رؤى

سعاد محمد قيثارة السماء.. وقصائدها الدينية الخالدة

بعد أن صار الضجيج  والتفاهة والسطحية؛ سمات غلبت على الأعمال الفنية في الآونة الأخيرة، خاصة وأنها باتت تهدف إلى تلبية أغراض الترفيه والتسلية بغض النظر عن تقديم القيمة التي لا تخلو من المتعة، والتي في ذات الوقت ترتقي بالذائقة الفنية للجمهور، فإنه لا مناص إذن من محاولة استعادة كنوز التراث -القديم نسبيًّا- علَّها تَروي ظمأ الآذان الهاربة من الضجيج والفوضى والإسفاف، والتي تشتاق إلى سماع الطرَب الأصيل الذي يمس الوجدان وينفذ إلى الأعماق بدون حرج أو استئذان.

وإذا كان من حق الجمهور استعادة التراث الغنائي القديم بتجديد الاستماع إليه ممن أبدعوه وأتقنوه، فإنه من واجب القائمين على الفنون والثقافة في بلادنا العربية أن يعيدوا تقديم ذلك التراث الفني بصورة لا تتسم بالعشوائية؛ ولكن تتميز بانتقاء ما هو غير مشهور منه، ولم يستمع إليه الكثيرون ومحاولة تقديمه في ثوب جديد وبشكلٍ يليق بأصالته ويحترم قيمة من صنعوه بكل إجادة وإتقان.

وهذا يعني أن تكون هناك دراسة شاملة للتراث الغنائي العربي، يجريها المتخصصون من أجل تفنيده وتصنيفه لاستخراج الثمين منه، والذي من الممكن أن يعاد تقديمه من جديد بتقنيات حديثة لا تُفسد جوهره؛ بل تساهم في إحيائه وبعثه مرة أخرى، في محاولة لجذب الجمهور إليه، خاصة الشباب الذين ابتعدوا إلى حد كبير عن أصولهم وتاريخهم ولغتهم العربية الفصحى.

لقد شهد القرن الماضي -خاصة خلال عقود نصفه الأول- اهتمامًا واضحًا بتلحين القصائد العربية الفصحى في معظم بلدان الوطن العربي؛ إلى أن ضعف ذلك الاهتمام بالتدريج؛ حتى فقدنا تمامًا أي التفات من قبل مؤسسات الدول العربية إلى إنتاج قصائد فصحى مغناة منذ أواخر القرن العشرين. وبالتأكيد ليس السبب في ذلك التراجع هو ندرة الأصوات الجيدة والقادرة على أداء هذا النوع من الغناء، أو عدم وجود قصائد فصحى جديدة تصلح للغناء، أو افتقاد الملحنين العرب للموهبة اللازمة، لتحويل القصيدة الفصحى إلى لحن عذب يجذب الآذان فتستمتع به؛ ولكن السبب في هذا التراجع ربما يرجع إلى تعمد إلهاء الجمهور العربي، بمتابعة كل ما هو تافه من الفنون، كي لا تكون هناك كلمة ذات قيمة ترددها الألسن وينشغل بها الفكر، فتختفي القضايا الهامة بالتدريج من على الساحة وتتلاشى معها القيم العليا فلا يصبح هناك أي هدف واضح يجمع شمل الشعوب العربية؛ ومن ثم تتشتت المساعي وتضمحل الرؤى وتهوي الأمة في نفق اللامبالاة بكل شيء وأي شيء مهما كان عظيمًا، ما يفضي إلى المزيد من التقزم والتبعية والتمزق والتدهور!

وفي ظل ذلك التهافت المحموم، من نجوم الغناء في الوطن العربي، على نيل شرف المشاركة في حفلات الترفيه، التي تهدف بالأساس إلى إسعاد الحضور، بالسماح لهم بالتمايل والتراقص والاستمتاع بإبراز ما كان مختفيًا من أجساد النساء، فإنه قد لا يكون هناك أي سعي ملحوظ لإعلاء قيمة الفن الهادف، الذي يدعو إلى التأمل الممتع والمفيد؛ ومن ثم لن يكون هناك حرص على إنتاج أعمال فنية ذات قيمة وقدرة على البقاء والاستمرارية، بل إنه على العكس ما أن تظهر الأعمال الفنية التافهة والرديئة بسرعة البرق حتى تختفي من على الساحة الفنية بنفس السرعة.

ولأن التراث الغنائي العربي يزخر بالكثير من الكنوز الفنية الفريدة، والتي ربما تكون فيها بعض السلوى، فإننا سنستعرض في هذا المقال عددًا من القصائد الدينية التي تغنت بها مطربة قديرة أطلق عليها الموسيقار رياض السنباطي قيثارة السماء؛ نظرًا لإعجابه الشديد بصوتها العذب الشجي. وهذه المطربة هي الفنانة الراحلة سعاد محمد التي للأسف ليس هناك حاليًا أي اهتمام بإعادة تقديم تراثها الغنائي الضخم، مثلما لم يكن هناك فيما مضى، تسليط ملحوظ للأضواء عليها كواحدة من القامات الغنائية التي لن يجود الزمان بمثلها.

ولدت الفنانة سعاد محمد ببيروت لبنان عام 1926، لأم لبنانية وأب مصري من محافظة أسيوط، وكانت بداية انطلاقها في احتراف الغناء من إذاعة دمشق بسوريا، ثم انتقلت إلى حلب، وبعد ذلك قدمت إلى مصر عام 1948، حيث استقرت بالقاهرة بعد مضي عدة سنوات من بدايتها الفنية، إلى أن وافتها المَنِيّة في الرابع من يوليو عام 2011.

وبالرغم من إنجاب الفنانة سعاد محمد، لعشرة أبناء! إلَّا إنها استطاعت أن تقدّم عددًا ضخمًا من الأغنيات في الإذاعات العربية. تنوعت تلك الأغنيات بين القصائد الغنائية والطربية والأغنيات الدينية والوطنية والعاطفية، التي ما زالت تنال -إلى الآن- إعجاب الجمهور العربي.

 ولقد كان للفنانة سعاد محمد باع طويل مع الأغنيات الدينية، سواء كانت قصائد بالفصحى أم أناشيد بالعامية المصرية مثل: أنشودة “سبحانه جلَّ وعلا شأنه” وأنشودة “يا إلهي أنت جاهي يا كريم” وابتهال “يارب”.

أما بالنسبة للقصائد الدينية؛ فقد ارتبط صوت الفنانة سعاد محمد، بالأغنيات الدينية التي أنشدتها في فيلم “الشيماء” والتي لم تزل محفورة في الأذهان، من خلال صورة الفنانة القديرة سميرة أحمد بطلة الفيلم.

ولقد أنشدت سعاد محمد في هذا الفيلم المأخوذ عن رواية الأديب علي أحمد باكثير والذي أنتِج عام 1972، عددًا من الأناشيد الدينية بالفصحى نظمها الشاعر عبد الفتاح مصطفى وكانت من ألحان كل من: محمد الموجي، وبليغ حمدي، وعبد العظيم محمد. وهذه الأغنيات هي: “طلع البدر علينا”، و”يا قرة العين يا محمد”، و”يا داعيًا ما أشجعه!”، وأنشودة “واجريحاه”، وأنشودة “رويدكم” أو “حسبه الله معه”، وأنشودة “إنك لا تهدي الأحبة” أو “كم ناشد المختار ربه”، وأنشودة “أشرقي شمس الهدى”.

ومن ألحان الموسيقار أحمد صدقي، أنشدت سعاد محمد بالتعاون مع كارم محمود، قصائد الأوبريت الغنائي “محمد صلى الله عليه وسلم” وهو عبارة عن صورة غنائية إذاعية من كلمات الشاعر عمر أبو ريشة. كما لحَّن لها أحمد صدقي قصيدة “إني أحبه” وهي قصيدة في حب الرسول عليه الصلاة والسلام من كلمات الشاعرة علية الجعار، وقصيدة “أحب الله” من كلمات محمود الماحي، وقصيدة “إذا ما الصبح نادانا أو حنانًا منك يا الله” كلمات عبد القادر محمود، هذا بالإضافة إلى عدة قصائد دينية للشاعر محمود حسن إسماعيل مثل: قصيدة “أمان الله” وقصيدة “شاطئ النور” وقصيدة “لبيك رب السماء”.

كما أنشدت سعاد محمد للشاعر محمود حسن إسماعيل ومن ألحان الموسيقار رياض  السنباطي قصيدة “أذان الله” أو “من وحي الأذان” والتي تقول كلماتها: يا أذان الحق يا صوت السماء .. طف على الدنيا ورفرف بالنداء .. واملأ الأرواح من نور الرجاء. كما قدَّم هذا الثلاثي المبدع عام 1969 القصيدة الخالدة “قومي إلى الصلاة” أو “يا قدس يا حبيبة السماء”.

وفي عام 1972 أنشدت سعاد محمد قصيدة من نظم صالح جودت وألحان رياض السنباطي بعنوان “يا فرحة المؤمن والمؤمنة” كما لحَّن لها السنباطي قصيدة “موْكب الخالدين” أو أقبِل نديَّ الغار حُلو الموْكب للفنان والشاعر أحمد خميس. ومن نظم الشاعر محمد علي أحمد أنشدت أيضًا سعاد محمد من ألحان الموسيقار رياض السنباطي قصيدة “أمة الروح لا تبالي الجراح”.

كما تعاونت سعاد محمد، مع واحد من رواد الموسيقى العربية، هو الموسيقار اللبناني توفيق الباشا في قصيدة بعنوان “دعاء الحق” وكذلك في الابتهال الديني “إلهي هبني من لدنك” وهما من كلمات الشاعر مصطفى محمود.. ومن ألحان حسن غندور وكلمات موفق شيخ الأرض أنشدت سعاد محمد قصيدة “يا ليلة القدر”.

وبالاشتراك مع المطرب عادل مأمون والمطرب السعودي عبادي الجوهر والمغنية السعودية ابتسام لطفي- غنت سعاد محمد من ألحان الموسيقار محمد الموجي أوبريت عن الحج بعنوان “يا مكة يا مهد النور” ومن نظم الشاعر عبد الفتاح مصطفى وألحان رضوان رجب؛ قدَّمت سعاد محمد القصيدة الدينية المتميزة “أحب الحياة وأعشق من أبدعتها يداه”.

وإذا كان ما سبق ليس سوى بعض القصائد الدينية، التي أنشدتها الفنانة القديرة سعاد محمد بالفصحى، فإنه لزامًا علينا أن نسلط الضوء – في مقال آخر- على بعض قصائدها العاطفية والوطنية؛ علَّنا – ذكراها التي تحل في هذه الأيام- نكون قد أوفيناها جزءًا من حقها؛ بإعادة لفت الانتباه إلى قامة هامة من قامات الغناء، في زمن التألق العربي فنيًّا وثقافيًّا وإبداعيًّا، قبل أن تُطمس هُوية الأمة العربية؛ بهجرها للغتها القومية، وانسلاخها من قيمها الأخلاقية والدينية والإنسانية.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock