رؤى

انتفاضة الداخل المحتل.. سقوط “الأسرلة”

في فيلمه المميز “الزمن الباقي” يقدم المخرج الفلسطيني ايليا سليمان صورة بانورامية لفلسطينيي الداخل أو من باتوا يعرفون بعرب ١٩٤٨ الذين يصر البعض على تسميتهم ب”عرب إسرائيل” في تنازل مجاني وغير مبرر عنهم للعدو٫ وهم المليون ونصف المليون فلسطيني الذين اختاروا البقاء في ديارهم في المدن التي احتلها الصهاينة وأقاموا عليها دولتهم عقب نكبة عام ١٩٤٨.

تأكيد الهوية الفلسطينية العربية

يرصد سليمان ببراعة وبشكل لا يخلو من الطرافة كيف مرت النكبة على هؤلاء٫ الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها أقلية في وطنهم٫ ويوضح كيف تعامل الصهاينة مع هذه الأقلية٫ حيث كانت هناك محاولات صهيونية مكثفة لمحاولة إخضاعهم  لبرنامج مكثف بهدف دمجهم في الكيان الصهيوني باعتبارهم “مواطنين” في هذا الكيان٫ وهو ما يبرزه الفيلم في مشهد شديد الدلالة حين تفرض إدارة المدرسة على الأطفال العرب أن يغنوا نشيد الدولة الصهيونية باعتبارها “بلادهم”.

لكن الفيلم في الوقت ذاته يوضح كيف تمسك عرب الداخل بهويتهم رغم كل ما سبق كالقابض على الجمر وكيف تفاعلوا مع محيطهم العربي رغم التضييق الصهيوني عليهم٫ فالام تستمع إلى أغاني فيروز في تأثر واضح٫ والاب العربي يذرف الدمع حين يعلم بخبر وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر وحتى الطفل الصغير “ايليا” يعتبر أن الولايات المتحدة “دولة امبريالية”.

يؤكد الفيلم٫ لا سيما في مشاهده الختامية٫ أن كافة محاولات الدمج التي قام بها الصهاينة تجاه عرب الداخل المحتل لم تفلح٫ فهم أكثر اندماجاً وتعاطفاً وتفاعلاً مع إخوانهم في الضفة الغربية وغزة.

ما رصده سليمان في فيلمه تحول الآن الى واقع في هبة القدس الحالية٫ فعرب الداخل الذين دأبت الدعاية الصهيونية٫ لا سيما الموجهة إلى دول الشمال (أوروبا والولايات المتحدة) على تصويرهم باعتبارهم مواطنين في الدولة الصهيونية٫ أعادوا التأكيد على هويتهم وانتمائهم٫ فاغلب المتضامنين مع اهالي حي الشيخ جراح المهددين بالتهجير في القدس أتوا من الداخل المحتل ليعتصموا دفاعاً عن هذا الحي العربي٫ كما أن الغالبية العظمى من المدافعين عن المسجد الأقصى وأبوابه المختلفة في مواجهة العدوان الصهيوني عليه أتوا من الداخل ايضاً خاصة مع منع الاحتلال وصول المتضامنين من الضفة الغربية المحتلة الى الحرم القدسي.

وما أن بدأ العدوان الصهيوني على قطاع غزة المحاصر والمقاوم حتى انطلقت التظاهرات الغاضبة في مختلف مدن الداخل المحتل عام ١٩٤٨ لا سيما في المدن التي يشكل فيها العرب غالبية السكان.

وعلى مدار أيام رصدت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد تؤكد ما ذهب إليه سليمان في فيلمه٫ حيث ارتفع العلم الفلسطيني عالياً خفاقاً في مدن الداخل٫ بل ان الكاميرات رصدت مشهداً ذا دلالة في مدينة اللد٫ مسقط رأس الدكتور جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين٫ حين مزق شاب عربي العلم الصهيوني ورفع الفلسطيني بدلاً منه.

وانتقلت عدوى التظاهر -اذا صح التعبير- ضد قوات الأمن الصهيونية الى مختلف المناطق لا سيما الساحلية منها مثل حيفا وعكا ويافا٫ وبرز واضحاً فيها مدى السخط الفلسطيني تجاه الصهاينة والذي تجلى في إحراق سيارات قوات الأمن ومقراتهم.

سقوط القناع الصهيوني

سببت هذه الهبة تخبطاً داخل الحكومة الصهيونية التي واجهت مأزقاً في كيفية التعامل معها٫ حيث أن المتظاهرين هنا هم وفقاً للمنطق الصهيوني “مواطنون” ولا يمكن التعامل معهم كما يتم التعامل مع المنتفضين في الضفة الغربية.

لكن نتنياهو المأزوم لم يجد أمامه سوى الحل الأمني خاصة بعد أن فقدت قواته السيطرة على مدينة اللد وطالب رئيس بلديتها بتدخل الجيش٫ وهو ما استجاب له رئيس الوزراء الصهيوني وأباح للقوات الامنية ممارسة الاعتقال الإداري ٫وهي ممارسة معروفة لأهل الضفة وغزة٬ بحق متظاهري الداخل٫ بل ذهب إلى حد التصريح أنه سيستعين بقوات الجيش في المدن العربية.

هذه التصريحات اسقطت ما تبقى من قناع صهيوني حرص نتنياهو وكل من سبقه من رؤساء وزراء الكيان الصهيوني  على التمسك به وهو قناع التسامح مع عرب الداخل واعتبار تواجدهم مع الصهاينة في مدن مختلطة رمزاً ونموذجاً للعيش المشترك٫ إلا أن هذه الهبة أكدت ان الصهاينة لم يروا العرب يوماً كمواطنين مساوين لهم في الحقوق والواجبات٫ فما ان هب العرب حتى قررت الحكومة الصهيونية التعامل معهم  من المنظور الحقيقي وهي أن   اسرائيل وجيشها هم قوات احتلال عسكري.

وتبدو المواجهة بين الطرفين مرشحة للتصعيد٫ خاصة في ظل إطلاق نتنياهو وحكومته يد قطعان المتطرفين الصهاينة ضد عرب الداخل٫ وهو ما ينذر بمواجهة قد لا تقل أبداً في ضراوتها وشراستها عما شهدته البلاد عام ١٩٤٨.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock