لا يتمنى إنسان عاقل وقوع الحرب، أي حرب. لكن عندما يجد أمامه مقدمات واضحة لمعارك آتية فيجب عليه وقتها ألا ينكر احتمال وقوعها وإلا سيكون أشبه بمن يتعامى عن الشمس في منتصف النهار. وما يجري في أفغانستان منذ أسابيع، بل وأشهر، لا يبشر بخير. فذلك السجن الجغرافي المحكم بات ملبداً برائحة البارود وتوترات دموية عنيفة تنذر بانطلاق نسخة جديدة من سلسلة الحروب الأهلية في ذلك البلد المنكوب. فلو أن تاريخ أفغانستان فيه مؤسسة راسخة، بجانب الإثنيات والقبائل، فلن تكون أكثر رسوخاً من مؤسسة الحرب. فالحروب الأهلية فيها أشبه بحتمية غريبة سواء والأجانب يدخلون إليه أو يخرجون منه. وهذه المرة لن تكون استثناءً.
فقد بدأ السير في طريق الحرب الأهلية الجديدة للسببين معاً: دخول الأجانب وخروجهم. فالطبعة الجديدة من سلسلة الحروب الأهلية الأفغانية ترتبط من ناحية بالكلفة الثقيلة التي تحملتها أفغانستان نتيجة وجود القوات الأمريكية لعقدين، كما ترتبط من ناحية أخرى بالتبعات الأثقل لخروجها. المشهد كله فوضوي. على السطح تبدو الحرب مجرد احتمال قد يتحقق عقب خروج القوات الأمريكية بينما يكشف الواقع عن أن القوات الأمريكية بدأت تعجل من انسحابها لأن الحرب بدأت بالفعل، وهي لا تريد أن تجد نفسها بعد عشرين سنة وسط تلك المطحنة الأفغانية الجديدة. هناك فراغ كبير لم يسده الأمريكيون مثلما لم يسده الروس قبلهم بعقود ولا البريطانيون قبل الاثنين بأكثر من قرن. فمن يسعى من القوى المحلية إلى سد ذلك الفراغ لا ينتظر انسحاب قوات الدول العظمى بل قد يحاول ذلك حتى في وجودها. وهذا ما توضحه جملة من الحقائق الميدانية وتصريحات المسؤولين على السواء.
ميدانياً، سيطرت طالبان منذ شهر مايو الماضي،- بحسب تقدير السيدة “ديبورا لايونز” المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى أفغانستان ورئيسة بعثة المنظمة الدولية هناك،- سيطرت على أكثر من 50 مديرية من حوالي 400 ليرتفع إجمالي عدد المديريات التي تسيطر عليها الحركة إلى 89 بحسب شهادة الجنرال “مارك ميلي” رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية. كما أن المعارك بدأت تحتدم بين عناصر طالبان وقوات الجيش الحكومي الأفغاني في ست عشرة ولاية من ولايات أفغانستان الأربع والثلاثين. وقد أسفرت تلك المواجهات بحسب التقديرات الحكومية عن تصفية 1400 من عناصر الحركة. وهو ما بات يمثل ثأراً أقسمت طالبان على الأخذ به.
وعلى الأرض كذلك سيطرت طالبان على المعبر الحدودي مع طاجيكستان، كما أن تقدمها نحو نقاط الحدود مع باكستان دفع وزير الخارجية الباكستاني “شاه محمود قريشي” إلى الإعلان عن أن بلاده ستغلق حدودها إذا ما سيطرت طالبان على أفغانستان لأن باكستان تستضيف 3.5 مليون لاجئ أفغاني، وهي غير مستعدة لاستقبال المزيد منهم. وميدانياً أكملت القوات الألمانية انسحابها التام من أفغانستان، وكذلك فعلت القوات الإيطالية بخروجها من أماكن تواجدها في مدينة هيرات. هذه الحقائق مجتمعة تؤكد أن الصراع خرج عن السيطرة، أو على أفضل تقدير يوضح أن الحرب الأهلية تقف الآن عند المستوى الأول الذي سينتقل إلى مستويات أعلى عقب خروج القوات الأمريكية.
أما على جانب التصريحات فقد أعلن الممثل المدني لقوات حلف الناتو في أفغانستان أن الحلف أكمل انسحابه من هناك وأنه سيكتفي بالحفاظ على تمثيل مدني يقدم دعماً غير عسكري للحكومة. والأهم من ذلك تصريح “عبد الله عبد الله” رئيس لجنة المصالحة الأفغانية الذي أوضح أن “الحرب وصلت إلى أبواب كابول” وأنه ينتظر جهود الوسطاء على أمل أن توقف التدهور وتدفع عملية السلام بين الأفغان قدماً. وكلام الرجل شديد الوضوح. اعترف بأن الحرب دائرة بل ووصلت إلى حدود العاصمة. والأكثر أهمية من ذلك ما قاله “آدم سميث” رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي الذي أعلن أنه “بعد عشرين عاماً فإن القوات الأمريكية لم تجعل أفغانستان أكثر استقراراً، وأن الانسحاب من هناك كان الخيار الأفضل للولايات المتحدة بين خيارات سيئة. وليس من إقرار بالفشل إن لم يكن اعترافاً بالهزيمة أكثر من ذلك.
الأوضاع الميدانية والخطاب السياسي الخاص بأفغانستان يشيران إلى أن الأمر خرج عن السيطرة خاصةً إذا ما وضع ما يجري على خلفية ما يتردد عن أن القوات الأمريكية في صدد تنفيذ انسحاب كامل قبل حلول الحادي عشر من سبتمبر، الموعد المقرر رسمياً لإتمام الانسحاب، وأن إجلاء المتعاونين معها بأُسَرِهم خارج أفغانستان بات يتسارع بما في ذلك تسكين بعضهم مؤقتاً في جوام إلى أن يتم استيفاء إجراءات دخولهم إلى الأراضي الأمريكية.
الحرب الأهلية الأفغانية الجديدة بدأت وما يجري الآن ليس إلا المقدمات الأولى لصراع طويل قادم قد يدوم لسنوات. حرب أسبابها عديدة لكن في القلب منها حقيقة تأكدت مرة تلو مرة وهي أن الولايات المتحدة بارعة في هدم الأمم وفاشلة في إعادة بنائها. وقد كان عشرون عاماً من الوجود الأمريكي في أفغانستان فترةً كافية لتأكيد ذلك.