بلا منازع يعد عبدالله النديم أبو الوطنية المصرية ، فهو ببساطة شديدة صاغ الوجدان المصري في زمن الإمام المفكر شيخ الأزهر مولانا محمد عبده ، والحالة الثورية في فكر الصحفي العملاق تحولت لرؤي علي أرض الواقع ، ثمثلت في دستور العرابيين وبرلمان حر ومدارس تعليمية رؤي إصلاحية كاملة إنتقلت من جيل شيوخ العرابيين لشباب ثورة 19، وبشهادات كبار الكتاب د محمد أنيس والمفكر محمد أحمد خلف الله والمؤرخ د عبد المنعم جميعي يبدو واضحاً أن مدرسة النديم خرجت بروافد فكرية منها ما يتعلق بالصحافة الساخرة ذات النقد السياسي الواضح ومنها رافد التاريخ والتأريخ الذي ظهر جلياً في شخصيتين هما محمد فريد هذا الزعيم الفذ ( الذي يعد مؤرخا من طراز متميز والثاني هو د صبري السربوني الذي ورث عن عبد الله النديم تلك الحالة الثورية الواضحة في موقفه من الإحتلال الإنجليزي فالسربوني يرفض بصريح العبارة أن يعلو شئ فوق الهوية الوطنية المصرية ، متجازواً حتي الإمام محمد عبده نفسه وهو إصلاحي كبير لكن ليس ثورياً ، وهناك موقف أحمد شوقي أمير الشعراء الذي هجا عرابي والنديم ولقبه بالعاصي ( في سقطة تاريخية ظلت في سجل شوقي ) وهناك ثائر آخر لايعرفة الكثيرون هو ( ثاقب مجيب المصري ) صاحب دار المحفوظات الموجودة حتي اليوم أمام مديرية أمن القاهرة وهو ضمن مَن صاحَبَ النديم وزملاءه وكان ابنه د حسين مجيب المصري عميد الدراسات الأسلامية بالأزهر زميل الدكتور محمد صبري السربوني في جامعة السربون ، هذا العنوان هو بيت القصيد في فكر الدكتور محمد صبري السربوني ، الذي تأثر بشكل واضح بالثائر عبد النديم قرأ له أكثر من سبعة آلاف بيت شعر، وروايتين. ومن أشهر كتبه التي كانت في مكتبة السربوني ( كتاب الاحتفاء في الاختفاء)، وكتاب اللآلئ والدرر في فواتح السور، والبديع في مدح الشفيع، ظل العرابيون تحت الملاحقة مثل النديم..
وعندما كانت فترات الهروب والنفي والملاحقات الأمنية التي أصبحت فيها كتابات النديم بمثابة منشورات سرية ثورية يتناقلها البسطاء والأحرار في كل مصر.. وتعرضت لها الدولة بالرصد والمنع والحرق..، في ذلك الوقت كان بيت العمدة أبو شعيشع في كفر الشيخ ( وكراً سرياً للعرابيين ومنهم سعد باشا زغلول ورفيقه صبري السربوني وآخرون ، وطبعاً تعمقت علاقة د صبري مع سعد باشا فحين سافر الوفد المصري إلى باريس، التقى السربوني مع أعضاء الوفد، وعمل في سكرتارية الوفد، واتصل اتصالا مباشرا برئيس الوفد المصري سعد زغلول باشا ومن يومها صار لايفارقه حتي رحل ، وقد أدرك سعد باشا زغلول قدرة السربوني علي صياغة أحداث الثورة العرابية وما فيها من شخصيات مؤثرة وبالطبع لم يكن يستطيع أحد في مصر طلب كتابة الأحداث من العقاد ولو كان سعد باشا نفسه وربما يكون العقاد قد آشار علي الزعيم بتكليف السربوني بسرد الأحداث ، خصوصاً انه كانت له اهتمامات سياسية وتاريخية وقومية خاصة بتاريخ مصر وهي من بلورة رؤية الوفد في القضايا الكبري ، وقد حظيت دراساته التاريخية بقيمة كبيرة في تاريخ حزب الوفد المصري منذ كتب في فرساي أول بيان تاريخي لطلب إستقلال مصر وقد كانت لغة السربوني مميزة بالفرنسية وتوهجت بالقدرة البيانية، فضلا عن الإحاطة التاريخية الدقيقة من شهادات المعاصرين ,أكبرهم سعد زغلول نفسه الذي عاصر عرابي وكان قريباً منه ، وقد أصدر السربوني باللغة الفرنسية عام 1919 الجزء الأول من كتابه «الثورة المصرية» وأصدر عام 1920 كتاب «المسألة المصرية» بالفرنسية، ثم أصدر عام 1921 الجزء الثاني من «الثورة المصرية» بالفرنسية أيضًا، ثم كانت رسالته للدكتوراه عن «نشأة الروح القومية في مصر» وقد صدرت بالفرنسية عام 1924 في باريس، ثم أصدر باللغة العربية كتابه «تاريخ مصر الحديث من عهد محمد على إلى اليوم» عام 1926، ومرجعين ضخمين عن «الإمبراطورية المصرية في عهد محمد على والمسألة الشرقية»، وقد صدر بالفرنسية، و«الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الإنجليزي الفرنسي»، و صدر بالفرنسية أيضا ، ونشر كتابًا آخر عن السودان المصري عام 1821 – 1948 وكتابا عن مصر في أفريقيا الشمالية، وله بالإضافة إلى هذا دراسات تاريخية متميزة منها «تاريخ الحركة الاستقلالية في إيطاليا» وعلى نحو ما أفاد سعد زغلول من موهبة السربوني فقد أفاد منه النقراشي عام 1947 حيث كلفه بوضع دراسة عن السودان. وفى عهد الثورة وعقب تأميم قناة السويس نشر السربوني كتابه «أسرار قضية التدويل واتفاقية 1888» عام 1957 وكتابه «فضيحة السويس» عام 1958، وفى هذه الكتب التاريخية اجتمعت الوطنية المتدفقة بالبحث العلمي الأصيل، وظهر نموذج نادر للمؤرخ الوطني الذي يملأ الحماس قلبه مع عقل ذكي، وأسلوب علمي بروح ثورية لم تجد مثلها سوي في سرد الزعيم محمد فريد عن وقائع جرت في حياته.
مذكرات نديم وأسرار عرابي بحوزة السربوني
رفض تلاميذ النديم حرق كتبه التي كانت بحوزتهم وهناك نسخة كانت لدي سعد زغلول ( كما كانت نسخة مذكرات سعد لدي النحاس باشا) وتمت طباعتها علي يد عبد الفتاح النديم عقب رحيل شقيقه ، عندما يتحدث السربوني و يحكي اسرار عرابي كان يقصد بالتحديد جملة واحدة (الثورة العربية كشفت المحتل الإنجليزي ولو لم تقم الثورة العرابية كانت مصر ستحتل أيضاً ) لكن المهم في طرح رؤي السربوني كمؤرخ أشتغل بالعمل العام مثل كل ثوار 19 الذين صاروا شيوخ ثورة 19 بعد أن كانوا شباباً أيام العرابيين) سرد السربوني بدقة فترة من تاريخ مصر عندما تولى فيها الزعيم الوطني أحمد عُرابي من خلال الجيش مطالب الإصلاحات السياسية في البلاد وفي الجيش نفسه ، وكيف أن هذه الثورة أسفرت عن الضغط على الخديو توفيق حاكم مصر، التي كانت تتبع من الناحية النظرية فقط الدولة العثمانية رغم كونها تدار على أساس الحكم الذاتي منذ اتفاقية لندن 1840م و كيف استطاعت حكومة شريف باشا إدخال الإصلاحات في البلاد وإقامة حياة نيابية سليمة على أساس مجلس نواب جرى انتخابه من قِبل الشعب انتخابًا حرًا مباشرًا فانعقد أول برلمان مصري حقيقي على النمط الغربي في 1881، كما تم إقرار دستور البلاد في فبراير 1882 وجعل الحكومة مسؤولة أمامه هكذا تبلورت الثورة العرابية في أسس ، يوضحها السربوني فكتب السربوني في كتاب (نشأة الروح القومية المصرية 1863 -1882 م), حقيقة الأمر أن القوى الخارجية، خصوصا بريطانيا، كانت تخشى الاستقلال الفعلي للبلاد، ولذا دأبت على التدخل في شؤونها الخاصة، ولا سيما بعد تفاقم الخلافات بين التيار الوطني بقيادة عرابي والخديوي، ومن ثم بدأت هذه القوى تأخذ صف الأخير وتطالب بعزل عرابي عن منصبه كوزير للحربية وإقالة الحكومات الوطنية. وتبع ذلك إصدار بريطانيا مذكرة مشتركة مع فرنسا بها نفس المطالب، كما أرسلت بحريتها إلى الإسكندرية استعدادًا للضغط على مصر لتنفيذ أهدافها، بينما كانت الدولة العثمانية في سُبات سياسي عميق غير قادرة على حماية البلاد. يفسر السربوني الروح الثورية عند عرابي التي عبر عنها النديم في خطبه الثورية ، فقال أول ما عرف عن عرابي الجندي كراهته للعنصر الشركسي في الجيش لترفع هؤلاء على المصريين. فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبًا وكرهًا لهؤلاء الأجانب وفي عهد إسماعيل وشى به شركسي في الجيش اسمه خسرو، حتى تمكن من فصله من الجندية، وجاء في تقرير خسرو عنه: «أنه صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد للأوامر، ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية».
ويذكر السربوني تفسير عرابي في مذكراته أن خسرو كان يمقته؛ لأنه مصري؛ ثم لأنه لم يشايعه فيما أراد من ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطًا آخر يستحقها، وظل عرابي ثلاث سنوات مبعدًا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديوي،
وفي شهر فبراير سنة ١٨٧٩ اتُهم عرابي بتدبير مظاهرة الضباط الخطيرة، ويتلخص هذا الحادث في أن أربعمائة من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد أثارهم إحالة ٢٥ ضابطًا إلى الاستيداع بنصف راتب وكان لهم على الحكومة مبالغ متأخرة، فتوجهوا إلى وزارة المالية، ولما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما، وأشبعوا نوبار لطمًا ولكمًا وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو في فرقة من حرسه فانصرف الضباط.
وحكم على عرابي واثنين من الضباط المصريين بالتوبيخ، وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكانت الإسكندرية من نصيب عرابي وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين. تلخص هذا الفساد في أمور ثلاثة: الحكم المطلق، والأزمة المالية، وتغلغل نفوذ الأجانب في البلاد. أما عن الحكم المطلق فإن الخديو إسماعيل كان حاكمًا بأمره؛ مشيئته هي القانون وليس هناك من يحاسبه على فعل أو يراجعه في أمره، وليس ثمة من فرق بين خزانة الدولة وجيبه الخاص، ولقد ألف الخديوي مجلسًا من ٧٥ عضوًا سماه مجلس شورى النواب، ولكن لم يكن لهذا المجلس سلطة ولا ظل من السلطة، وعلى الرغم مما أدخله هذا الخديوي في مصر من ضروب الإصلاح في نواحي التعليم والزراعة والصناعة والمواصلات وغيرها، فإنه جر بسوء تصرفه في الاستدانة الخراب على البلاد، وبدل أن يجعل مصر قطعة من أوروبا كما كان يحب أن يقول، جعلها رهينة لأوروبا بما أغرقها من ديون. كل أولئك دون أن يستطيع أحد أن يرده عما يريد.
وأما عن الأزمة المالية، فمردها إلى إسراف الخديو اسماعيل في الاستدانة، حتى لقد بلغت الديون على مصر ٩١ مليونًا من الجنيهات سنة ١٨٧٥، ولقد أدت هذه الديون الباهظة إلى اشتداد وطأة الضرائب على الفلاحين، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرًا ما يفرون من أرضهم لكثرة ما كان يطلب منهم ولكثرة ما كانوا يذوقونه من عذاب، والذين كانت تفتك بهم الأمراض ويسلب أموالهم المرابون من الأجانب، بينما كان يتمتع كبار الملاك بما أنعم عليهم من ضياع أو «أبعديات» كانوا يسخرون الفلاحين في زراعتها. وظهرت في تلك الأيام وما بعدها في أيام خلفه ابنه توفيق الصحافة الثائرة للنديم ، وراح الناس يقرأون في المجلات والصحف أحاديث الوطنية والحرية وبهذه العوامل مجتمعة قام في مصر رأي عام. ويعد هذا شيئًا جديدًا في تاريخها الحديث، فقد انبعث الوعي القومي في مصر، بينما وقف الخديو حاكمها المطلق موقف الحيرة، بعد أن أسرف على نفسه في مظاهر العظمة والترف والجاه.
وإلى جانب هذه الحركة الوطنية، كانت تعقد اجتماعات سرية للضباط يتداولون فيها الأمر بينهم وكيف يكون المخرج من هذه الحال، وكان زعيم هؤلاء الضباط هو أحمد عرابي، وحيث تالفت الثورة العرابية بمعناها الصحيح في عهد الخديوي توفيق خليفة اسماعيل من التقاء العنصرين المدني والعسكري، وإعلان مطالب البلاد على لسان عرابي في صراحة وجرأة .
توصيف السربوني لثورة عرابي
واجتمع عدد كبير من الضباط بمنزل أحمد عرابي ومنهم علي فهمي الديب قائد الحرس الخديوي، وعبد العال حلمي، وأحمد عبد الغفار وعلي الروبي، ومحمد عبيد، وقد اختاروا عرابي لينوب عنهم في رفع شكوى إلى رئيس الوزراء ضد تعصب الشركسي عثمان رفقي ناظر الجهادية في عهد توفيق . قال عرابي في مذكراته الخطية: «قالوا كلهم: إنا فوضنا إليك هذا الأمر فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك، فقلت: كلا، بل انظروا إلى غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا، فقلت لهم: أقسموا على ذلك فأقسموا».
وأدى انتصار عرابي وزملائه على هذه الصورة إلى ذيوع صيته لا في القاهرة وحدها بل في القرى كذلك. ولقد عجب الأعيان والفلاحون أن يجرؤ رجل هو منهم على تحدي الخديو والشراكسة على هذا النحو، وأحبه الناس وإن لم يروه. وجاء كثيرون إلى القاهرة يحبونه ويشكرونه. ويقول بلنت في كتابه عن هذا الحادث وقد كان في مصر عند وقوعه: «ولست أتذكر أني سمعت اسم عرابي قبل ذلك، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر، أو على الأقل أصبح يعزى إليه القوة. وصارت تتقاطر عليه كما هي العادة في مصر الظلامات من أناس عانوا الظلم، ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره بمظهر من يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتصل به كثيرون من الأعيان وشيوخ البلاد، وكان يرد على كل بما يسمعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر في الناس تأثيرًا حسنًا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذابة وفصاحته في الحوار. ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى حد أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى حد أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقًّا إلى الثورة» وقال في موضع آخر: «وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد»، ولقد استحق هذه التسمية حقًّا».
يفسر السربوني رؤي عرابي الثورية التي كانت منظمة منضبطة وليست تهوراً كما وصفها بعض معارضي الثورة وقتها ، فكتب: بهذا الذي فعله عرابي أصبح بيته مقصد الكثيرين من الأحرار من المدنيين، ومن العلماء ومن رجال الجيش. والحق أن عمله يومذاك كان بالغ الجرأة كما كان عظيم الأهمية، فإن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقدامًا، هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة.
وما الثورة العرابية في معناها الصحيح إلا التقاء الوطنيين والعسكريين على غرض موحد، هو إزالة ما كانت تشكو منه البلاد من أسباب الفساد، وصار عرابي زعيم المدنيين والعسكريين جميعًا.