ محمد سلامة أحد من شاركوا في ثورة ١٩١٩ التي هبت لمواجهة البريطانيين. وللشيخ حكاية عجيبة مع الإذاعة، فهو الشيخ الوحيد الذي رفض التسجيل للإذاعة المصرية.
ويرجع سبب ذلك إلى عدم التزام الإذاعة ببعض القواعد التي وضعها الشيخ محمد سلامة نفسه شروطاً قبل التسجيل، من ذلك عدم إذاعة القرآن في الشوارع والمقاهي، ومنع وجود مقدم البرامج إذا كانت هناك مذيعة في الاستوديو نفسه خلال التسجيل. ويعود إلى الشيخ سلامة الفضل في تأسيس رابطة قرّاء القرآن في مصر بعد عام ١٩٣٧.
فقد كان عدد من القراء آنذاك يخشى أن تؤدي إذاعة القرآن من محطات الإذاعة إلى الإضرار بالقرّاء الذين لا يحظون بالشهرة، مما قد يؤدي إلى إقلال الإقبال عليهم.
وعلى الرغم من تجاهل الشيخ محمد سلامة لتعليقات جمهوره المعجب بطريقته في القراءة، فإنه كان يظهر بعض التجاوب مع هذا الجمهور خلال أدائه في الطبقات العليا لصوته “الجواب/ وجواب الجواب”.
وكان الشيخ محمد سلامة أستاذاً للشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد صديق المنشاوي، بل كان راعياً لهما، فقد عاشا في بيته فترة من الوقت. وكان الشيخ – إلى جانب تلاوة للقرآن – يغني ويعزف على آلة العود. وهو أحد أئمة أسلوب التصوير الموسيقي للمعاني الذي كان رائده المرحوم الشيخ محمد رفعت.
وخلف هذين الإمامين العظيمين قراء آخرون ذاع صيتهم وطبقت شهرتهم الآفاق في مصر وخارجها. كان منهم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ مصطفى اسماعيل، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ علي حجاج السويسي، والشيخ أحمد عامر، والشيخ محمد عصفور، والشيخ الطبلاوي وثلة آخرون لا يفي المكان بالاتيان على ذكرهم جميعاً. وقد طوى الموت – من أسف – كثيرين من هؤلاء، ولكن هذا الجيل والجيل السابق من المستمعين قد حالفهما الحظ فاستمعوا وما زالوا يستمعون إلى واحد من أقطاب القراء الذي ينتمون إلى عصر الكبار، وهو الشيخ أبو العينين شعيشع.
الشيخ أبو العينين شعيشع
كانت أسرة الشيخ أبو العينين شعيشع تؤهله ليكون ضابطاً في الجيش المصري، ولكنه اختار طريق القرآن الكريم، وحفظ الشيخ كتاب الله في عام ١٩٣٤، وكان حريصاً أشد الحرص – كما روي لي – على الاستماع إلى الشيخ محمد رفعت وهو في قريته وقبل أن ينتقل إلى القاهرة. وفي القاهرة كان بيت الشيخ أبو العينين مجاورا لبيت الموسيقار رياض السنباطي، وكانا يتزاوران ويتدارسان معا القرآن والموسيقي. كان الشيخ يعلم رياض السنباطي القرآن ويتعلم هو من السنباطي القواعد الفنية للموسيقي.
وتعلم الموسيقي في نظر الشيخ أبو العينين يهدف إلى عدم وقوع القارئ في النشاز عند انتقاله من مقام إلى مقام ومن طبقة صوتية إلى أخرى. وليس ضرورياً – كما يقول الشيخ شعيشع – أن يتمكن القارئ من كل المقامات الموسيقية، فالشيخ عبد الباسط عبد الصمد – كما قال لي: ”كان من أعلام القراء ولم يكن يعرف هذه المقامات“، ولكن الشيخ مصطفي إسماعيل كان على علم بها، ولا ينبغي – في رأي الشيخ أبو العينين – أن تطغى المقامات الموسيقية والاهتمام بها على الأداء القرآني السليم أو قواعد التلاوة وأحكامها، كما يجب أن تتسم التلاوة بالخشوع.
وكان الشيخ أبو العينين شعيشع أحد المعاصرين للشيخ زكريا أحمد، الذي دعا في فترة من الفترات إلى تلحين القرآن الكريم، وكان للشيخ شعيشع رأي في هذه القضية ذكره لي في حديثي معه.
https://www.youtube.com/watch?v=keXK3fbrnMA
وفحوى هذا الرأي هو أن كتابة ”نوته“ لأداء القرآن أمر لا يمكن تحقيقه. فمن الناحية الفنية – كما قال الشيخ أبو العينين – تختلف أصوات القراء، فمنها صوت ضعيف ومنها صوت قوي، ومنها صوت يستطيع القراءة في طبقات الصوت المرتفعة كالجواب، وآخر لا يستطيع. فكيف يمكن لهؤلاء جميعاً التلاوة طبقاً ”لنوتة“ موسيقية واحدة، ولهذا السبب – إلى جانب حرمة استخدام الآلات الموسيقية خلال تلاوة كتاب الله تعالي – رفض الشيخ أبو العينين شعيشع دعوة الشيخ زكريا أحمد، وماتت الدعوة في مهدها.
إن دعوة الشيخ زكريا احمد – في حقيقتها – كما شرح لى عدد من القراء، أذكر منهم الشيخ على حجاج السويسي والشيخ أحمد عامر والشيخ محمد عصفور – مقيدة للقراءة في تلاواتهم للقرآن الكريم. ولعل ما يميز أداءهم هو التلقائية، فلا يمكن أن يحدد القارئ مسبقاً المقام الذي سيقرأ به آية ما في جلسة أو ليلة ما، ولو حدث هذا لأصبحت التلاوة أمراً جامداً متوقعاً ليس فيه من الإمتاع الروحاني ما توفره التلقائية التي يحافظ عليها القرّاء المجيدون الآن.
والجمهور في حسبان القرّاء، عنصر شديد الأهمية يدفع القارئ – كما قال الشيخ أبو العينين – إلى الإجادة، حتى لو كان القارئ في الاستديو وحده، فإنه يتخيل أن هناك جمهوراً يسمعه ويبدي استحسانه لما يسمع.
وأكد الشيخ شعيشع أثر القرآن الكريم وتعلم أحكام تلاوته في أهل الطرب والغناء. وذكر لي أن الشيخ زكريا أحمد نفسه والشيخ سيد درويش بدآ قارئين للقرآن الكريم، أما محمد عبدالوهاب فكان، كما حكى لي الشيخ شعيشع، يؤذن في مسجد الشعراني بحي باب الشعرية في القاهرة، وكان والده إمام المسجد. وأم كلثوم بدأت حياتها الفنية بقراءة القرآن والتواشيح الدينية في الليالي، وكانت تضع عقالاً على رأسها آنذاك.
وكان الشيخ شعيشع يستمتع بالاستماع إلى الموسيقى العالمية – كما ذكر لي – والعربية القديمة. أما الموسيقى الآن فهي – في رأيه – كما قال لي وقتها – فيها من القفز أكثر مما فيها من الغناء.
المدرسة الشامية
كان لقرّاء القرآن في سورية باع طويل واتجاه أصيل في فن تلاوة القرآن كأشقائهم في مصر. وقد جمع الشيخ محمد عربي القباني إمام مسجد الحلبوني في دمشق وأحد القرّاء السوريين المشهورين، جهود أهل مصر والشام في تلاوة القرآن بقولته ”أهل الشام أتقنوه، وأهل مصر نغّموه، والأتراك رسموه“ أي المصحف الشريف.
والشيخ القباني ولد في دمشق عام ١٩٣٠، ودرس العلوم الشرعية فيها، ثم التحق بالأزهر الشريف في مصر لمدة ثلاث سنوات عاد بعدها إلى سورية فالتحق بكلية الشريعة. وقد أتم الشيخ حفظ القرآن الكريم وهو في الخامسة عشرة، وكان يتلقى دروساً في الموسيقى على الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ كامل يوسف البهتيمي ممن لهم أصول في القراءة والصوت والنغم على حد قوله.
وللشيخ القباني مؤلفات حول قواعد التجويد وتعلم المقامات الموسيقية، وهو إلى جانب تلاوته للقرآن الكريم، يمارس الإنشاد الديني.
ولكن ما الفرق بين التلاوة والإنشاد، إذا كان المؤدي في كليهما يستخدم المقامات الموسيقية؟
يقول الشيخ القباني، إن القرآن يحتاج إلى الأدب الكامل في القراءة، والتزام أحكام التلاوة. أما الإنشاد فالمؤدي فيه طليق لا يلزمه اتباع أي شيء إلا ”النوتة“ الموسيقية. الإنشاد مجاله أوسع فلو مدّ المنشد كلمة بعض الشيء فلن يرتكب بذلك لحناً كما هو الحال في التلاوة.
ويتفق الشيخ عربي القباني مع الشيخ “أبو العينين” في أهمية عنصر الجمهور خلال التلاوة. إذ يقول: ”السامع كالشارب والقارئ كالحالب“. ولو كان السامع ذا فهم لشجع هذا القارئ على الإجادة ولقوّى من رغبته في تحسين طريقته حتى يكتسب استحسان جمهوره.
وذكر الشيخ القباني من أئمة المدرسة الشامية – كما يسميها – الشيخ الحلواني، والشيخ فايز الدرعطاني، والشيخ محمد كريم راجح، والشيخ عبدالرزاق الحلبي.
المدرسة المغربية
اختلاف المدرسة القرآنية المغربية عن نظيرتها في المشرق سواء في مصر أم في سورية اختلاف جوهري لا يقتصر على وجود قرّاء من المغاربة الأقحاح، بل يتعدى ذلك إلى الأسلوب والأداء.
الشيخ صديقي فوزي أحد القرّاء المغاربة المشهورين الذين أتيحت لي فرصة لقائهم. والشيخ صديقي دارس متعمق لعلوم القرآن والحديث، وهو يقوم بمهمة الوعظ والإرشاد الديني لأبناء الجالية المغربية في بريطانيا.
وقد تعلم الشيخ قواعد التجويد في دار القرآن. ولا تقتصر الدروس في هذه الدار على أحكام التلاوة فحسب، بل يدرس الطلاب كذلك مادة تُسمى التطبيق والاستماع، يستمعون خلال دروسها إلى تسجيل من تسجيلات أحد القرّاء المشهورين، ثم يحدد الأستاذ النغمات الموسيقية التي قرأ بها الشيخ ويطلب من تلاميذه أن يُعيدوا هذه النغمات أداءّ وأن يتدربوا عليها فيما بعد.
والشيخ صديقي، كغيره من القرّاء في المغرب العربي، يقرأ القرآن حسب قراءة ورش، وهو مثل هؤلاء القرّاء كذلك، يتخذ الأسلوب الأندلسي، الذي يختلف عن أسلوب أهل المشرق، باستعمال مقامات موسيقية مختلفة إلى حد ما عن المقامات التي يتبعها أهل المشرق العربي، كما تظهر في سمات العجلة التي تمتاز بها لهجات أهل المغرب العربي.
وقد لاحظت عندما قرأ أمامي الشيخ صديقي بعض آي القرآن الكريم بالأسلوب الأندلسي شيوع ما يسميه دارسو “علم الأصوات الغنائي” والموسيقى بالفبراتو. والفبراتو كما تدركه الأذن هو تهدج يميز صوت القارئ أو المنشد ينتج عن اختلاف في حدة الصوت. ويظهر الفبراتو أكثر في أصوات المد واللين خاصة الممدودة منها مداً زائداً لسبب من أحكام التلاوة.
من جيل إلى جيل
عندما سألت الشيخ صديقي عن دور الجمهور أدهشتني إجاباته.
فعلى الرغم من وصفه للجمهور المغربي بأنه جمهور صامت لا يظهر انفعاله ولا استحسانه وإنما يغلب عليه جلال القرآن، أبدى الشيخ عدم ارتياحه بعض الشيء إلى هذا الاتجاه لدى جمهوره. فالقارئ يحب الجمهور الذي يبدي انفعاله لأن في ذلك أثراً في إغناء الأداء.
وبالإضافة إلى الأسلوب الأندلسي يقرأ الشيخ صديقي كذلك بالأسلوب المشرقي، وتظهر في أدائه في هذا الأسلوب آثار الشيخ عبدالباسط عبدالصمد واضحة. وهو يعترف بتأثره به، كما يبدي إجلاله لصوت الشيخ المنشاوي الذي قال عن أدائه: ”إنه يقرأ القرآن من الداخل، ويشعرك بأن هناك حركة وجدانية بينه وبين ما يقرأ، وهو في هذا لا يدانيه قارئ آخر“.
وتأثر الشيخ صديقي كذلك بالقرّاء المغاربة من أمثال الشيخ عبدالرحمن بن موسى، والشيخ عبدالحميد حسين والقارئ الجابري.
وتمتد سلسلة القرّاء من المشرق العربي إلى المغرب العربي، ومن جيل إلى جيل ولا يفي ما عرضنا له هنا حق كثيرين من القرّاء المعروفين ممن كتبت لهم الشهرة في غير بلد عربي. وكان لبعضهم أسلوبه المميز، كالشيخ علي الحذيفي في المملكة العربية السعودية، الذي يلتزم أسلوب الترتيل وإن كان أداؤه فيه أداء مميزاً تميل له آذان الكثيرين وقلوبهم. ولا يتسع المجال هنا لذكر القرّاء الآخرين في البلدان العربية والإسلامية المختلفة، إذ يحتاج الأمر إلى بحث طويل ليس ميدانه هنا.
وكما امتدت سلسلة التلاوة منذ الرسول عليه السلام إلى عصرنا، فستمتد إلى عصور ما بعدنا ما دامت هناك قلوب تخشع للقرآن وآذان تصغي إلى كلمات الله تتلوها أصوات لا نجافي الحقيقة إذا قلنا عنها إنها أصوات من السماء.