رؤى

يد الإصلاح في الأزهر الشريف.. بعد محمد عبده

في العام 1312هـ، كان الإمام محمد عبده قد قرر أن ينفض يده بالكلية من السياسة بعد أن أيقن أنَّها ليست الطريق الأفضل إلى إصلاح حال الأمة؛ فرأى أن يهب ما بقي لديه من عزم وقوة ومثابرة لإصلاح الأزهر الشريف، وبعد محاولات استطاع الإمام الجليل أن يقنع الخديوي عباس حلمي الثاني، بإصدار قانون إنشاء مجلس إدارة للأزهر، وكان الإمام ضمن أعضاء هذا المجلس.

استطاع الإمام من خلال وجوده في مجلس إدارة الأزهر الشريف أن يجري بعض الإصلاحات، فوضع نظاما جديدا لرواتب العلماء، وآخر لتنظيم الدراسة ومواعيد الامتحانات، كما استطاع إصلاح نظام الأروقة الأزهرية والأوضاع الصحية للطلبة.

رأى الإمام أيضا أن كثيرا من المتون والحواشي القديمة التي تدرس للطلاب لا تصلح على الإطلاق؛ واستطاع أن ينحيها جانبا، ويمنع دراستها بعد جهد جهيد.

كانت المقاومة لما قام به الإمام محمد عبده من داخل الأزهر شديدة، إذ رأى الشيوخ المقلدون، أن ما يقوم به الإمام ما هو إلا هدم لثوابت الأزهر التي بقيت لمئات السنين- فمازالوا يحاربونه ويستعدوا عليه من استطاعوا، حتى استعدوا عليه الخديوي عباس حلمي نفسه، فاستجاب لهم ممالئا لأغراض سياسية، فما لبث الكيل أن فاض بالشيخ محمد عبده، فقدم استقالته وابتعد عن الأزهر دون أن يدرك بغيته في إصلاحه، ثم ما لبث أن ساءت حالته الصحية، ولم تنقض سوى عدة أشهر حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بمدينة الإسكندرية، حيث كان يزمع السفر إلى باريس لتلقي العلاج.

لكن روحا بثها الإمام محمد عبده لم تمت، إذ سرت تلك الروح بين تلاميذه ومريديه من طلاب الأزهر وشيوخه الذين استوعبوا رسالة الإمام ومراميه العظمى المتمثلة في قوله: “إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام؛ إذ أن إصلاحه إصلاح لجميع المسلمين، وفساده فساد لهم، ولكن ذلك- يعني الإصلاح- أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ ورسوخ العادات والتقاليد بينهم”.

جامع الأزهر
الأزهر الشريف

ومن المعلوم أنَّ الإمام محمد عبده لم يكن يأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد, ورفض القول بشفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم- وأكد على الحقيقة القرآنية التي فصلها القرآن الكريم أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم-  لا يعلم الغيب، وليس له أن يتكلم في الغيبيات، وما يعنيه هذا من رفض كل الأحاديث المنسوبة للنبي– صلى الله عليه وسلم-  في غيب المستقبل في الدنيا والآخرة، وبالتالي كانت رؤيته الناقدة للتراث وإصلاح المناهج الأزهرية مرفوضة وبشكل قاطع من قطاع كبير من الشيوخ.

في العام 1928م تولَّى أحد تلامذة الإمام محمد عبده، وهو الشيخ المراغي – مشيخة الأزهر، وقد عمد الرجل إلى وضع مذكرة إصلاحية تقوم على رؤية شيخه في إحلال الاجتهاد محل التقليد وتغيير مناهج الأزهر لتواكب العصر وإدخال العلوم الحديثة في مناهجه، وقد عمل الشيخ المراغي على تنفيذ تلك المذكرة فور توليه المنصب، وكان للرجل همة لا تبارى، لكن الشيوخ الذين يقدسون الجمود، ويحتالون لاستمرار الركود، وقفوا ضده وحاربوه، وانضم إليهم ملك البلاد؛ فاضطر الشيخ المراغي لتقديم استقالته بعد نحوٍ من خمسةِ أشهر من توليه المنصب؛ اعتراضا على تدخل الملك فؤاد في شئون الأزهر.. وبالطبع فقد قُبلت الاستقالة على الفور.

ولنحوٍ من خمس سنوات غطَّ الأزهر في ثباته من جديد، إلا أنَّ الظروف السياسية التي مرت بها البلاد، وكان الأزهر منها في القلب- اضطرت شيخه آنذاك الشيخ الأحمدي الظواهري أن يقدم استقالته؛ ليعود الشيخ المراغي لمشيخة الأزهر في ولاية ثانية استمرت لنحوٍ من عشرة أعوام بدءا من عام 1935م.. لكن شيئا ما كان قد تغير!

محمد مصطفى المراغي
محمد مصطفى المراغي

عاد الشيخ المراغي وقد اعتراه الفتور، وربما كانت عزيمته الماضية قد كَلّت بفعل التجربة الأولى التي اصطدم فيها بالجميع، تغيّر نهج الشيخ وأصبح أكثر ميلا إلى إحداث تغييرات ظاهرية تمثلت في إنشاء لجنة للفتوى، وإقرار إلحاق الأزهريين بالعمل مدرسين في التعليم الحكومي، كما تمكن من تعديل الوضع القائم ليتيح للطلاب الحصول على معوناتهم نقدا، بعد أن كانت تعطى لهم في شكل خبز بالغ الرداءة.

كما بدأ الشيخ سلسلة من الإصلاحات بشأن تحرير مناهج الأزهر من التقليد، كما حثَّ الطلاب على دراسة اللغات الأجنبية؛ ليكونوا أداة لنشر الثقافة الإسلامية بين غير العرب، حاول الشيخ المراغي أيضا العمل على التقريب بين المذاهب،  وأرسي أسس تدريس علم مقارنة الأديان بالأزهر؛ إذ كان يرى أن دور الأديان في إقرار السلام العالمي، ووقف الحروب بين الدول- دور لا يستهان به. وكانت ثلاث كليات هي: اللغة العربية، الشريعة والقانون، وأصول الدين، قد أُنشئت في عهده رحمه الله.

ثم تأتي تلك القامة السامقة صاحبة السبق في التجديد للفلسفة الإسلامية في مصر في العصر الحديث، على رأس مشيخة الأزهر في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1945، إنَّه الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي جاء إلى المنصب وقد سبقه صيته، كأبرز تلاميذ الإمام محمد عبده.

دفعت الدولة بقوة إلى تولية الشيخ مصطفى مشيخة الأزهر لحاجة في نفس الملك؛ حتى أنَّ البرلمان وافق على مساواة التدريس في الجامعة بالتدريس في الأزهر والمعاهد الدينية، ليحقق الشيخ مصطفى عبد الرازق الشروط التي يجب توافرها في من يتولى مشيخة الأزهر، كانت جدارة الشيخ بالمنصب ليست محل شك، لكن المعارضة لتوليه المنصب كانت شديدة، كما كانت الحركة المناوئة له بعد توليه لا تقل حدة؛ لكنه استطاع وسط هذه الأحداث أن يقوم ببعض الإصلاحات، كإدخال تدريس اللغات الأجنبية، وإرسال طلاب الأزهر في بعثات إلى أوروبا، وقد كان رحمه الله من أسخى الناس وأكرمهم، فكان ينفق من ماله الخاص على الطلاب؛ خشية أن تضطرهم الفاقة إلى ترك ميدان العلم، والحقيقة أن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد أضاف كثيرا لهذا المنصب بعلمه وفضله وثقافته وروحه السمح، إذ ارتفعت به مكانة الأزهر وأبناؤه برغم قصر المدة التي قضاها شيخا للأزهر، محاربا فيها الغلو والتشدد الذي فشا بين الطلبة، مشمرا عن ساعد الجد، في إبطال البدع المنتشرة كالمبالغة في كرامات الأولياء والاعتقاد في الخرافات؛ مبتغيا في كل ذلك وجه الله؛ معليا من قيمة الحرية والإبداع، فكان يقول: إنَّ الذين يخدمون الحرية الفكرية هم خدام الحق وأنصاره، فإنَّ العقول المستعبدة لا تسمو إلى جلال الحقيقة وجمالها.

مصطفى عبد الرازق

ونصل إلى اسم من ألمع الأسماء التي أسهمت في الإصلاح بنصيب غير منكور، ألا وهو الشيخ محمود شلتوت والذي تولى مشيخة الأزهر في العام 1958، وقد عمد الشيخ شلتوت منذ توليته إلى إصلاح الأزهر، تلك القضية التي حملها على عاتقه طيلة حياته، واضطهد بسببها وتعرض للفصل من العمل في فترة الإمامة الأولى للشيخ المراغي، وفي عام 1941، بعد اختياره عضوا في جماعة كبار العلماء تقدم بمشروع لتطوير تلك الهيئة، لمواكبة احتياجات العصر، ورغم الترحيب بالمشروع، فإنه لم يخرج للنور كما أراده الشيخ، واقتصر تنفيذه على بعض التفاصيل الشكلية، وهو ما جعله يعيد تنفيذه حين تولى مشيخة الأزهر، ليخرج “مجمع البحوث العلمية” للنور.

وفي عام 1961، وبجهد كبير من الشيخ شلتوت، صدر قانون إصلاح الأزهر، الذي أضاف التخصصات العلمية (الطب، والهندسة، والإدارة، والزراعة) لكليات الأزهر، وسمح للفتيات بالدراسة في الأزهر، لأول مرة في تاريخه، بالإضافة إلى “مجمع البحوث الإسلامية”، الذي يعتبر أول مجمع فقهي يضم كل المذاهب الإسلامية في التاريخ الإسلامي، كما أن للشيخ الجليل دور يعد الأبرز في التقريب بين المذاهب الإسلامية، كذلك فتواه الشهيرة بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية.

وما زال الحديث مستمرا عن إصلاح تلك المؤسسة العريقة، وعن دورها الفاعل والمؤثر في تجديد الخطاب الديني، تلك الدعوة التي كثر المنادون بها دون ضابط ولا رابط؛ حتى صارت عنوانا لكثير من دعاوى الأدعياء التي تبغي الهدم أكثر مما تنشد البناء.. لكن جهودا كثيرة ما زالت تبذل من أجل إبقاء الأزهر في وضع تقليدي لا يمكنه من خلاله الاضطلاع بدوره المنوط به.. وربما كان سابقا لأوانه تمحيص اللحظة الراهنة؛ كشفا لكوامن تلك المناوءة القائمة بين طرفين يطلب كل منها خلاف ما يرجوه الآخر.. لكن الحقيقة التي لا خلاف عليها أن الأزهر ظل حاضرا بقوة في وقائع التاريخ المصري، وأن محاولات نبذه وتهميشه التي حاولها البعض؛ ذهبت دون أثر يُذكر أدراج الرياح.. رحم الله الإمام محمد عبده ورحم تلامذته المخلصين.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock