رؤى

الحيرة الأبدية بين الصمت والكلام

“أنا الصمت.. اعتدت ألا أتكلم، وإن تكلمت فمع نفسي.. لم يسمع صوتي أحد من قبل.. حافظت منذ بدء الخليقة على سكوتي؛ لكني تعبت، مللت ولم أعد أحتمل.

أليس من حقي أن أصرخ ولو لمرة؟ أن أنطق ولو بحرف؟ أن يسمعني أحد ولو لبرهة؟ آلاف السنين والناس لا يعيروني اهتماما، لا يريدون أن يقتدوا بي أو يردوا إليّ اعتباري، لا يشعر أحد منهم بقيمتي ووجودي، يتصورونني جامدا بلا مشاعر، يعتقدون أني لا أنطق ولا أفهم، لقد أحبطوني وأهملوني ولم يروا أبدا فضائلي.. مع أنهم لو شاركوني لارتاحوا ولو اتبعوني لاهتدوا؛ لكني أعرف الناس جيدا، لا يتحملون صبري، ولا يصدقون مع أنفسهم كما أصدق مع نفسي.. وها أنا اليوم -بعد ملايين السنين- أعترف بأني قد صرت متعبا من نفسي ومنهم، أئن من حياتي وأتعذب أكثر من أفعالهم. لهذا خرجت أبحث عن شريك؛ كل أملي أبث إليه همي ولو للحظة”.

ومن مسافة بعيدة.. خُيّلَ إلى الصمت مخلوقا ظنَّ أنه يشبهه.. كائن غريب يجلس أعلى الجبل وهو صامت مهموم مغتم.. اقترب منه بحذر، وهاله ما رأى.. إنه الكلام وقد أغلق فمه تماما.. توجه الصمت إليه مضطربا وسأله: “أيها الكلام أراك قد توقفت عن الكلام. فلماذا صمتَّ؟ لماذا لا تتكلم؟ عسى ما شر؟”.

نظر الكلام إلى الصمت بعيون تنمُّ عن حسرة دون أن يعقّب، فواصل الصمت حديثه على مضضٍ ظانًا أن الكلام بصمته إنما يستعلي عليه.

قال له: “أيها الكلام لماذا ترمقني بعينين غيورتين؟ هل تحسدني وأنا المحكوم عليه بخرس أبدي؟”.

فجأة انفجر الكلام في وجه الصمت “كيف تقول أخرس، وأنا أراك اليوم تتكلم؟ ليتك ما نطقت.. نعم أنا أحسدك بل وأمقتك لأنك في نعيم لا تقدره.

قال الصمت: “تمقتني؟ لماذا تمقتني؟ ماذا فعلت لك؟” فرد الكلام: “لأنك أذكى مني.. أنت لا تنطق ولذا لا يحاسبك أحد، ولا يعاقبك أحد، ولا يُمسك أحد عليك خطأ”. رد الصمت قائلا: “تحسدني على ما ابتليت به من إعاقة وأنت سليم معافى تزاول حياتك بحرية لا سقف لها وتتمتع بحياة لا قيد فيها!”.

فقال الكلام بوجع: “اسمع أيها الصمت، أنا في ورطة، صحيح أن ما أقوله كثير، أنا لا أنكر ذلك، ولا أنفي أني أقول ما يحلو لي، لكني أقوله بمسئولية. المشكلة في هؤلاء، في الناس.. إنهم يشبهونني وينطقون مثلي، لكنهم لا يلتزمون كما ألتزم. لقد رماني البعض منهم بالكفر، واتهمني آخرون بالغدر، واتهمني نفر منهم بالخيانة، يقولون إني ثرثار وعياب وسباب ومغرض وكذوب وملفق ومنافق ونمام.. يزعمون أنني من يفشي الأسرار ويستبيح الديار، يقولون إنني أهذي وأني دنيء مجنون.. تتوقع مني بعد هذا كله ألا أكره نفسي وأملَّ حياتي؟! أيها الصمت، عليك أن تفيق.. اعلم أنه لا أمان لإنسان، خذ الحكمة مني أنا، لقد علمتهم النطق وعرّفت لسانهم الحركة، وغرست في أذهانهم قاموسا ثريا بالمعاني الطيبة والمفردات اللائقة، لكن أنظر ما فعلوا، بعد أن دربتهم على الآداب انتهكوها، وبعد أن أرشدتهم إلى الدماثة أهملوها، وبعد أن أكدت عليهم أمانة الكلمة فرطوا فيها. إن الكلام أمانة أيها الصمت، أما مع الناس فلا أمن ولا أمانة، اللسان عندهم ليس فيه عظم.. يجلجل ولا يخجل.. ينسى ما فعلته من أجلهم وما علمته لهم. لقد أفنيت عمري وأنا أدربهم بكد وجد وجهد. لكن فيهم جحود غريب، لقد راحوا يلومونني ويعلقون عليَّ كل خطاياهم؛ لذا أرجوك أن تسمعني، لقد قررت أن أكون من اليوم مثلك؛ سأسكت.. لم يعد الناس في حاجة إلي، علمتهم فخالفوني وهيَّأتهم فتخلوا عني. أيرضيك بعد أن دبت الحياة على ألسنتهم بفضلي أن يعيبوني ويهينوني. لا والله.. إنه جرم لا يرضي أحد؛ لذا أسعى أن أكون مثلك وأصمت. نعم سأصمت”.

استمع الصمت بحكمة إلى ما قاله الكلام ثم ردّ متعجبا: “مثلي أنا؟ وهل لي مثل؟ أنا صبور.. فهل لديك صبرٌ كصبري؟ ثم ها أنت تراني اليوم بنفسك كيف جننت وفقدت صبري. اعلم أيها الكلام أن الصمت ليس سهلا، وأن الكتمان ليس يسيرا. لقد أفنيت حياتي وأنا أحفظ الناس لكي يقفوا بجانبي. تمنيت لهم أن يسكتوا كثيرا وإن نطقوا فقليلا. لكنهم ألقوني خلف ظهورهم وساروا -على نحو ما أرى- خلفك أنت، يثرثرون ويذرون ويسخرون. لكني مع ذلك ومن بعد كلامك أجد نفسي في حيرة! لقد أخبرتني أنك لست مسئولا عن شرورهم.. يبدو أنهم خانوك مثلما خانوني. لهذا أرجو منك أيها الكلام أن تسمعني، فكما شكوت إليَّ همك أريد أن أشكو إليك همي. فإما أن تقنعني فأقبل منك أن تصمت أو أن أقنعك فتعلمني كيف أتكلم؟”.

نظر الكلام بعين حادة إلى الصمت وقال: “أبعدَ ما قلته لك عن الناس تريد إيضاحا أكثر، إنهم خونة يا سيدي لكن لشدة جرأتهم يتظاهرون بالبراءة. تخيل أنهم يرمونني بالخيانة وهي فيهم. يتهربون من أخطائهم ويلقونها علي.. ينسبون دناياهم إليّ، يدعون أنهم أبرياء ويقولون عني مذنب، ألم تسمعهم يرددون عبارة شيطان الكلام، والله إنه لا شيطان إلا بني آدم. ودعني أعطيك فكرة، إنهم يتنابزون يترامون بعبارات نابية يستعملون مفردات مهينة يدعون أني أجزتها لهم، وهم في ذلك يكذبون ويمكرون. إنهم خونة يا سيدي خونة، أنا لم أعلمهم ذلك. هم من ابتدعه. كيف لي أن أتحمل هذا الظلم؟ هل تريدني أن أقتل على أيديهم كل يوم؟ هل من المقبول أن أستمر في العيش معهم وهم يطعنون شرفي بلا توقف.. إني أود أن أتحول مثلك أيها الصمت إلى صمت؟”.

توقف الصمت لبرهة وأحس بهول الصدمة. شعر بأن معاناة الكلام صادقة. لكنه أخفى مشاعره. فقد خشي على عرشه. خاف أن يزاحمه أحد في ملكوته؛ فقال: “اسمع أيها الكلام. إني أتعاطف معك. لكني أخشاك. أخاف أن يتغلب طبعك على تطبعك فتعود مهما تحملت الصمت لتثرثر فتزعجني. وأنا كما تعلم لم أتكلم إلا بعد أن ضقت ذرعا بالوحدة لملايين السنين، وبعد أن رأيتك حزينا فحسبت من المروءة أن أقف بجانبك. لكني للحق بعد أن أدركت مصيبتك قررت أن أرجع لأصمت. لا تؤاخذني أيها الكلام رجاء. أنا الصمت إن نطقت فلن أكون إلا صريحا. أنت مخلوق ناطق. ستعيدك طبيعتك مهما سكت تزيد وترغي. لن تصمت أبدا مثلي كما تتوهم. أنا وإن كنت أتعاطف مع أنينك وشكواك من الناس ومن خيانة الناس لرسالتك، إلا أنني على يقين من أنك لو أمسكت لسانك عن النطق لأيام فلن تتوقف عنه أبدا. وأنا بصراحة لن أطيق ضجيجك برغم أني أيضا  لم أعد أطيق صمت نفسي”.

رد الكلام على الصمت بصوت منكسر: “يا لك من أناني حاقد. حتى أملي في أن أركن إلى الصمت ولو لأيام قليلة تحرمني منه؟ “فرد الصمت بتؤدة: “أيها الكلام. من حقك أن تكون ما تشاء. لكن لا تحاول أن تكون مثلي. فأنا اعتدت أن أعيش وحدي. لم أبحث يوما عن شريك يؤنسني. كل ما احتجت إليه طوال الدهر مجرد برهة أقضيها مع عابر سبيل كنت أنت هو. ولهذا ليس أمامك -أيها الكلام- إلا أن تمضي في حال سبيلك وأمضي أناً أيضا وحيدا في طريقي. أنت معذب بالضجيج والضجر. وأنا معذب بالموت والجمود. أنت تشكو انحراف الناس عن رسالتك وأنا أتعجب من عدم إيمانهم برسالتي. وعذابي بلا شك أكبر. فأنت مهما ضايقوك تنطق لتخفف عن نفسك. أما أنا فأعي كل ما يفعلون؛ لكني مع ذلك غير مسموح لي بأن أنبس ببنت شفة. فلنفترق”.

لم يجد الكلام على الفور كلاما  يرد به على الصمت. فسكت للحظة ثم قال: “يبدو أيها الصمت أن كلينا محكوم عليه بالشقاء. أنا إن نطقت حاسبوني وأنت إن سكت احتقروك”.

حانت لحظة الفراق. ابتعد الصمت وهو يردد “الحمد لله أن ليس لي عيش مع هؤلاء”. وانصرف الكلام وهو يهذي “اللهم صبرني على العيش مع هؤلاء”. ومن بعيد سمع الكلام صوت الصمت وهو يواسيه” حقا إنهم لم يتعلموا منك آداب الكلام”. فصرخ الكلام ليصل صوته إلى الصمت” ولا هم تعرفوا منك على قيمة السكوت”.

افترق الاثنان فصحوت من غفوتي لا أقوى على الصمت ولا أقدر على الكلام.

*نشر الكاتب د. إبراهيم عرفات أستاذ العلوم السياسية النسخة الأولى من هذا المقال في جريدة الوطن في سبتمبر ٢٠١٧، وننشره هنا بعد إجراء الكاتب لبعض التعديلات عليه.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock