المهدي المنجرة مفكر بارز وعالم فذ عدَّه البعض نموذجا للمثقف القدوة الذي يحمل هم الأمة، ورأى فيه آخرون رجل المبادئ الصلب الذي لا يعرف المواءمات، وهو أيضا المتمرد الثائر المتبصر الذي تنبأ بالثورات ورفض الوقوف مع السائد والتقيد بالمعطيات الضيقة فاتحا آفاق فكره على عوالم تؤطرها كرامة الإنسان وحقه في الحرية والرفاه.
من المؤسف أن يكون “المنجرة” خافت الذكر في المشرق العربي وهو المعالم المتفرد صاحب الإنجاز الكبير في علم المستقبليات والعلوم الاجتماعية.. لكن يبدو أن آفة الالتفات عن المغرب العربي وعلمائه هي آفة قديمة، وهي ما دعت ابن حزم الأندلسي إلى أن ينشد متحسرا:
أنا الشمس في جو العلوم منــيرة ولكن عيــبي أنَّ مطلعـــيَّ الغــرب
ولو أنَّني من جانب الشرق طالعٌ لجَدَ عليَّ ما ضاعَ من ذِكريَّ النَّهب.
لكن الغرب لم يغفل ذكر الرجل العظيم الذي اعترف بسبقه “صمويل هنتنجتون” في مقدمة كتابه “صراع الحضارات” كأول من بلور هذا المفهوم، وأسس له.. بينما وصفه ” وزير الخارجية الفرنسي الأسبق “ميشال جوبير”.. بالمنذر بخراب العالم.
منذ أن كان صبيا يلعب في شوارع مدينة “الرباط” انتبه “المهدي” إلى أنماط السلوك البشري وما يتحكم فيها من مرجعيات ثقافية مختلفة.. كان ذلك في منتصف الأربعينات من القرن الماضي.. تصادف وجود الصبي في أحد مقاهي المدينة ليشاهد ما تعرض ماسح أحذية مغربي من صفع وإهانة على يد مالك المقهى الفرنسي بتحريض من زبائن فرنسيين.. وعي الصبي النابه جعله ينتبه مبكرا إلى مسألة الصراع بين الاستعمار وما يمثله من ثقافة استعلائية، وطبيعة الشعوب المقهورة وما يُفرض عليها من إهانات تتعلق بالموقف الثقافي بأكثر مما تتعلق بالاستغلال. ثم يتأكد لديه ذلك الشعور وهو في الخامسة عشرة عندما كان يسبح مع أقرانه في “أفران” حين اعترضت سيدة فرنسية على السماح لكلب بالدخول والشرب من ماء المسبح، وإذا برجل فرنسي يرد عليها قائلا: “إذا كنا نسمح للعرب بالدخول، فلماذا نمنع الكلاب؟!” ولم يقبل الفتى الغض تلك الإهانة، فيرد على الرجل بعبارات قاسية، فإذا بالرجل الذي سيعرف المهدي أنه رئيس شرطة “أفران” يلقي القبض عليه، ويحبسه لمدة عشرة أيام قبل أن يفلح والده في إخراجه.
بعد تلك الحادثة تعاظم لدى المهدي الإحساس بالغضب من وجود المستعمر الفرنسي في بلاده، فكان يعبر عن غضبه هذا في مدرسته ثانوية ” ليوتيه” بصور شتى ما جعله هدفا لمخبري سلطات الاحتلال.. فيخشى عليه والده من تكرار تجربة الاعتقال؛ فيرسله لاستكمال دراسته في الولايات المتحدة، وهناك يلتحق بمدرسة “بتني” ويتخرج فيها ليلتحق بجامعة “كورنيل” ويحصل فيها على إجازتين في البيولوجيا والعلوم السياسية، وعندما تقوم الحرب الكورية يطلب المهدي للتجنيد الإجباري الذي كان مفروضا على حاملي البطاقة الخضراء، فيرفض ويضطر لمغادرة الولايات المتحدة إلى إنجلترا ويلتحق بجامعة لندن التي سينال فيها درجة الدكتوراه عام1957، عن أطروحته عن الجامعة العربية.
وعندما يعود المهدي إلى المغرب يقرر الملك محمد الخامس تعيينه مديرا للإذاعة، إلى جانب عمله في الجامعة كأستاذ محاضر بكلية الحقوق، ثم مستشارا أول للوفد المغربي بالأمم المتحدة، ثم ينتقل المنجرة للعمل باليونسكو حتى العام1979، ثم مستشارا للأمين العام للأمم المتحدة لبرنامج الحرب على المخدرات.. لكنه استقال من العمل بالأمم المتحدة، ورفض الحصول على أي مستحقات مالية ، وقد أعلن عن أسباب استقالته بصراحة أدهشت الكثيرين إذ اتهم المؤسسة الدولية الأكبر بأنها صارت تعمل ضد ما قامت من أجله، ألا وهو مناصرة الشعوب في التحرر وحق تقرير المصير، بل إنها صارت أداة للقوى الاستعمارية تستخدمها في فرض سيطرتها على الشعوب واستغلالها بل وإذلالها.
ولكن علاقته بالسلطة في بلاده ظلت مشوبة بالتوتر إذ منعت السلطات “المنجرة” من إلقاء المحاضرات عدة مرات في أكثر من مدينة مغربية ما جعله يغادر البلاد محتجا للعمل والإقامة في اليابان، فلقد كان يرى أن “وظيفة الأستاذ مزدوجة: وظيفة معرفية وعلمية ووظيفة أخلاقية من خلال المواقف والدفاع عن القضايا العادلة”.. وكان “المهدي” قد عاش في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة التي عرفت “المكارثية” وقوانينها الشائنة، ورأى كيف كان أساتذة الجامعة يدفعون طلبتهم للاحتجاج في الشارع ومناهضة تلك القوانين. فكان تقييم أداء الأستاذ ينبع من درجة اتساق أفكاره مع ما يتبناه من مواقف علمية وشخصية.
وعند عودته إلى بلاده تكرر المنع في عام 2003، في مكناس وعين لوح وابن سليمان والدار البيضاء عندما كان “المنجرة” يقدم مداخلاته العميقة حول إشكالية الاستعمار الجديد. بعد رفض الرجل للعديد من المناصب الوزارية، ومنصب سفير المغرب في الأمم المتحدة، ولم يكتف بذلك بل أعلن الحرب على المثقفين المدجنين من أنصار الفرانكفونية الذين ارتضوا أن يكونوا ذيلا للاستعمار وأداة في يده لتحقيق الهيمنة الثقافية التي يرى المنجرة أنها الاستعمار الجديد بعد نهاية عصر”الكولونيالية”.
يذهب كثير من الباحثين إلى أن المنجرة كان بمثابة “ابن خلدون” جديد، وهذا استنادا إلى أطروحته التي قامت على أن الفساد منذر بخراب العمران، وقد كان اعتماده في ذلك على المنهج الاستقرائي، فلم يكن الرجل استنباطيا، ولا راجما بالغيب، يرى أن المستقبل هو الأهم، ومن ثم فإن من المتوجب علينا أن نتوجه إليه دائما، وحتى فيما يتعلق بالتراث أو الماضي أو الذاكرة أو التاريخ، فمن اللازم أن نتناولها وفق شروط وضوابط مستقبلية.
لقد دافع المنجرة دفاعا مستميتا عن القيم الإنسانية وتبنى قضايا المضطهدين في كل أنحاء العالم، وحرص دائما على مناهضة العنف والنبذ والإقصاء والتجبر والسخرة، وقد تنبأ بانتفاضات شعبية في الأقطار العربية مبينا أن الشعوب تصبر على الاستغلال؛ لكنها لا تستطيع تحمل الإذلال والإهانة، وهو ما تحولت إليه سياسات كثير من الأنظمة العربية القمعية التابعة للغرب التي تحولت بفضلها الجامعة العربية إلى إحدى الهيئات التابعة ” للبنتاجون” على حد وصفه، بل إنه اعتبر هذه الأنظمة معادية تماما للحق الفلسطيني، وإنها الداعم الأقوى لبقاء دويلة الكيان الصهيوني التي تنبأ المنجرة بانهيارها لتهافت الجوانب الثقافية التي تمثل ركيزة أساسية في بناء الدول، ولا يمكن أن تظل باقية معتمدة على تضخم القدرة العسكرية، أو حتى المقدرة الاقتصادية، وذهب المنجرة إلى أن الولايات المتحدة نفسها ستصير إلى الانهيار والتفكك للأسباب ذاتها.
كما سخر د. المهدي كتاباته ضد ما أسماه بـ”العولمة الجشعة” ودعا إلى تحرير الجنوب من سيطرة الشمال، وأن ذلك لن يتحقق إلا إذا استوفينا شروط التنمية الثلاثة الرئيسة، وهي القضاء على الأمية و الاهتمام باللغة الأم بوصفها حارسة الثقافة ووعاء الوعي، وأخيرا دعم البحث العلمي.. وعن آليات التعامل مع الواقع العربي رأى المنجرة أن الأمر لا يخرج عن ثلاثة طرق: إما إبقاء الوضع على ما هو عليه (الاستقرار والاستمرار) وهو ما بات مستحيلا لاعتبارات كثيرة، والإصلاح التدريجي وهو أمر باتت نتائجه محل تشكك كبير، أما الطريق الثالث فهو طريق التغيير الذي يشبه عملية التدخل الجراحي التي كلما تأخرت كانت نسبة نجاحها أقل، وعن هذا التأخير قال أنه” سيؤدي في النهاية إلى انفجار سلبي سنؤدي عليه الثمن، وكلما تأخر الوعي بهذه القضية كلما سيرتفع الثمن. هذا هو تاريخ الإنسانية وتاريخ المجتمعات…فعدم الوعي هو الخطر الأكبر”.. ويقول: إننا إذا أردنا أن نعرِّف التخلف تعريفا واضحا فلن نزيد عن أنه الإهمال المتعمد للعنصر البشري.
في كتابه “الإهانة في زمن الميغا- إمبريالية” الصادر في 2004، تنبأ د. المهدي، بالأزمات الاقتصادية والمالية في أوروبا وأمريكا، والتي تجسدت في أزمة الرهن العقاري وتداعياتها في 2008، مؤكدا حتمية حدوث تلك الأزمات كنتيجة طبيعية لما أسماه جشع الاقتصاديات الحديثة.
لقد ترك لنا الدكتور المنجرة الذي رحل في يونيو من العام2014، إرثا فكريا هائلا تجاوز الثمانين مؤلفا- نفذت الطبعة الأولى من بعضها في اليوم الأول لصدورها- منها ما كتبه الراحل بالفرنسية ومنها ما كتبه بالإنجليزية، أما كتبه بالعربية فقد ترجمت إلى لغات عدة.
ولاشك إن الدكتور المهدي يستحق أن تكون سيرته وفكره وأبحاثه الأكاديمية محل دراسة وتمحيص ليس في وطننا العربي فحسب، بل في العالم باسره، فلقد كان المثال الأبرز للإنسان الكوني الذي ينتصر للقضايا الإنسانية دون اعتبارات، كما كان رجل المواقف الصلب الذي لم يساوم على مبدأ، ورفض كل المناصب التي رأى أنها ستقيد حريته، أو ستجعله مرتضيا لممارسات سلطوية تنتقص من حقوق المواطنين، إذ كان يؤمن إيمانا قاطعا أن الشعوب العربية ستحقق أحلامها إذا هي فقط انتزعت حقها في الكرامة، ورفض كل أشكال الإهانة لأن هذا ما يمثل جوهر الصراع بين الثقافات.. ثقافة الغرب وأعوانه وأذنابه، وثقافة الشعوب الحضارية المغلوبة على أمرها.. رحم الله المهدي المنجرة وأثابه خيرا عن كل ما قدمه دفاعا عن أجلِّ القيم الإنسانية وأعظمها.