رؤى

مشروع بهارات.. العلاقات الدولية بين الممرات والمرارات!

لا جديد في العلاقات الدولية منذ أن كتب الإغريقي ثوسيسيداس، الأب المؤسس للواقعية، كتابه عن “الحروب البلوبنيزية” في 341 ق.م، وإلى أن كتب هنري كيسنجر، الأب المعاصر للواقعية (ثوسيسداس الجديد) كتابا بعنوان “النظام العالمي” في 2014، ولم يتغير سلوك الدول طيلة كل هذا الوقت.. فلقد ظل باستمرار أقرب إلى سلوك الغاب، توحُّش وافتراس وتحايل وتربص واستهداف.. الجميع خائف من الجميع، طالما أنهم محكومون بقانون البقاء، وقانون البقاء لا يرحم الضعفاء أو الغافلين؛ بل يشجع على المكر والمراوغة، هو السبب وراء الخوف والقلق والشك المتبادل بين الناس والدول، الكل بسببه يسعى إلى تعظيم إحساسه بالأمان، ويستعين في ذلك بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة.

ولا غرابة بالمرة.. فمن يعيش وسط فوضى لا ترحم وتهديدات لا تنتهي ومخاطر لا تُرى – لن يجد أمامه حلا للبقاء؛ إلا أن يتحرك باستمرار وأن يغير مواقفه بلا تردد ليفر من وجه الخطر، قبل أن يعصف به. كل الدول فعلت ذلك منذ الأزل وستظل تفعله إلى ما لا نهاية؛ لهذا لا تستغرب أبدا -يا صديقي- عندما تجد لاعبين في السياسة الدولية، وهم يتحالفون بعد أن كانوا يتحاربون، أو يتقاتلون بعد ان كانوا يتعاونون.. هذه هي شريعة الغاب، وهذه هي السياسة الدولية في صميمها.. لعبةٌ جوهرها الخوف والفوضى والتربص والقلق والانتهازية والمصلحية، تدفع بجميع من يلعبها، سواء عند الإحساس بخطر أو حيثما توجد المنفعة، إلى القفز من السفينة قبل أن تغرق والتحول من جانب إلى جانب ومن كفة إلى كفة. إنها لعبة توازن بهلوانية لا تنتهي، كل من يلعبونها يقفون على قدم واحدة يقفزون بها حتى لا يختل توازنهم؛ فيقعون ليفترسهم الآخرون.

وبسبب طابعها المتقلب، يحرص أغلب من يلعبون السياسة عموما، والسياسة الدولية خصوصا، على أن يبقوا شعرة معاوية موصولة حتى مع ألد الخصوم؛ لهذا إن سمعت يا صديقي عن بناء تحالفات قوية؛ فلا تصدق أنها ولدت نقية أو أنها ستبقى أبدية؛ لأن مساحات -من الشك- ستبقى باستمرار بين أطرافها. وإذا رأيت على النقيض معارك تشتعل بضراوة بين الخصوم؛ فلا تصدق أن أطرافها أغلقوا كل قنوات الاتصال والحوار بينهم. اللعبة مركبة وملوثة.. هكذا دارت العلاقات الدولية في الماضي، وهكذا تدور في الحاضر، وهكذا ستدور في المستقبل.. طالما ظلت المصالح تتقدم على المبادئ، ستبقى التحالفات فيها متغيّرة، والصداقات متحوِّرة. من يشتبك فيها، إنما يجد نفسه في معمعة تجبره على التعاون مع الجميع؛ حتى لو كانوا أعداءه، واللعب ضد الجميع؛ حتى لو كانوا أصدقاءه. المهم أن يحتفظ بتوازنه لكي يعيش. وهذا تماما ما تفعله كل الدول بلا استثناء، تحالف ثم تخالف.. تعانق ثم تفارق.. تتفانى ثم تتوانى.. تشكر ثم تغدر.. تضع قدما في حلف مع جماعة، والقدم الأخرى في حلف مضاد مع جماعة أخرى تماما.

الولايات المتحدة مثلا مع تركيا في الناتو، لكنها ضدها في سوريا.. وهي بالمثل تقف مع أوروبا ضد الصين، لكنها مع الصين في تجمع دول المحيط الهادئ. تركيا تقدم مثالا آخر.. فهي تقف مع المسلمين من خلال منظمة التعاون الإسلامي؛ لكنها عضو فاعل في حلف الناتو الذي ضربت وأهانت قواته كثيرا من المسلمين. باكستان مثال آخر حيث وقفت مع الأمريكان وتحالفت مع طالبان في ذات الوقت، والأمثلة أمام الناس كل يوم.

وها هي الهند تقدم واحدا منها.. فهي تقف مع الصين في تجمع “بريكس” وبعيدا عنها في قمة العشرين. تلتقي “بحميمية” مع جارتها الآسيوية الصفراء في قمة استضافتها جنوب إفريقيا لتجمع دول “البريكس” في الثاني والعشرين من أغسطس الماضي؛ ثم تعود نفس الهند بعد ثماني عشرة يوم فقط لتترك نفس الصين “ببرود” فلا تحضر قمة العشرين التي احتضنتها نيودلهي في التاسع من سبتمبر الجاري. القوتان الآسيويتان الأكبر، الهند والصين، في أمس الحاجة إلى بعضهما لكسر أنف الهيمنة الغربية على العالم. ولهذا أسستا مع البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا مجموعة “البريكس” في يونيو 2009 ثم اتخذتا مع باقي دول المجموعة في قمة جنوب افريقيا الأخيرة خطوة جديدة، في محاولة كسر تلك الهيمنة بدعوة ست دول جديدة للانضمام لتلك المجموعة.

وفي ظل تجمع “بريكس” المناهض لانفراد الغرب بالعالم، وجدت الصين أرضية ملائمة تتحرك من خلالها نحو تحقيق هدفها عندما تحتفل في 2049، بمرور 100 عام على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وهو استكمال مشروعها الكوني العملاق المسمى “بمبادرة الحزام والطريق”.

تلك المبادرة التي تضم حتى الآن 138 دولة، في شبكة من الممرات والمسارات البحرية والبرية المتنوعة. ومع أن الهند واحدة من الدول التي تستفيد من تلك المبادرة؛ إلا أن لديها تاريخ طويل يجعلها متمرسة في العلاقات الدولية، كما أنها تملك ذاكرة تاريخية لا تلين؛ تجعلها لا تنسى حروبها ومشكلاتها السياسية والاستراتيجية العميقة مع الصين. فضلا عن أنها تفوقت مؤخرا في القوة السكانية على الصين، ولم تعد تقل عنها قوة في تكنولوجيا الفضاء، ولهذا فإنها ترفض أن تكون رقم (2) في آسيا.

ولهذا راحت برغم تقاربها مع الصين من خلال مجموعة “بريكس” ومن خلال مواقفهما المشتركة ضد الهيمنة الغربية في مجموعة العشرين، راحت تبتعد عن جارتها الآسيوية بالترويج لممر جديد – يزاحم الممر الصيني- يجري الترويج له على أنه ممر “بهارات”. و”بهارات” كلمة مشتقة من اللغة السنسكريتية تعني أرض الجنوب، وهو الاسم الذي تعمل حكومة رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” على ترويجه بوصفه اسما للدولة من خلال الدعوات الرسمية، بما في ذلك تلك التي وجهت لحضور العشاء الرسمي خلال قمة مجموعة العشرين؛ بديلا عن اسم “الهند” الذي أطلقه المستعمر البريطاني.

على هامش تلك القمة أعلنت الهند والولايات المتحدة والإمارات والسعودية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، في ظل غياب الزعيم الصيني “تشي بينج” عن اتفاقها على إنشاء ممر اقتصادي جديد يربط جنوب آسيا بالشرق الأوسط بأوروبا. ونقاط الارتكاز على هذا المر الجديد وحدها حكاية تكشف كم تقوم العلاقات الدولية على الخوف والأنانية والمنفعة والتضحية، ليس طبعا بالذات وإنما بالأقربين! فبخلاف مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تضم عددا كبيرا من الدول، اختارت الجهات الراعية للممر الجديد نقاط ارتكاز مدروسة تبدأ من موانئ الهند (بهارات) على بحر العرب لتعبر منه إلى الإمارات، ثم إلى المملكة العربية السعودية، فالأردن فـ “إسرائيل” قبل أن يصل الممر إلى أوروبا. هذا الخط الذي قال الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أنه سيغير قواعد اللعبة يستبعد على سبيل المثال لا الحصر إيران وتركيا ومصر. وإذا كان الاستبعاد الأمريكي السعودي الإماراتي لإيران مفهوما، فإن استبعاد كلٍ من مصر وتركيا؛ يقطع بأن الصداقة والتحالف والأخوة في العلاقات الدولية، مجرد كلمات وليست التزامات.

وإذا كان الإعلان عن هذا المرر الجديد في بهارات (الهند) بعد ثمانية عشر يوما فقط من انعقاد قمة “بريكس” يؤكد على شيء؛ فإنما يؤكد على صحة ما ذهب إليه “ثوسيسداس” قبل نحو 2400 سنة من أن العلاقات الدولية علاقات مصالح لا مبادئ، الاستناد فيها للحسابات وليس إلى الصداقات. فالسعودية والإمارات التي تعشمت الصين فيهما خيرا بدخولهما إلى مجموعة “بريكس” لدعم بنك التنمية التابع للمجموعة، يديران ظهريهما لبكين ليلتحقا بمبادرة تخدم مصالح منافستها الآسيوية (بهارات)، والأكثر أنهما بانضمامها للممر الجديد يساهمان في جلب الغرب من جديد، وبقوة إلى الأراضي الآسيوية التي تحاول الصين أن تحولها إلى مجال لنفوذها الحيوي.

مثال آخر يظهر الطابع النفعي للعلاقات الدولية تقدمه السعودية، التي ما زالت تمتنع عن التطبيع مع “إسرائيل” في النصوص والخطابات، بينما تقبل عليه معها في المسارات والممرات. إسرائيل بدورها وبعد أن ظلت تردد أن مصر جوهرة التطبيع مع العالم العربي، باتت تباهي بالممر الجديد وبأنه سيوفر 30% من كلفة النقل و40% من سرعة التجارة عبر قناة السويس وبالتالي يعد ميلادا جديدا لدولة إسرائيل.

هكذا يا عزيزي تسير العلاقات الدولية! إنها غابة تعج بالافتراس والنفعية والمراوغة والمباغتة واللف والدوران. لا يمانع من يلعبها وهو يتبادل اللكمات أن يتوقف ليتبادل بعض الأحضان والقبل. لهذا فإنها مباراة كبرى ممتدة ولا تنتهي. ستظل تدور وستظل التوازنات فيها تتغير والمسارات تتبدل والممرات تتحور. من المؤكد أن الصين لن توقف مشروعها العملاق، ولن تكون روسيا بدورها بعيدة عن المعركة لأن الممرات والمسارات التجارية المقترحة باتت تمثل مسرحا مهما أمام الكبار لتغيير التوازنات العالمية والتحالفات الإقليمية. ستتواصل لعبة الأمم بكل بذاءاتها وستظهر مسارات جديدة وممرات بديلة لتدفع البعض إلى القفز منها للالتحاق بغيرها طالما رأى في ذلك ما يحفظ بقاءه ويزيد نماءه. وفي ظل هذا القفز وذلك التخبط ستتحول الممرات إلى مرارات. وما أكثر الحروب التي اشتعلت عبر التاريخ بسببها.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock