أصوات من الجنة تعمل منذ 87 عام بكل إخلاص لا يعرف المستمع ملامحهم فقط يتوحد مع نبرة صوتهم الشجي ومئات البرامج الإذاعية التي لا تسقط من الذاكرة رغم زحام الحياة … ساعة لقلبك، كلمتين وبس، همسة عتاب، أبلة فضيلة، ربات البيوت، لغتنا الجميلة … عوف الاصيل وألف ليلة وليلة.
صوت محمد رفعت وشدو أم كلثوم وحوارات طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأحاديث الشيخ الباقوري …
هي الإذاعة المصرية بكل ما تعني من قيمة ومتعه وتاريخ.
لحظة الانطلاق
في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء يوم31 مايو عام 1934 انطلق صوت الشيخ محمد رفعت بأليات من القرآن الكريم ليكون خير بداية لبث الإذاعة المصرية ثم جاء صوت ” أم كلثوم ” وغني أيضًا في ذلك اليوم المطرب صالح عبد الحي، ثم محمد عبد الوهاب وشمل برنامج الإذاعة القاء قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي ألقاها بصوته ” حسين شوقي أفندي ” كما ألقى الشاعر علي الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول ملك مصر والسودان، كما تضمن حفل الافتتاح مشاركة كل من المونولوجست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامي الشوا.
وكانت عبارة “هنا القاهرة“ التي رددها المذيع “أحمد سعيد” بصوته المميز هي الأشهر في تاريخ الإذاعة المصرية وتحولت إلى شعار ثابت يتردد مع إنشاء كل محطة إذاعية جديدة.
https://www.youtube.com/watch?v=0H5CRO4iKjk
وكانت الإذاعة المصرية قد ظهرت منذ عشرينيات القرن العشرين على شكل تجارب أهليه من خلال ” عبر مبادرات بسيطة ومحدودة يمتلكها أفراد، وفى عام 1923 دخلت مصر عالم الإرسال الإذاعي.
و فى مايو 1926 صدر مرسوم ملكي يسمح لهواة اللاسلكي من المصريين والأجانب إقامة محطات إذاعة من القاهرة والاسكندرية، وفى مطلع الثلاثينيات كانت المحطات الأهلية الاذاعية قد بلغت حداً كبيراً من الانتشار والرواج، وتميزت برامجها بقدر كبير من الحرية والجدة، مما أثار غضب السلطة حينذاك ورفضته كل الحكومات فى مصر، لذلك؛ بدأت الحكومة المصرية في بداية الثلاثينيات تطبيق مبدأ احتكار الدولة للإذاعة أسوة ببريطانيا التي عملت بذلك منذ عام 1922عندما أنشأت “هيئة الإذاعة البريطانية “.
وكان تقرير رسمي صادر عن البرلمان المصري فى فبراير 1933 قد كشف عن وجود 120محطة إذاعة أهليه في مصر وأشار التقرير الى أنها جميعا تدار بدون ترخيص ووافق البرلمان بالإجماع على إلغاء تلك المحطات وإنشاء محطة أساسية فى منطقة ابى زعبل يتبعها محطة إضافية فى الإسكندرية “واعترض نائب وحيد على هذا القرار وهو الدكتور “محمد صالح ” الذي اعتبر اتجاه الحكومة تقويض للجهود المصريين فى هذا المجال واتهم الحكومة ايضا بمنح شركة ماركوني البريطانية احتكار الخدمة الإذاعية و تولى سعيد باشا لطفي أول رئيس للإذاعة المصرية عام 1934.
الإذاعة مصرية
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 إنتظرت مصر أن تفى بريطانيا بوعدها وتمنح مصر استقلالها الكامل لكن هذا لم يحدث مما أدى لحالة من التوتر الشديد بين الحكومتين ونشب على خلفية ذلك خلاف بين الحكومة المصرية والشركة البريطانية للإذاعة حول السياسة التي تتبعها في تقديم الأخبار الإذاعية وتسلمت الحكومة المصرية الإذاعة من شركة ماركوني فى مارس1947 وأصبح الجانبان البرامجي والإداري في يد المصريين, وأنشئت في18 مايو1947 ادارة الاذاعة اللاسلكية المصرية, وتشكل مجلس ادارة لها وأصبح للإذاعة ميزانيتها المستقلة التي تعطي لمجلس الإدارة اختيار المذيعين والكتاب والأدباء والموسيقيين وغيرهم دون التقيد باللوائح المالية العادية وتسلمت الحكومة المصرية محطة الإذاعة وأصبحت مصرية شكلا ومضمونا منذ31 مايو1946 وشهد عام1948 انتقال الإذاعة من مقرها في شارع علوي الي شارع الشريفين بطاقة13 استوديو, وشهدت هذه المرحلة أيضا صدور تشريع للإذاعة وهو القانون رقم98 لسنة1949 وأصبحت بمقتضاه الإذاعة هيئة مستقلة ذات شخصية معنوية تلحق برئاسة مجلس الوزراء وتسمي الإذاعة المصرية.
يوليو … والإذاعة
كان الدور الرئيس الذي لعبته الإذاعة فى الترويج لثورة يوليو مبررا لاهتمام قادة يوليو بها وأدركت الثورة مبكراً جداً أهمية امتلاكها لوسائط إعلاميه تحمل رؤيتها ورسائلها إلى العالم فتقرر نقل تبعية الإذاعة المصرية من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الارشاد القومي فينوفمبر1952 وفيفبراير1958 صدر القرار الجمهوري باعتبار الإذاعة مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية وإلحاقها برئاسة الجمهورية، وأصبحت عام1961 من المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي وسميت المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون وفي عام1962 تم ضمها الي وزارة الإرشاد القومي وصدر عام1971 القرار الجمهوري رقم1 لسنة1971 بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون،
وفى عام 1953 كان انطلاق إذاعة “صوت العرب” والتي لعبت دوراً مهماً في التاريخ السياسي المصري والعربي، وكانت صوتاً للثورة، وداعمة للنضال العربي ضد الاستعمار وداعمة لحركات التحرر العربية.
نجحت “صوت العرب” في حصد على اهتمام الجميع، وصارت الأكثر كثافة في المتابعة والاستماع من المحيط إلى الخليج، وفي هذا العام أيضا 1953 بدأ بث الإذاعات الموجهة المصرية التي حملت صوت مصر وحضارتها وثقافتها وفنونها إلى أفريقيا وآسيا ودول العالم المختلفة، وكانت جسرا للتواصل بين مصر وشعوب العالم. وفى عام 1954 بدأت إذاعة الإسكندرية المحلية إرسالها، وعام 1957 بدأت «إذاعة البرنامج الثاني».
وفى عام 1959 إذاعة الشعب واستكمالاً للدور المصري تجاه القضايا العربية والتي يَعتبِر قضية فلسطين قضية العرب الأولى تأسست “إذاعة فلسطين” عام 1960 وكل من إذاعتيّ “القرآن الكريم” و”الشرق الأوسط” عام 1964.
في 2 نوفمبر عام 1956 وأثناء العدوان الثلاثي على مصر تعرضت الإذاعة المصرية لقصف عنيف قصف قبيل خطاب الرئيس جمال عبد الناصر، بساعاتٍ قليلة، شنّ العدوان الثلاثي قذائفه على أجهزة الإرسال الخاصة بالإذاعة المصرية في منطقة «أبو زعبل»، لتتوقف الإذاعة عن البث في الحال، وتنقطع السبل ويتوقف الصوت الذى ينقل للعالم وحشية العدوان وعدالة الموقف المصري.
وبعد أقل من سبع دقائق تقريبًا، خرج المُذيع السوري عبد الهادي بكار، ومع نشرة الثانية ظهرًا عبر إحدى الإذاعات السورية هناك، أن يتضامن مع مصر وأنّ يُغير في النشرة، ليقول «من دمشق. هنا القاهرة» بدلًا من «إذاعة الجمهورية العربية السورية من دمشق».
شكلت الإذاعة المصرية منذ نشأتها جسر حضاري وثقافي بين مصر والعالم الخارجي خاصة دول الوكن العربي التي تأثرت شعوبها بقوة بالمواد الفنية والترفيهية والسياسية التي بثتها الإذاعة فكان ذلك النفوذ المعنوي الذي حققته الثقافة المصرية والارتباط الكبير بمواقف مصر خاصة في تصديها للاستعمار وقيادتها لحركات التحرر الوطني كل هذا كانت الإذاعة صاحبة دور كبير في صناعته وتطوره واستمراره.
تاريخ عريق
ورغم إنشاء التلفزيون المصري عام 1960 بما يملكه من مقومات تأثير تعززها الصورة المرئية إلا أن الإذاعة ظلت محتفظة بمكانتها لعدة عقود في ظل وجود التلفزيون واستطاعت أن تطور من نفسها وتواكب العصر وتحتفظ بمستمعيها حتى وقت قريب
وتمثل الإذاعة واحدة من أقوى الوسائط الإعلامية التي لعبت دوراً بارزاً فى حياة المصريين، وتشكيل وعيهم، وذائقتهم، كما لعبت دوراً في تكوين صورة مصر لدى محيطها العربي ولازال المستمع العربي في كل مكان يتذكر أصوات شكلت وعيه ووجدان عبر أثير الإذاعة المصرية مثل محمد محمود شعبان “بابا شاروا”، صفية المهندس أول صوت نسائي إذاعي انطلق ليس فى الإذاعة المصرية بل في إذاعات الوطن العربي وأبله فضيله ووجدي الحكيم و جلال معوض و نجوى أبو النجا و أمنية صبري، آمال العمدة، سامية صادق، على خليل، طاهر أبوزيد، نادية توفيق ،صالح مهران، أحمد سعيد، سناء منصور وسناء منصور وغيرهم الكثير في أجيال متعاقبة .
كما قدمت الإذاعة العشرات من قراء القرآن الكريم ورسخت للمدرسة مصرية خالصة في قراءة القرآن كما كان للإذاعة دور كبير في تقديم مئات المواهب الفنية التي بدأت مسيرتها عبر ميكروفون الإذاعة المصرية.
ومع ثورة تكنولوجيا الاتصالات التي شهدها العالم في نهايات القرن العشرين شهدت الإذاعة والتلفزيون تراجعا ملحوظا في تأثيرها ونفوذها لدى المواطن فقد احتلت الوسائط الجديدة مكانة تلك الوسائط التقليدية مما يستدعى من القائمين على الإذاعة في العالم البحث عن سبل للتغلب على تلك التحديات.