“مصر هبة النيل”٫ عبارة تنسب إلى المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد ورأى في النهر العظيم سبب قيام حضارة المصريين واستمراريتها.
وبعيداً عن مدى الاختلاف أو الاتفاق مع مقولة هيرودوت فإنها تعبر بحق عن المكانة الرفيعة التي اكتسبها نهر النيل في ثقافة المصريين القدماء.
إذ تشير عالمة المصريات آنا رويز في كتابها “روح مصر القديمة” إلى أن بدايات ظهور النماء وازدهار الحياة في مصر يرجع الى تلك اللحظة في بداية الألف الثالث قبل الميلاد حين بدأ المصريون يتمركزون على طول شريط ضيق من الأرض على جانبي النهر.
أما المناطق الواقعة خارج وادي النهر٫ فكان المصريون يشيرون إليها باسم “دشرت” أي “الأرض الحمراء” المحفوفة بالمخاطر أما التربة التي يرويها النيل ويخصبها فقد أسماها المصريون “خمت” أو الأرض السمراء في إشارة الى الطمي الذي يصنعه النيل صنعاً.
ابن النيل
ويذكر الخبير الاقتصادي المصري أحمد السيد النجار أن المصريين القدماء كانوا يطلقون على النيل الرئيسى من أسوان إلى القاهرة، اسم «أترو -عا» وهى كلمة مصرية قديمة معناها «النهر العظيم» ومنها جاءت الكلمة المستخدمة حاليا فى اللغة العربية (الترعة) التي تطلق على الفروع الصغيرة للنهر.
وكان المصري القديم يتصور أن منابع النيل لا تأتي من أي مصدر أرضي وإنما تنبع في السماء وتحديداً في الفردوس وبالتالي فإن مياهه هي بمثابة هبة إلهية لمصر وهي التي تمنح مصر الحياة مع كل موسم وفي كل فيضان٫ بل ذهبوا الى الاعتقاد ان مياه النهر تحمل خصائص علاجية من شأنها أن تشفي العليل٫ فكثرت الوصفات الطبية التي تتضمن تناول المريض بشكل او بآخر لمياه النيل.
وشكل النيل منذ قديم الأزل ومنذ تأسيس الدولة المصرية على يد الملك الموحد نارمر أو “مينا” مصدر إلهام للمبدع المصري القديم٫ فصار النهر قسماً مهماً من الأدب المصري القديم٫
حيث أهدى المصري النيل العديد من الأغنيات مثل “ترنيمة النيل”.
النيل .. عقيدة
بل صار النيل مٌتضمَناً ايضاً في العقيدة الدينية المصرية القديمة حيث أنتجت مخيلة المصريين كائناً مقدساً اسموه “حعبي” وهو الملقب ب”ابن النيل” واعتبر المصريون “حعبي” مسؤولاً عن الفيضان ونسبوا إليه اطلاق مياه النيل من شلاله الأول حتى وصوله إلى المصب.
وكانت الطقوس الدينية تٌقام كل عام عند أسوان وبالقرب من موقع القاهرة الحالي وكانت تتضمن قذف الكعك والأضاحي والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليها.
بل إن النيل في العقيدة المصرية القديمة يمتد إلى العالم الآخر٫ ففي كتاب “الخروج في النهار” الذي يتضمن تصور المصري القديم لما سيكون عليه حساب الإنسان في العالم الآخر٫ يتلو المتوفي أمام مجلس قضاة يتولى حسابه ما يُعرف بالاعترافات السلبية وذلك لأنها جميعاً تبدأ بصيغة النفي ويصل عدد هذه الاعترافات السلبية إلى ٤٢ اعترافاً٫ وفي الاعتراف السلبي رقم ٣٤ يقول المتوفي نصاً “أنا لم ألوث مياه النيل” إذ كان المصري القديم يعتبر أن تلويث النهر الذي يراه مقدساً خطيئة من شأنها أن تعرض من يرتكبها الى اللعنة والعذاب في الآخرة.
ويشير كل من دوجلاس بريور وايملي تيتر في كتابهما “مصر والمصريون” الى ان حقيقة كون النيل يتدفق في مصر من الجنوب إلى الشمال جعلت المصري القديم يعتبر هذا الاتجاه بوصلة له في كافة أسفاره حتى يتسق مع اتجاه النيل٫ وهو ما ادى الى اطلاق اسم “مصر العُليا” على صعيد مصر و”مصر السفلى” على منطقه الدلتا.
ومن الطريف حقاً أن المصريين حين توسعوا خارج حدودهم الأربع وكونوا أول إمبراطورية مترامية الأطراف عرفها التاريخ البشري اعتبروا ان الانهار الاخرى تجري في الاتجاه الخاطئ لكونها تتدفق من الشمال إلى الجنوب كما يتضح من نص ينسب الى الملك تحتمس الأول في أحد مقابر النوبة.
ولا أدل على مكانة النيل في مصر القديمة من النص المعروف باسم “انشودة الفرح بالفيضان” وهو النص المتضمن في “متون الأهرام” وهو أقدم نص ديني مكتوب في التاريخ٫ حيث تقول الأنشودة:
“المجد لك أيها النيل
الذي ينبع من الأرض
ويحمل الخير لمصر
وعندما تفيض يعم الفرح البلاد
أنت تفيض فتسقي الحقول
وتنعش القطعان وتمد الناس بالقوة
اذا تأخرت بنعمك توقف دولاب الحياة
وإذا غضبت حل الذعر فى البلاد
يا سيد الأسماك
ومنبت القمح والشعير والذرة
أنت الذي يخلق كل جميل
الشباب والأولاد فرحون جذلون
يحبونك أيها الملك”.