رؤى

نهر النيل.. الأساطير.. الحقوق والصراع المصري _ الإثيوبي (2-3)

في الرابع والعشرين من أبريل الماضي صدر كتاب نهر النيل .. الأساطير.. الحقوق والصراع المصري _ الإثيوبي للخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار عن دار المرايا للإنتاج الثقافي.. ويقع الكتاب في 309 صفحة من القطع الكبير، ويضم مقدمة وخمسة فصول ثم خاتمة.

وهذه هي الحلقة الثانية التي نستعرض خلالها عرض  الكتاب و التي نتناول فيها الفصل الثاني النيل… النشأة والأساطير وطبوغرافية النهر وسماته.

لقراءة الحلقة الأولى: كتاب: نهر النيل.. الأساطير.. الحقوق والصراع المصري – الإثيوبي (1-3)

كيف نشأ النيل؟

يستعرض الكاتب في بداية هذا الفصل نظريات نشأة النيل المختلفة مرورا بالتطورات التي لحقت بمجراه ومنابعه وروافده وصولا إلى صورته الراهنة. وتبدأ هذه النظريات بنظرية نيل الصحراء الغربية كأصل سابق للنيل وهي النظرية التي ذهب إليها عدد من علماء الجيولوجيا على رأسهم ” ماكس بلانكنهورن” الذي افترض وجود نهر ضخم أسماه النهر الليبي يجري داخل مصر وحدها من الجنوب إلى الشمال على بعد 100 كم غرب موقع النهر الحالي، كما افترض أن هذا النهر بدأ في عصر الأيوسين وانقرض في البليوسين.. وقد قبل العالم “تيودور أرلت” هذه الفرضية مع تطوير طفيف يجعل بداية النهر جنوبا من المنطقة التي تضم العاصمة السودانية الخرطوم حاليا ليشمل كل الروافد النوبية دون الاتصال بالروافد الحبشية.

جدارية فرعونية حول نهر النيل
جدارية فرعونية حول نهر النيل

ثم يعرض الكاتب بالتفصيل لنظرية النيل الحديث التكوين التي ذهب إليها العلماء “بروكس” و”هيوم” و”كريج” بعد الاستدلال بسمك طبقات الغرين الحبشي الموجودة في مصر (حوالي 10 أمتار) ما يؤكد أن عمر النظام النهري الحديث للنيل الراهن لا يتجاوز 12 ألف عام قبل الميلاد بحساب معدل الترسيب السنوي البالغ 1مم.

ويرفض الكاتب ما ذهب إليه البعض من أن المجرى قد شق بواسطة أنهار الصحراء الشرقية في العصر المطير نظرا لتركز الأرض السوداء غرب النهر إضافة إلى ضخامة المجرى وارتفاع ضفافه.

 وهناك  نظرية الأصل الالتوائي التي نادى بها “بيدنل” و”هيوم” و”ساندفورد” استنادا إلى فرضية اندفاع حافة الأخدود الإفريقي العظيم الناتج عن الانكسار الهائل في قارة “جندوانا لاند” في عصر الأوليجوسين ما تسبب في حدوث التواء مقعر على محور طولي من الشمال إلى الجنوب هو المجرى الحالي، وهو ما يعني “أن وادي النيل المصري هو ظاهرة تعرية نهرية على امتداد وادٍ التوائي متقعر”.

وتذهب نظرية الأصل الانكساري للنيل إلى أن سلسلة من الحركات الأرضية أدت إلى مجموعة من الانكسارات والفوالق التي مهدت وادي النيل وشكلته ودلتاه وهو ما يذهب إليه كثيرون منهم د. رشدي سعيد.

ويختتم النجار نظريات نشأة النيل بعرض مجمل لنظريات ارتباط النيل بمنابعه الاستوائية والحبشية مثل ما ذهب إليه “أرلت” من أن النيل الأزرق ونهر عطبرة كانا مجموعة نهرية مستقلة ويصبان في البحر المتوسط قرب شبه جزيرة سيناء قبل تكوّن البحر الأحمر وهي نظرية أثبتت الدراسات الجيولوجية استحالتها لأسباب عديدة.. بينما افترض آخرون أن نهرا هائلا كان ينبع من فلسطين ويحتل منخفض البحر الأحمر ويصب في المحيط الهندي قرب عدن وكان يرفده من الغرب رافد كبير يجمع مياه الهضبتين الاستوائية والحبشية قبل أن تتسبب الحركات الأرضية في قلب انحدارات الأرض ما أدى إلى انفصال الرافد الغربي الذي كان يجمع مياه الهضبتين الاستوائية والحبشية واتصاله بحوض النيل.

نهر النيلويذكر الكاتب ما أورده د. جمال حمدان في “شخصية مصر” من أن النيل بدأ مصريا بحتا أو مصريا نوبيا على أقصى تقدير في عصر الأيوسين وأن أقصى منابعه الجنوبية  كانت تقع في بحيرة أو عروض حافة سبلوقة العرضية المرفوعة التي كانت تشكل خط تقسيم المياه في تلك المنطقة وكانت العطبرة هي  الرافد الوحيد غير المصري في ذلك الحين.

طبوغرافية النيل من المنابع الاستوائية والحبشية إلى المصب

جنوب خط الاستواء بدرجتين عند جبال “موفمبيرو” التي تفصل بين منابع النيل ونهر الكونغو- تنحدر ثلاثة روافد لتكون نهر “كاجيرا” الذي يصب في بحيرة “فيكتوريا” فيما يمكن اعتباره المنبع الأول للنيل- تحديدا أحد الروافد الثلاثة المسمى “روفوفو” حسب ما أورده “إميل لودفيغ” في سِفْره العظيم ” النيل حياة نهر”.

وتعتبر بحيرة “فيكتوريا” كبرى البحيرات العذبة في العالم من حيث المساحة (67 ألف كم2) إلا أنها ضحلة نسبيا- يبلغ عمقها نحو 40مترا فقط- ورغم أنها تستقبل سنويا من 113:100 مليار م3 من مياه الأمطار إلا أنها تفقد نحو (94.5مليار م3) سنويا بفعل البخر ما يجعلها تشكل نظاما نهريا مستقلا في سلسلة النظم النهرية والبحيرية التي يضمها نهر النيل.

ويأخذنا الكاتب في رحلة مع النهر الذي يخرج من “فيكتوريا” بإيراد مائي يبلغ (23.5مليارم3 ) ليصب شمالا في بحيرة “كيوجا” الضحلة بعمق 6 أمتار، ثم إلى بحيرة “سالسبوري” ويبدو اندفاع النهر بطيئا بفعل الانخفاض الشديد في معامل الانحدار، ولكن النهر العجيب يضيق مجراه من 300م إلى نحو 6 أمتار فقط ليندفع جبارا وسط كتل صخرية تؤكد الأصل الانكساري للنيل؛ ليلقي بنفسه من ارتفاع 40 مترا عند شلالات “الميرشيزون” ليصب في بحيرة “ألبرت” التي تعتبر المركز الأكبر لتجميع مياه المنابع الاستوائية للنيل.

بحيرة فكتوريا
بحيرة فكتوريا

يكمل النيل مسيره بعد ذلك لنحو 200كيلو مترا في هدوء صالحا للملاحة حتى بلدة نيمولي على الحدود الأوغندية السودانية ليبلغ إيراده عند هذه النقطة نحو (25.2مليار م3 ) ليمضي مجراه مجددا ويندفع كالسيل في منطقة الشلالات قبل أن يصل إلى بحر الجبل.. وهنا يتبدد النيل مع انخفاض معدل الانحدار في مستنقع هائل المساحة (نحو 60 ألف كم2 ) فاقدا بفعل عوامل عدة نحو (15مليارم3) من إيراده.. ليكمل المسير بإيراد قدره نحو(9.1مليارم3) من أصل (169.6مليارم3) هي حجم الأمطار التي سقطت على هضبة البحيرات الاستوائية.

ثم ينتقل بنا الكاتب عبر رحلة النهر العظيم إلى هضبة الحبشة القلب الحقيقي الذي يضخ المياه إلى المجرى الأوسط والأدنى للنهر عبر روافد  البارو  الذي يمنح السوباط  نحو (9.4مليارم3) سنويا ليرتفع بإيراده إلى (13.5مليارم3) يصبها في النيل الأبيض الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام ويبدو كبحيرة هائلة بسبب اتساعه وبطء جريانه. وإلى شمال الهضبة حيث يتداخل نحو ثلاثين نهيرا وجدولا أهمها الأباي الأصغر تصب المياه في بحيرة تانا التي ينطلق منها النيل الأزرق الذي يندفع بقوة لنحو من 80 كم منحدرا لحوالي 1300 مترا ليقطع مسافة 940 كم حتى يصل الروصيرص ليبلغ إيراده السنوي عند الخرطوم حوالي (54مليارم3) يصل منها إلى أسوان نحو (48 مليار م3) سنويا.

مصب النيل في مصر: سر الحياة وأداة الحضارة ومبعث الأساطير

يشير النجار إلى أن النيل لا يحصل على أي مصادر جديدة لتغذيته بالمياه بعد مصب نهر عطبرة فيه حيث ينطلق في اتجاه الشمال مع ميل خفيف نحو الغرب قبل أن ينعطف بشكل حاد ليصبح اتجاهه جنوب غربي قبل أن يعاود الانطلاق مرة أخرى نحو الشمال ليصل إلى مدينة دنقلة التي تبعد عن مدينة عطبرة بنحو 760 كم عبر مجرى النهر ويبلغ عرض المجرى في هذه المسافة نحو 400 متر ويبلغ  معدل البخر حدا مرتفعا يصل إلى 8 مم يوميا ويصل التصرف السنوي للنيل عند دنقلة (85.6مليار م3) ومن دنقلة إلى وادي حلفا يقطع النيل 450 كم قبل أن يودع الأراضي السودانية قبل دخوله إلى مصر.

وكتعبير عن قدرة  ودأب الشخصية المصرية ينتصب معبدا رمسيس عند أبي سمبل وقد نحتا في الصخر تخليدا لذكرى الملك العظيم بإبداع شعب قادر على صنع المعجزات متى توفرت له القيادة الوطنية المخلصة كما حدث بعد ذلك عند بناء السد العالي ” أعظم مشروع بنية أساسية في العالم على مدار التاريخ”.

نهر النيل
نهر النيل بجانب الأهرامات

وترتبط كثير من الأساطير المصرية بنهر النيل مثل أسطورة الإله خنوم الذي اعتبروه سيد المياه ورمزوا له بتمثال على هيئة كبش عظيم وبنوا معبده في منطقة الشلالات التي اعتقدوا أن النيل يخرج عندها من باطن الأرض.

“أما نظرية الاشمونين أو هرموبوليس – و من عندنا نقول إن هناك قرية مصرية  تمتلئ بالمعابد والآثار المصرية القديمة تسمى الأشمونين تتبع محافظة المنيا-  هذه النظرية تذهب إلى أن الإله نون رب المياه الأزلية كان هو كل شيء وكان يحتوي على جميع عناصر الخليقة وعندما بلغت المياه الغامرة لكل شيء في الانحسار ظهر تل الابدية وظهرت عليه كائنات إلهية وكان عددها ثمانية التي تعني “شمون” باللغة الهيروغليفية وعلى أي الاحوال فإن نون إله المياه الازلية عند قدماء المصريين هو الأصل في النظريتين لكل الآلهة ولو تأملنا الكلمة ونون فإن تحويرها إلى نيل هو امر مرجح تماما خاصة وأن منبع مياه النيل وفقا للمصريين القدماء هو هذه المياه الازلية”.

 وإلى جانب نون وخنوم اعتبر المصريون القدماء أوزير إله عالم الموتى وخصوبة الأرض والنماء والزرع هو والنيل شيئا واحدا أما هابي فهو روح النيل وجوهره الحراكي الذي تتحدث عنه الأساطير باعتبار كهفه موجودا في مضيق قرب أسوان حيث يطلق ذلك الإله الغامض المياه التي تغمر حقول مصر العليا.. “وعلى مقربة من القاهرة كان هناك مجرى يعرف باسم بيت هابي وهو مجرى آخر ينظم الفيضان لصالح مصر السفلى، وكانت الطقوس الدينية تقام كل عام عند هذين الموضعين وقرب مقاييس النيل الأخرى عند وفاء النيل فيقذفون في النيل بالكعك وحيوانات الضحية والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليها وكذلك تماثيل الإناث لتثير إخصاب النيل العظيم فيفيض في أمواج عاتية وينثر نفسه خلال المملكة معطيا الحياة للأرض”.

إلى غير ذلك مما يجل عن الحصر من الأساطير التي تؤكد ارتباط المصري القديم بالنيل كما لم يرتبط إنسان آخر.. ما يجعل الصراع الحالي حول حقوق مصر التاريخية في مياه النهر العظيم أمرا لا يهدد الحياة في مصر فحسب بل يصل إلى درجة محاولة هدم أحد أهم مقومات الشخصية المصرية والعبث بوجودها الذي ارتبط بالنيل منذ الأزل.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker