في شهر رمضان عام 972 ميلاديه أقيمت أول صلاة للجمعة في الجامع الأزهر بعد أن تم الانتهاء من بنائه على يد “جوهر الثقلى” الذي دخل إلى مصر عام 969 وشرع فى إنشاء مدينة القاهرة وبدأ بناء المسجد عام 970م والذي يظل أقدم أثر فاطمي قائم بمصر.
بعد ذلك أطلق عليه “الجامع الأزهر” تيمنا بفاطمة الزهراء ابنة النبي محمد -وفقا لبعض من المؤرخين -والأزهر معناه المشرق وهو صيغة المذكر لكلمة الزهراء، والزَّهْرَاءُ لقبُ السيدة فاطمة بنتِ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ويعتبر “الأزهر ” ثاني أقدم جامعة قائمة بشكل مستمر في العالم بعد جامعة القرويين وبعد سقوط الدولة الفاطمية شهد الأزهر تراجعا كبيرا في دوره على يد صلاح الدين الأيوبي فتوقفت الخطبة فيه وظلت معطلة مائة عام إلى أن أعيدت في عهد السلطان المملوكي ” الظاهر بيبرس ” ويعود الأزهر يؤدي رسالته العلمية ودوره الحيوي، وتم تعيين فقهاء لتدريس المذهب السني والأحاديث النبوية وشهد توسعات كبيرة وقد قد اعتبرت تلك المرحلة هي أحد العصور الذهبية للأزهر.
وفي عهد الملك فؤاد الأول صدر القانون رقم 46 لسنة 1930 للأزهر والذي بموجبه أنشأت كليات أصول الدين والشريعة واللغة والعربية لاحقاً سنة 1933، وأصبح للأزهر رسميًا جامعة مستقلة في عام 1961. وقد اعتبرت جامعة الأزهر الأولى في العالم الإسلامي لدراسة المذهب السني والشريعة الإسلامية.
وتحول الأزهر من مجرد جامعة تقدم العلوم الشرعية إلى مرجعية دينية لدى كل المسلمين في أنحاء العالم مما يمثل إضافة قوية لقدرات مصر ونفوذها الخارجي ويعد أحد مكونات قوتها الناعمة شديدة النفاذ في مختلف دول العالم
وبعيدا عن الأزمات التي تعانيها المؤسسة الدينية الأكبر لدى المسلمين وما يقدمه من مناهج تعليم تحتاج كل حين إلى إعادة نظر وتطوير وتحديث لتواكب روح العصر فإن الأزهر قدم عبر تاريخه الممتد أئمة يشار إليهم بالبنان حملوا مشاعل التنوير والوطنية وخاضوا معارك من أجل صحيح الدين وروحه السمحة
الخراشي .. أول إمام للأزهر
لم يُعرَف منصب “شيخ الجامع “إلا بعد مرور 741 عام على إنشاء الأزهر ويعود ذلك إلى زيادة أعباء الجامع الأزهر وعدم قدرة الحاكم على إدارة أموره العامة ومن ثم تم تكليف الشيخ “محمد بن عبد الله الخراشي ” ليكون هو أول شيخا للأزهر عام 1679 وتولى مشيخة الأزهر وهو في سن الـ 78 عامًا واستمر في منصبه إلى أن وفاته المنية عام 1690
وقال عنه عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم” أنه:
” الإمامة العلامة، والحبر الفهامة، شيخ الإسلام والسلمين، ووارث علوم سيد المرسلين “
وفى كتاب “الأزهر في ألف عام ” للمؤلفين محمد عبد المنعم خفاجي، وعلي على صبح جاء عن الإمام الخراشي أنه: «حسن السمعة، يهابه كل من يراه فلم تكن له شفاعة أو يهمل له رجاء، وفتح أبوابه لكل مظلوم من الرجال والنساء، وأصبح يضرب به المثل في الشجاعة وكرم النفس حتى أثر عنه عندما يصاب الناس بكارثة أو تلم بهم لامة من الولاة وغيرهم ينادون بلفظ كلمة خراشي دليل على طلب النجدة والاستغاثة ورفع الظلم عنهم “
معارك التنوير واحلام التطوير
كانت مئوية القرن التاسع عشر هي فترة الأسئلة الكبرى بامتياز .. أسئلة الهوية التي شغلت النخبة وجدل المصير الذي سيطر على المثقفين وحواراتهم ومؤلفاتهم كان هذا بعد أن تراجعت الدولة العثمانية وصار نجمها يقترب من الأفول لتنفجر الأسئلة المحيرة وتتصاعد حالة الاستقطاب الفكري والوطني بين أطراف الأمة .
كان الأستاذ الإمام “محمد عبده ” (1849- 1905 ) هو أحد أهم الأصوات التي ساهمت فى الحوار الفكري والوطني فقد كان أحد أنصار الثورة العرابية ودفع ثمن دعمه للثورة حيث تمت محاكمته ونفي إلى بيروت ويظل ” محمد عبده ” حاضرا فى كل محاولات تحديث وتطوير الأزهر الشريف وكان الأستاذ الإمام أول من تقدم بمشروع لتطوير الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية عام 1895.
“المراغي” الشيخ المستنير
في مايو 1928م تولى الشيخ ” محمد مصطفى المراغي ” مشيخة الأزهر الشريف ويعتبر “المراغي ” أحد الذين تأثروا بالأمام محمد عبده فقد كانت النقلة النوعية التي حددت مكانته العلمية، ومستقبله في مدرسة الإحياء والتجديد والإصلاح وتتلمذ على محاضرات الأستاذ الإمام في تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه تنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى، وكذلك الحال في البلاغة واللغة العربية عرفت نقلة في أسلوب تقديمها في وقته
قرر”المراغى “تشكيل لِجَانً برئاسته لدراسة قوانين الأزهر ومناهج الدراسة فيه، وعَمِلَ على تنقيح هذه القوانين والمناهج، واهتمَّ بالدراسات العليا فاقترح إنشاء ثلاث كليات عليا تتخصص الأولى في دراسة العلوم العربية، والثانية في علوم الشريعة، والثالثة في أصول الدين، وواجه المراغي عقبات عديدة حالت بينه وبين تحقيق أهدافه فقرر الاستقالة من منصبه في أكتوبر سنة 1929م
الشيخ الظواهري والاستقالة
من بين شيوخ الأزهر الشريف الذين خاضوا معارك قوية من أجل تطوير المؤسسة الدينية وتنقية مناهجها حتى تواكب العصر كان الشيخ ” محمد إبراهيم الأحمدي الظواهري ” وهو أحد تلاميذ الأستاذ الإمام محمد عبده، وممن ينتهج نهجه في التعليم، وكان له أثر في أكثر ما استحدث في الأزهر من منشآت وما تم فيه من إصلاح
ولد الظواهري في محافظة الشرقية في 1887، وكان والده من علماء الأزهر، فعُنِىَ بتعليمه وجعله يتردد على حلقات العلم بالأزهر، ومن بينها حلقات الإمام محمد عبده، ثم تقدم للامتحان أمام لجنة من علماء الأزهر ترأسها محمد عبده، الذي أثنى عليه قائلا له: «إنك لأعلم من أبيك»،
وقام “الظواهري” بالتدريس بمعهد طنطا ثم أصدر كتابه “العلم والعلماء” الذي دعا فيه لإصلاح الأزهر، وأثار هذا الكتاب ضجة كبيرة مما دفع الشيخ الشربيني شيخ الأزهر حينذاك إلى اصدار أمر بإحراق الكتاب.
وبعد سنوات من هذا الأمر وفى 1929 تولى مشيخة الأزهر، فكان ترتيبه التاسع والعشرين بين شيوخ الأزهر منذ إنشائه.
وقطع شوطا في إصلاح الأزهر ففي عهده ظهرت الكليات الأزهرية التي صارت نواة لجامعة الأزهر، ووقف الشيخ في مواجهة تنفيذ فكرة ضم الأزهر إلى وزارة المعارف – التعليم حاليا –.
كما صدر في عهده قانون عرف حينها ب “إصلاح الأزهر ” الذي صدر في 1930 وتضمن إصلاحات منهجية للسياسة التعليمية للأزهر كما أصدر مجلة للأزهر، في 29 مايو 1930 باسم نور الإسلام -مجلة الأزهر-وأوفد بعثات من العلماء للصين والحبشة وغيرهما.
إلا أن الشيخ لم يستطع أن ينفذ كل أحلامه في تطوير المؤسسة العريقة وما يتطلع إليه من إصلاح الأزهر ربما لأسباب سياسية من جهة وللمعارضة الشديدة التي واجهته وتصدت لمشروعه النهضوي من جانب رجال الأزهر وطلابه من جهة أخرى العلماء والطلاب له وتحالف مع هؤلاء المعارضين عدد من التيارات السياسية وقد أدت الحملة التي قادها معارضو “الظواهري ” إلى استقالته من منصبة الرفيع في أبريل عام 1935
عودة المراغي
في عام 1935 عاد الشيخ المراغي مجددا إلى إمامة الأزهر بدعم من من الحكومة والراي العام الرأي العام وبدا فى تنفيذ ما استقر عليه رأيه من وجوه الإصلاح، فأصدر القانون رقم 26 لسنة 1936م، وقد ألغى به القانونين الصادرين في سنة 1923م وفي سنة 1930م، والقانون الأخير أصدره الشيخ الظواهري، وأكمل ما بدأه من إصلاح في فترته الأولى، مع بعض التعديلات، وقد حدد مهمة الأزهر وأنه هو المعهد العلمي الإسلامي الأكبر، والغرض منه القيام على حفظ الشريعة الغرَّاء – أصولها وفروعها، واللغة العربية – وعلى نشرهما وتخريج علماء موكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس ويتولون الوظائف الشرعية في الدولة.
شلتوت …. الإمام الأكبر
فى عام 1958 عين الشيخ “محمود شلتوت” شيخا للجامع الأزهر وكان أول من يحمل لقب ” الإمام الأكبر ” وقد ولد الشيخ شلتوت في محافظة البحيرة في 1893 وخلال شبابه شارك بقوة في ثورة 1919 وكان داعما ومناصرا لحركة إصلاح الأزهر وفصل من منصبه بالأزهر لهذا السبب واشتغل بالمحاماة ثم عاد للأزهر سنة 1935
كان الإمام الأكبر معنيا بالتقريب بين المذاهب الإسلامية وزار كثيرًا من بلدان العالم الإسلامي وارتفعت مكانة شيخ الأزهر حتى لاقى من الجميع كل الإجلال وكان يحترمه قادة العالم ويرسلون إليه الرسائل ومنحته 4 دول الدكتوراه الفخرية كما منحته أكاديمية شيلي درجة الزمالة الفخرية وترجمت كتبه لعدة لغات.
وإذا كان الإمام محمد عبده هو أول من سعى لتطوير الأزهر – رغم أنه لم يكن يوما من الأيام شيخا له –
فإن الفضل الكبير يرجع الى الشيخ شلتوت في خلق تلك المكانة الدولية المرموقة للأزهر وقد كان لشخصية “شلتوت ” المستنيرة والمنفتحة على كل ثقافات العالم دون تعصب.