كثيراً ما وقفت في شرفة بيت جدي الشيخ محمد أتأمل تمثال رفاعة الذي يشع نوراً في ميدان المحطة بطهطا، ومن يقرأ سجل الشرف لأعمال الرجل المدونةعلي قاعدة كبيرة وضخمة أسفل التمثال يدرك كم أعطى هذا الرائد العملاق لمصر ،ومن الإنصاف الإعتراف بالفضل و بالمجد لتلك الشخصية الفذة .
في عالم الفكر والثفافة والفن والأدب هناك عمالقة يحملون لقب الشيخ مثل أستاذهم رفاعة في الموسيقي والشعر والتأريخ والأدب ، في حديقة الخالدين في روما تجد تمثال الشيخ سلامة حجازي بحلته الأزهرية ، في جامعة كولومبيا الأمريكية تقدير خاص لأعمال الشيخ محمد عثمان جلال مؤسس المسرح المصري ، الذي عمل صحفيًا في مجلة “روضة المدارس”، التي أنشأها رفاعة الطهطاوي لتكون مدرسة لفن الكتابة لتلاميذه الصغار .. وقد كان الشيخ رفاعة يخصص قاعة كبري لصالونه الفكري يستضيف فيها مساء كل جمعة تلاميذه وقادة الفكروفي إحدي الجلسات اكتشف موهبة السرد المسرحي عند محمدعثمان جلال ،فطلب منه النشروالترجمة في الوقائع المصرية التي تحولت إلى جامعة لشتي الرؤي الفكرية لنوابغ عصره
عندما كتب كتاب الروايات المفيدة في علم التراجيدة كان محمد عثمان جلال يسير علي منهج رواد التنوير الذين تخرجوا في الأزهروحتي الكتاب علي نفس النسق الأزهري المعروف،هذا الكاتب القدير الذي لاتزال مسرحياته مقررة علي طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت ومصروالجزائروكلية الدراسات العربية ، كما تقدم سنوياً علي مسارح المدارس في مسابقات مادة التربية المسرحية ، هو تلميذ نجيب لمولانا الطهطاوي بدأ مشوار الإبداع مع الشيخ محمد عمر التونسي رائد ترجمات الفنون ،ولولاجلال حفيد الشيخ العظيم الذي حفظ تراث جده وقدمه عندما كان مديراً لمكتب فهمي النقراشي رئيس الوزراء الأسبق لفقدنا كثيرا من تراث هذا المسرحي الرائد . تروي القصة ثقة رفاعة مدير مدرسة الألسن في بعض النوابغ الأزهريين مثل محمد عثمان جلال، والسيد صالح الشاعر الفذ ومحمد التونسي المترجم، والشيخ أبوالنصر المنفلوطي والشيخ علي الليثي والشيخ صفوت الساعاتي كما أشار أستاذنا الكاتب الكبير عبد المنعم شميس في موسوعته عظماء من مصر.
جلال .. سبق صنوع في ريادة المسرح
يتحمل أساتذة التاريخ المسرحي وزر غياب أعمال الشيخ عثمان جلال عن الدراسات التاريخية المسرحية، في ظل إنصاف بعض نقاد الحركة المسرحية ممن كتبوا عن الرائد العظيم، وآثاره المسرحية التي تمثلت في خمسة كتب مطبوعة؛ أولها: مسرحية «الشيخ متلوف» المنشورة في عام ١٨٧٣م وثانيها: كتاب «الأربع روايات من نخب التياترات» وطبع في عام ١٨٩٠، وهو يجمع أربع مسرحيات هي: الشيخ متلوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء. والكتاب الثالث «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» وطبع عام ١٨٩٣م وهو يجمع ثلاث مسرحيات هي: «أستير»، و«أفيجينيا»، و«الإسكندر الأكبر». والكتاب الرابع به مسرحية «الثقلاء» وطبع عام ١٨٩٦م والخامس والأخير به مسرحية المخدمين وطبع بعد وفاته في عام ١٩٠٤م ولعثمان جلال أعمالً مسرحية أخرى مجهولة، نشر بعضها، في عامي ١٨٧٠ و١٨٧١م وهذا الكشف الجديد، يؤدي إلى إعادة ترتيب التاريخ المسرحي المصري مرة أخرى؛ ليكون الشيخ الأزهري هو مؤسس المسرح في نفس فترة ظهور يعقوب صنوع.
وقد سجل عثمان جلال تاريخ حياته قبل وفاته في كراسة قدمها حفيده القاضي جلال إبراهيم عثمان جلال عام ١٩١٦ لمجلة «الأدب والتمثيل دار المحفوظات » ونشر منها العقاد بعض الفصول في كتابه شعراء مصر ، قال فيه: «ولد محمد عثمان بك جلال في بني سويف ١٨٢٨م . وقد تعلم في الأزهر الشريف وحفظ القرآن العظيم وكان من النوابغ في عبقرية الترجمة فقد تفوق علي كل زملائه في مدرسة الألسن، ثم تخرج بتفوق فعينه الطهطاوي بقلم الترجمة العلمية في الديوان العالي ثم أخذه كلوت بك ليعمل مترجماً بمدرسة الطب، أما المؤرخ عبد الرحمن الرافعي فقال عن جلال في كتابه “عصر محمد علي” الجزء الثالث إنه بدا عليه الميل إلى الشعر والأدب والتعريب، وكان ميالًا إلى الفن الروائي، يجيد التعريب بعدة لغات ،وترجم رواية «بول وفرجيني» عن الفرنسية، ووضع كتاب «التحفة السنية في لغتي العرب والفرنسوية» ، وترجم بعض الروايات المسرحية ، لموليير، وأسماها «الشيخ متلوف» بعد أن أسبغ عليها مسحة مصرية، وقد مثلت هذه الرواية على المسارح في مصر، وله مسرحية أرجوزة في رحلة الخديوي سنة ١٨٨٠م.
لاحظ الشيخ الطهطاوي نبوغ عثمان جلال في كتابة الشعر الساخر وفي كتابة الفنون المسرحية مع مقدرة هائلة في اللغات الأجنبية حيث يجيد ثلاث لغات خصوصاً الفرنسية متفوقاً علي أبناء وطنه، فقد استحق تقدير وتشجيع الأستاذ الذي قال عنه ، كان عثمان جلال موهوباً بدرجة مدهشة ومرحا وخفيف الظل فكتب ذات يوم مظلمة لمحمود رياض باشا رئيس الوزراء قال فيها :
الخير عم الناس وفاض
ماحد إلا واستكفي
إشمعني أنا يارياض
وقعت من قعر القفه
…. وعندما قرأرئيس الوزراء الشكوي ضحك وقرر حق عثمان جلال في الترقية لقاضي في المحكمة،
وفاء التلميذ النجيب للشيخ الأستاذ رفاعة
كان رفاعة يعلم أنه يسابق الزمن ليبني دولة النهضة المصرية بحق ، حتي النشيد الوطني وشكل العلم المصري بحث عنهما الطهطاوي ، وبقدر وفاء المعلم والمفكر كان وفاء التلاميذ فقد قال يوماً مولانا الجليل الشيخ محمد عبده تلميذ الطهطاوي ، أنه علمنا أن نجتهد من القرية للعلم للمنهضة للمجد وقد ظلت العلاقة ما بين رفاعة وتلميذه عثمان ممتدة حتى وفاة رفاعة الطهطاوي ، ورثا جلال أستاذه رفاعة حين رحل عن عالمنا بقصيدة بعنوان «يافعة العلم» عام 1883م، يقول فيها مخاطبًا الموت
فـيـا لـيـتَه مـال للعـلـم يـــــــــومًا وأبقَى إلى طـالـبـيـه «رفـــــــــــاعه»
هُمـام تـمكَّن مـن كل فــــــــــــــــــنٍّ ومكَّن فـي كل عـلـــــــــــــــــم يَراعه
ومُبْتدعٌ زان مــــــــــــــــــنه ابتداعٌ ومختـرعٌ قـد أجـاد اختــــــــــــــراعه
وصفه عباس العقاد في كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي»: كان مصريًا يذكرك بمصر كلها، من أقصى شمالها لأقصى جنوبها» وحتى حين ترجم أعمالًا كثيرة عن الفرنسية فلم يخرج قط من صبغته الوطنية ولم يتحول أبدا عن تفكيره وذوقه، فمصَّر «موليير» و«لافونتين» وألبس هذه الأعمال البيئة المصرية وأعطى أبطالها أسماء مصرية ومنحهم لغة مصرية فكما يقول «العقاد» عنه «لم يخرج من مصريته حين ترجم أو اقتبس» أو حتى حين ألف الشعر والأزجال والمسرح، فقد كان شديد الالتصاق بالهوية المصرية، وقد حدا به ذلك إلى الاعتماد إلى اللهجة العامية في كتاباته مما كان سببًا في الهجوم عليه من قبل البعض واتهامه بضعف لغته، وعدم قدرته على الكتابة بالفصحى. وإن رمنا الحقيقة في هذه القضية فإن «محمد عثمان جلال» لم يكن بعيدًا في منهجه باستخدام العامية سواء في الكتابة أو الصحافة عما أقره أستاذه «رفاعة رافع الطهطاوي»، فقد كان رفاعة من أوائل المصريين الذين نادوا بضبط العامية ودعوا إلى التصنيف بها، على أن يكون في مواضيع معينة، تتعلق بمصالح العامة وكوسيلة لتثقيف العامة، واطلاعهم على أحوال البلاد السياسية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق الذي حدده الأستاذ انطلق التلميذ في ترجمته وإبداعه باللغة العامية الدارجة، التي استخدمها في هذه الفترة أيضًا رائدان من رواد المسرح المصري والصحافة وهما، «يعقوب صنوع» و«عبدالله النديم» بوصفها أداةً للتعبير عن قضايا المجتمع، فاستخدام العامية في الصحافة الثائرة كان بهدف سياسي، واجتماعي، قبل أن يكون هدفًا قوميًا، وما يهمنا أيضا أن محمد عثمان ترجم مسرحيتين من الإيطالية عام ١٨٧٠، الأولى بعنوان «لابادوسيت»، والثانية بعنوان «مزين شاويله»، ومعني ذلك أنه تعلم الإيطالية مع الفرنسية والتركية وكذلك كان يلم باللغة الإنجليزية كسائر الشيوخ الأزهريين الرواد في فكرة موسوعية العلم والمعرفة .
أبو المسرحيات الوطنية
ألقاب كثيرة نالها الشيخ محمد عثمان جلال ، وحصل على إثرها على تكريم من الدولة، فمنحه الخديوي رتبة “المتمايز” الرفيعة، كما منحته الحكومة الفرنسية “نيشان الأكاديمية من رتبة ضابط” لمساهمته في نشر الثقافة الفرنسية بترجماته، فهو رائد الترجمة المسرحية، وأبو المسرحيات الوطنية ، والأديب رائد الفكر والثقافة والأدب، وهو أيضًا الزجال، الذي كان له مع الزجل مواقف أبرزت خفة دمه، وسرعة البديهة لديه ، وكان الزجل وسيلته المفضلة في التعبير عما يختلج بصدره.كما نجد أن هناك مقدمة مسرحية في أحد اعماله كان لها طابع خاص ، سواء في اللغة والأسلوب أو في المعنى والمضمون. فقد قال في هذه المقدمة: «قد جُبل الإنسان على حب الاطلاع على أحوال الأمم الماضية من أمور واقعية وغير واقعية. وكان ذلك لا يدرك إلا بالتواريخ والسير والحكايات. غير أن القول لا يؤدي عين الواقعة كليًّا. كما أن المشبه لا يعطي حكم المشبه به من كل وجه ما لم يكن تقليدًا. والتقليد لا يكون إلا باستعمال أشخاص ينوبون عن رجال الواقعة. وهذه الأحوال لم تكن عندنا بل نظرناها عند غيرنا من الأوروباويين الذين اتخذوا التياترات وجعلوها سببًا قويًّا لتمدن بلادهم. فإن التمدن عبارة عن تربية النفس وتهذيبها باتباع ما يستحسن من الأخلاق. ولا يتم لها ذلك إلا باطلاعها على أخبار الأولين وسير الأمم المتقدمين. وحيث إنها وجدت في بلادنا وكثر الراغبون لها ولم يمنع البعض من الوصول إليها إلا أنها باللغات الأورباوية، وأن بعض المتفرجين يتخذون مترجمين والترجمة الشفاهية في الواقعة الحالية لا تؤدي جل المقصود؛ عزمنا على نقلها بلغتنا حرفًا بحرف كي يكون الناظر على بصيرة مما يراه.» ومعرروف أن محمد عثمان جلال بدأ تعريبه للمسرحيات بصورة عملية في نوفمبر ١٨٧٠؛ أي بعد عام من افتتاح الأوبرا الذي كان في نوفمبر ١٨٦٩. وإن دلَّ هذا، فإنما يدل على أن عثمان جلال كان مواكبًا في نشاطه المسرحي النظري، كمترجم ومعرب، للنشاط المسرحي العملي في مصر.
أما فكرة الحِكَم والمواعظ على لسان الحيوانات، فقد أصدرها في كتاب ، وأنفق على هذا الكتاب كل ما يملك من أجل طباعته، وأطلق عليه اسم “العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ”.
الكتاب، الذي أوشك محمد عثمان على الإفلاس من أجله، كان الدكتور أحمد زلط، أحد أعمدة أدب الأطفال في مصر، قد قال عنه في أحد كتبه: “إن ديوان العيون اليواقظ هو فيما نزعم أوَّل محاولة عربية تعبِّد الطريق أمام الكتَّاب لإرساء دعائم أدب الطفولة، وهي محاولة تسبق محاولة أحمد شوقي بسنوات طويلة، ولقد ارتكزت (الريادة الزمنية) لمحمد عثمان جلال في التوفر على الترجمة والاقتباس من اللغة الفرنسية بإعادة نقل حكايات لافونتين الخرافية إلى اللغة العربية بديوانه الموسوم العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ”، وفي هذا الكتاب برزت موهبة عثمان في نظم الزجل والشعر والقصائد، وكانت أبرز المواعظ التي ضمنها الكتاب، والتي ما زالت ترددها الألسنة إلى الآن، قصة “الدجاجة والبخيل”:
كان الـبخيل عنده دجاجة تكفيه طول الدهر شر الحاجة
في كل يوم مر تعطيه العجب وهى تــبيض بيضة من ذهب
فــظن يـوما أن فيها كنزا وأنه يـــــزداد منه عزا
فقبـض الـدجاجة المسكين وكــــان في يمينه سكين
وشــقها نصفين من غفلته إذ هـي كالدجاج في حضرته
ولم يجد كـــنزا ولا لقية بل عــظمة في حجره مرمية.