نفاقا للرئيس السادات وكراهية للرئيس عبد الناصر ونظامه وثورته وبغضا للاتحاد السوفيتي وما قدمه لمصر وللشعوب العربية ولأسباب أخرى معلومة ومجهولة؛ ظل المصريون والعرب بداية من العام 1974، ولنحو أكثر من عشر سنوات يقرءون في الصحف والمجلات ويسمعون في كثير من المنابر الإعلامية؛ أن كل كوارث مصر سببها السد العالي! فهو الذي رفع ملوحة التربة، وتسبب في نحر مجرى النيل، وقلل من نسبة الطمي الذي يخصب الأرض، وقضى للأسف على السردين والجمبري!. ليس هذا فحسب بل وصل الأمر بالبعض إلى التحذير من خطورة انهياره في أي وقت وإغراقه للدلتا.. وقد تزامن ذلك مع اكتشاف أحد الباحثين أن هناك علاقة وطيدة بين السد العالي وارتفاع أسعار الكلور المستخدم لتنقية المياه. لم يقف الأمر عند هذا الحد فلقد لاحظ شعراء وعشاق وصاحب أحد الكازينوهات، ما حدث للنهر الخالد من تضاؤل معدلات رومانسيته مع فقدانه لمظاهر جماله بسبب تباطؤه وانخفاض سرعة جريانه. لقد صار السد العالي خلال هذه السنوات العشر هو المتهم الرئيسي في الخراب والذي لولاه لتمتعت مصر برخاء لم يسبق له مثيل، فهو المانع الأول لزيادة الانتاج والحائل دون انتشار العدل في أرجاء الوطن وهو الذي حرم -دون شك- أبناء مصر من أن ينعموا بالأمن والسكينة في أنحاء واديهم الخصيب؛ لكن الحقيقة الناصعة لم تتغب عن هؤلاء الكتبة والمتكلمة كثير إذ فجأة ودون سابق إنذار اكتشفوا -هم أنفسهم- أن السد العالي قد حمى مصر من الجفاف والتصحر الذي انتشر في إفريقيا وأن مياه بحيرته المتهمة بأنها التي حرمت أرض مصر من الطمي هي التي فقد أغاثتها من أن تظل عطشى بلا طمي ولا ماء!. مع كل هذه الاتهامات التي طالت السد العالي لم يجد البعض حرجا من المطالبة بهدمه، وكان على رأس هؤلاء المحامي عمر التلمساني المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وقد كان مقربا- بما لا يخفى على أحد- من الرئيس السادات.
أمام كل هذا الهراء؛ قرر الكاتب الصحفي الأستاذ فيليب جلاب أن يرد على كل هذه الدعاوى رغم وضوح جهلها وتهافتها؛ بما يقطع الشك باليقين في مسألة السد العالي؛ ويكشف عن الأهداف الحقيقية وراء هذه الحملة؛ فألف كتابا كان هذا التساؤل عنوانه: هل نهدم السد العالي؟.
تضمن الكتاب مقدمة وأربعة فصول وملحقا ضم بيانا عن إتمام بناء السد العالي، وخطاب الرئيس السادات في المؤتمر الشعبي بأسوان بمناسبة انتهاء العمل في بناء السد العالي (15 يناير 1971) وخطاب الرئيس جمال عبد الناصر أثناء الاحتفال بتحويل مجرى النيل (14 مايو 1964). وبيانات عن السد العالي. وقد تساءل جلاب في مقدمة الكتاب عن الأسباب الحقيقية وراء هذه الحملة التي خاصمت العلم في كل ما أوردته من دعاوى، وكأن السد العالي هو السد الأول من نوعه فيما يتعلق بالآثار الجانبية التي تنجم عن بناء السدود، على الرغم من شهادة الخبراء الدوليين أن هذه الآثار كانت أدنى من معدلاتها الطبيعية بصورة لافتة للنظر، وبما لا يقارن بحجم ما تحقق من مكاسب وفوائد من بداية انطلاق العمل بالسد. لكن الغرض هو ما جعل هؤلاء لا يميزون بين ملاحظاتهم وتحفظاتهم الفنية، فاختلط هذا بذاك فجاء الأمر على أشد ما يكون من السخف بما يجاوز حدود الهزل.
بعنوان “خوفو.. وعبد الناصر” يستهل “جلَّاب” فصول الكتاب مذكرا بمقولة الكاتب والمؤرخ الأمريكي “كينيث لوف” عن تلك المقارنة “أن عبد الناصر استطاع أن يبني السد العالي الذي يزيد عن حجم الهرم الأكبر سبعة عشر مرة، وأن أحدا لن يذكر في المستقبل من بين كل الأحداث التي ارتبطت ببناء السد -بما في ذلك حرب السويس- شيئا سوى السد العالي وعبد الناصر والسوفييت، كما أن أحدا لا يذكر من سياسات عهد خوفو سوى بناء الهرم الاكبر”. مع الوضع في الاعتبار أن الهرم هو في الحقيقة قبر الملك أما السد العالي فهو مصدر الحياة لملايين المصريين.
تكشف هذه المقولة إلى حد بعيد أسباب هذه الحملة الشرسة على السد العالي.. فالسد هو أهم إنجازات ثورة يوليو بلا منازع، وربما تصغر إلى جواره العديد من إنجازات الثورة الأخرى؛ ولما كان نهج الثورة المضادة أن تشوه الحقبة الناصرية بكل ما أوتيت من قوة وإلصاق كل نقيصة بها، كان من المحتم أن يبدؤوا بأهم منجزات الثورة؛ وربما كان في الأمر شيء من التسرع وعدم الدراية فجاءت الحملة على هذا النحو البائس.. وإن تركت بعض آثارها المسمومة في رؤوس قطاع كبير لم ينل حظا وافر من التعليم. يبدأ الكاتب الحكاية من أولها عندما أنهت شركة “هوشتيف ودورتموند” دراستها التي استمرت لنحو عامين عن مشروع بناء السد الذي يمكن له تخزين 130 مليار متر مكعب من المياه بما يتجاوز قدرة الخزان القديم بنحو ستة وعشرين مرة.. وقدرة الشركة التكلفة الإجمالية بحوالي 415 مليون جنيه استرليني، وقدرت المعونة الخارجية اللازمة لمصر بثلث المبلغ، وقدرت الشركة العائد السنوي للمشروع -ري وملاحة وكهرباء- بنحو 255 مليون جنيه استرليني، أي أن التكاليف سيتم تغطيتها في غضون عامين.. وقد دعمت الشركة الدراسة بآراء مجموعة من الخبراء الأوروبيين والأمريكيين.. وبدأ البنك الدولي في دراسة قدرات مصر الاقتصادية ومدى تحملها للتكلفة والفوائد المتحققة ببنائه.. وقد اعتمدت مصر مبلغ 8 مليون دولار في ميزانية عام1955، للقيام بالأعمال التمهيدية. وبدأ بناء الطرق وخطوط السكك الحديدية ومساكن العاملين في المنطقة المحددة لبناء السد.. وجاء تقرير البنك الدولي إيجابيا في أغسطس من نفس العام ما أوحى بأن كل الأمور على ما يرام بشأن القروض والمعونة الفنية.. لكن الواقع كذَّب كل ذلك فلم يكن للقوى الدولية أن تدعم مشروعا كهذا سينقل مصر نقلة كبرى نحو الاستقرار وتحقيق أعلى معدلات التنمية لتخرج من كونها مزرعة للغرب ومصدرا للمواد الخام وسوقا للاستهلاك أو مجالا للشركات الصناعية الأجنبية.. وقد ظهرت نواياهم بإعلان صفقة الأسلحة الروسية في سبتمبر من نفس العام، واستجابة لرأي بعض العقلاء أعلنت أمريكا وبريطانيا في الشهر التالي عن تمويلهما للسد ب70 مليون دولار تدفع أمريكا منها 56 مليونا، ويمول البنك الدولي المشروع 200 مليون دولار.. كان الثمن الذي تريده هذه القوى هو أن تكون مصر الجديدة أداة أمريكا لإعادة تنظيم المنطقة بشكل نهائي حتى تكتمل سلسلة حصار المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر الوطني، بعد توقيع صلح بين مصر والكيان الصهيوني وفقا لشروط الأمريكية.. تمادى الأمريكان في أوهامهم إلى أن أدركوا أن ما يرمون إليه بعيد المنال.. بل مستحيل في ظل وجود هذ النظام العنيد؛ فإذا بوزير الخارجية الأمريكي “جون فوستر دالاس” يعلن فجأة ودون مقدمات سحب العرض الأمريكي للمشاركة في تمويل السد.. وقد أعلن ذلك “…بأكثر الطرق مجافاة للتقاليد والعرف الدبلوماسي وبصورة لم يسبق لها مثيل في العلاقات الدولية فيما عدا حالة الحرب”. في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان “الوعد والنكوص” قام الكاتب بتحليل الموقف الأمريكي الذي تحول أكثر من مرة بشكل يدعو إلى السخرية، نتيجة اختلاف وجهات النظر بين المسئولين الأمريكيين (دالاس وهوفر) وبين المسئولين الأمريكيين والسيد يوجين بلاك رئيس البنك الدولي الذي كان متحمسا للمشروع، بالإضافة إلى ما مارسه كبار منتجي القطن الأمريكي وبعض الدوائر الصهيونية من ضغوط على الإدارة الأمريكية.. وقد أعلن الرئيس عبد الناصر ما لا يدع مجالا للشك أن الربط بين تمويل السد والصلح مع الصهاينة مرفوض تماما في مقابلة مع مراسل الإيكونيميست اللندنية وفي لقائه مع مبعوث السلام الأمريكي.. وكان رده على الموقف الأمريكي صاعقا بإعلان تأميم قناة السويس في عيد الثورة عام 56.في الفصل الثالث وعنوانه “السد والحقيقة” يفضح جلَّاب الموقف الأمريكي بكل تناقضاته إلى الحد الذي وصل إلى تقديم تقارير غير صحيحة عن حالة الاقتصاد المصري للكونجرس الأمريكي، وتضارب الأسباب التي قدمها المسؤولون الأمريكيون حول سحب العرض، وهي التي سخر منها السيناتور “فولبرايت” إذ تساءل كيف تكون صفقة الاسلحة الروسية سببا في تقديم العرض وسحبه في نفس الوقت؟!.وحدث العدوان الثلاثي الذي كان مبرره استعادة قناة السويس من أيدي مغتصبيها المصريين!! وخرجت مصر من الحرب منتصرة بعد أن وفرت مصدر تمويل لمشروعها الكبير، وتقبل مصر العرض السوفييتي للمشاركة في تمويل وبناء السد الذي تقدم به الاتحاد السوفييتي في أكتوبر 1955، وفي 27 ديسمبر 1958 وقعت مصر والاتحاد السوفييتي على الاتفاقية التي تعهد الاتحاد السوفييتي بموجبها بتقديم المعونة الاقتصادية والفنية لمصر لبناء المرحلة الأولى من السد العالي، وبعد أقل من شهرين تم التصديق على الاتفاقية وشرع السوفييت على الفور في تنفيذ تعهداتهم. وكان التأكيد من جانب “خروشوف” على استمرار المعونة الاقتصادية والفنية في المرحلة الثانية للبناء.. وبعد أن أصبح السد حقيقة واقعة تتجدد المواقف الأمريكية الهزلية لنجد تصريحا للرئيس الأمريكي “أيزنهاور” يعلن فيه أن بلاده باتت مستعدة للمساهمة في بناء المرحلة الثانية من السد العالي!. أعقب ذلك مطالبات في بعض الصحف الأمريكية بضرورة مساهمة البنك الدولي في تمويل المرحلة الثانية، ثم تعلن ألمانيا الغربية عن استعدادها لتقديم قرض بقيمة 25 مليون جنيه استرليني للغرض ذاته، وارتفعت قيمة هذا القرض إلى حوالي 38 مليون استرليني بمجرد وصول الوفد السوفييتي للقاهرة.. وقد تزامن ذلك مع وجود وفد من رجال الأعمال الأمريكيين بالقاهرة قاموا بنشاط محموم معلنين عن استعدادهم للمساهمة في بناء المشاريع المدرجة في خطة التصنيع الخمسية! بالطبع تم رفض كل ذلك واستمر العمل في المرحلة الثانية بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي الذي قدم كل ما لديه من إمكانات وخبرات ليصنع مع المصريين ما يمكن وصفه بالمعجزة دون أن مبالغة.
في الفصل الأخير من الكتاب “الحملة مستمرة” الأكاذيب التي روج لها أعداء السد والردود العلمية عليها التي جاءت على ألسنة الخبراء المصريين والأوروبيين والأمريكيين، بدءا من الدراسة التي أصدرها وزير الري المصري المهندس محمد عبد الرقيب وتضمنت الرد على المسائل المتعلقة برسوب الطمي، والنحر في المجرى وتآكل الشواطئ والتبخر والتسرب في حوض الخزان وملء البحيرة وزيادة الملوحة والأمراض المتوطنة والثروة السمكية.. وقد جاءت ردود الرجل على أسس علمية مزودة بجداول وإحصائيات ومقارنات لا تقبل الشك.. ثم قصة دراسة الدكتور عبد العزيز أحمد التي تم تفنيدها تماما من جانب خبراء مصريين وأجانب في مصر، ثم تعهده بعدم نشرها لعدم إحداث بلبلة، ثم إخلافه وعده وعرضها على جمعية المهندسين البريطانيين لمناقشتها بحضور وزير الري المصري وخبراء مصريين.. وقد حضر الوزير والخبراء وتم تفنيد الدراسة كليا للمرة الثانية في حضور الخبراء البريطانيين الذي أيدوا بالإجماع وجهة النظر المصرية.
ثم عرض الكاتب رأي الخبراء الأمريكيين الذين زاروا السد في نوفمبر 1971،وجاء تقريرهم ليؤكد أن السد العالي من عجائب الهندسة الحديثة، وأنه يلبي احتياجات الشعب المصري، كما يعتبر نموذجا رائعا للتعاون بين الشعوب.
ثم يستعرض الكاتب التقرير الشهير الذي وضعه وزير الري المهندس عبد العظيم أبو العطا، والذي فند فيه بصورة علمية قطعية كل ما يتعلق بالآثار الجانبية للسد.
وقد أشارت الدراسة إلى أن الأهداف حققها السد، كان من أبرزها، حجز مياه النيل التي كانت تذهب إلى البحر دون استفادة، وتوفير 4459 كيلو وات ساعة من الكهرباء، واستصلاح912 ألف فدان من المياه التي وفرها السد، وإن كانت عملية الاستصلاح قد توقفت إلا أنذلك يرجع إلى أسباب اقتصادية وليس لعدم توافر المياه. كما أكدت الدراسة على أن المشروع أضاف مساحات من الأراضي المستصلحة بما يوازي أكثر من مليون فدان، كما تم تحويل 972 ألف فدان من أراضي الحياض إلى نظام الري الدائم، وقد ساهم السد في التوسع الرأسي في محاصيل كثيرة، من أهمها الأرز، ووقاية البلاد من الفيضانات العالية، وتحسين الملاحة النهرية نتيجة استقرار مناسيب المياه والقنوات الملاحية طوال العام، وقدرت الدراسة الزيادة التي حققها السد للدخل القومي عام 1973، بنحو مائة مليون جنيه.
واليوم يعود الحديث عن السد العالي إلى الواجهة من جديد مع تصاعد التهديدات الإثيوبية وتنامي مخاطر تناقص حصة مصر من مياه النيل، بعد بناء سد الخراب الإثيوبي.. ليستدير الزمان مجددا ليعتذر للسد العظيم وبانيه الأعظم.