صدرت رواية بريد الليل عن دار الآداب عام 2017، للكاتبة اللبنانية المقيمة بفرنسا هدى بركات التي تحظى بتقدير كبير في الأوساط الثقافية الفرنسية إذ منحتها الحكومة الفرنسية رتبة الفارسة في الأدب والفنون عام 2002، ووسام الاستحقاق في عام 2008، كما فازت “بركات” بجائزة نجيب محفوظ للأدب عن روايتها “حارث المياه” في عام 2001، إلى جانب عدد من الجوائز عن الأعمال التي صدرت لها ومنها “سيدي وحبيبي”، و”أهل الهوى”، و”ملكوت هذه الأرض”، و”حجر الضحك”.
في عام 2019 دخلت “نوفيلا” بريد الليل (126صفحة) القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية وسط دهشة الكثيرين، مع وجود عمليين غاية في التميز هما رواية “النبيذة” للكاتبة العراقية أنعام كجه جي التي وصلت للقائمة القصيرة في مرتين سابقتين عن روايتيها “الحفيدة الأمريكية” و”طشاري”. أما الرواية الأخرى التي ذهب كثيرون إلى أحقيتها بجائزة البوكر 2019، فهي ورواية “الوصايا” للروائي المصري عادل عصمت.. وكان لتسرب خبر فوز “بريد الليل” بالجائزة قبل الحفل- وقْع سيئ زاد من حالة الجدل حول الرواية وملابسات فوزها بالجائزة المرموقة.
تتكون الرواية من ثلاثة فصول، الفصل الأول بعنوان: خلف النافذة ويتضمن خمس رسائل كتبها أشخاص مجهولون إلى أناس تربطهم بهم علاقات قربى ووشائج أخرى “صداقة/عشق”. بينما يأتي الفصل الثاني تحت عنوان “في المطار” ويحمل بعض الإجابات غير الشافية عن مصائر كتاب الرسائل أو من وجهت لهم. قبل فصل الختام الذي حمل اسم “موت البوسطجي” الذي تنسج فيه الكاتب الناظم الأخير لذلك الشعث الإنساني المربك.
في الرسالة الأولى نتعرف على معاناة رجل كابد طفولة مروعة في كنف أم قاسية تحنو على كل شيء دونه؛ لكنها لا تتحمله كثيرا فتأمر بوضعه في قطار وهو في الثانية عشرة ليفارقها إلى الأبد.. لا ندري ما سبب هذه القسوة غير المبررة.. هل جاء هذا الطفل نتيجة لعلاقة غير شرعية، هل صادف ميلاده مصائب حاقت بالأسرة فاعتبرته نذير شؤم يجب التخلص منه، أم هل كان الفقر والعوز الشديد هما سبب تلك المعاملة القاسية.. “لم تر فيَّ سوى بطن فاغر فاه”.
بالرغم من ذلك استطاع هذا الشخص تحصيل شيء من العلم والمعرفة جعلاه يشق طريقه بصعوبة في الحياة حاملا إرث الكراهية لأمه وأسرته ووطنه الذي تطوَّع بنفيه أيضا دون رحمة.. في المنفى تحنو عليه أقداره فتهبه امرأة عاشقة تعطي بلا حدود دون تبرم.. “لكن الجراح الغائرة لا تبرأ بماء الورد” فإذا به يتفننُ في إيذائها وإهانتها وسحق كرامتها، انتقاما من أمه التي منعه موتها من الانتقام منها.. كتب هذا الشخص مجهول الاسم والبلد رسالته إلى تلك المرأة ليس على سبيل الاعتذار.. بل على سبيل الإنكار مفسرا كل ما قدمت إليه من صنائع بأنها كانت كمن يرمي بذوره في أرض خراب.. وفي سياق آخر للمعاناة يحكي كاتب الرسالة عن إقامته غير الشرعية في هذا البلد الأوروبي وعن وقوعه ضحية استغلال أحد ناهبي الثروات الهاربين من وطنه عقب انقلاب عسكري.. وكيف كان يعمل في مهنة صحفي في جريدة يصدرها هذا الجنرال الهارب ويتخذ من قصره المنيف مقرا لها. ثم تنقلب أوهام الرجل وكوابيسه إلى ما يشبه جنون الارتياب حينما يتشكك في أن أحدهم يراقبه وأنه لا شك أحد رجال المخابرات لتنتهي الرسالة التي لن تصل إلى من كُتبت لها.. لكنها ستقع في يد العجوز صاحبة الرسالة الثانية التي تنتظر صديقا لها جمعت بينهما علاقة عاطفية في سنوات الصبا.. تبدأ المعجوز في كتابة رسالتها إلى الصديق الذي طال انتظارها لوصوله في هذا البلد البعيد “كندا” وتحكي عن تصوراتها لهذا اللقاء وعن آلام الوحدة في انتظار النهاية الوشيكة وعن هذا العمر الذي ذوى بسرعة بعد لحظة تألق قصيرة لم تستطع فيها أن تتمتع بالحياة كما يجب بعد أن عانت أشد المعاناة بعد موت أبيها الذي كان بمثابة درع لها يحميها من كل خطر إلا أنه كان يخنقها ويغرقها كبدلة من الرصاص ترتديها فتحميها من الغرق دون أن تنجيها منه.
وإلى الرسالة الثالثة التي كتبها رجل إلى أمه يذكرها فيها بطفولته البائسة التي عانى فيها قسوة الأب الذي كان يضربه أمام الناس، ما جعله يتحدث كثيرا في النادي الشعبي الذي يقضي فيه وقت فراغه- في كل شيء ليبدو ذا شخصية قوية لم تتأثر بضرب الأب وامتهانه له.. لكن هذه الثرثرة تسلمه إلى الوشاية التي تمضي به إلى المعتقل حيث يعذب ويهان أضعاف أضعاف ما كان يناله من الوالد القاسي.. في وطن يفرض أبوته بطريقته الفريدة.. ليتحول من ضحية إلى جلاد أو سوط في يد الجلاد فيفقد إنسانيته وشرفه ويصبح مجرما لا يتورع عن قتل الأبرياء بعد أن ماتت في عينه كل المعاني النبيلة.. لكن ثورة تعصف بالبلاد تلقي به كالنفاية في بلد أوربي حيث يذوق آلام الجوع والتشرد ومطاردة ماضيه الأسود ما يضطره للعيش في بيت عجوز تستغله جسديا حتى يقتلها في ثورة غضب وهو بين النوم واليقظة ويصير مطاردا من شرطة البلد الذي آواه.
وعودة إلى الأم القاسية من جديد في الرسالة الرابعة التي توجهها امرأة ضائعة إلى أخيها السجين تخبره فيها بكافة تفاصيل مأساتها التي وصلت بها إلى مستنقع السرقة والرذيلة بعد أن باعتها أمهما صغيرة لم تزل لرجل يكبرها بعقدين ونصف بعقد زواج، هو في الحقيقة عقد بيع.. لتعاني معه صنوف العذاب والانتهاك قبل أن يطلقها وتعود إلى بيت أهلها ومعها طفلتها الوليدة.. تحكي المرأة في رسالتها عن الظروف التي اضطرتها للسفر والعمل في مهنة تنظيف المراحيض بالفنادق ثم اضطرارها للعمل بالدعارة من أجل أن توفر المال لأمها التي تربي لها ابنتها.. لكن العجوز تبيع الحفيدة كما باعت الأم- لخليجي متحول، وتحاول المرأة استرداد ابنتها وبعد أن تنجح تترك أمها لتموت دون أن تحاول إغاثتها، ثم تزور توقيع الأم والأخ لتبيع المنزل وكل شيء قبل أن تهرب، وكذلك فعلت مع مخدومتها القاسية.. تركتها تموت نزفا بعد سقوطها في الحمام، قبل أن تسرق كل شيء.
في الرسالة الأخيرة وهي رسالة شاب إلى أبيه.. تتجلى من جديد القسوة المفرطة التي تسيطر على شخصية الأب ضابط الجيش الذي يرى في وجود الابن المخنث عقوبة من الرب عن ذنب لا يذكره.. يتوسل الابن الى الأب أن يسامحه وأن يرسل إليه تذاكر العودة إلى الوطن دون جدوى بعد أن تشرد وفقد إحدى عينيه وتحول إلى نفاية في شوارع الغربة.
في الفصل الثاني ترد “بركات” على بعض التساؤلات التي أثارتها تلك الرسائل التي لم تصل واحدة منها إلى وجهتها فنعرف أن الرجل قاتل العجوز سيقبض عليه في المطار وأن صديقه الألباني البريء سيقبض عليه أيضا بجريرة لم يرتكبها.. وسنعرف أن الصديق الذي تنتظره العجوز في كندا سيغير رأيه ويعود إلى وطنه بعد أن اشتاق لرائحة رقبة زوجته.. سنعرف أيضا أن المخنث لن تصله تذاكر العودة أبدا، وأن الشقيق السجين الذي لم تصله رسالة أخته قد قرر البحث عنها لقتلها عقابا لها على تفريطها في شرفها وتزوير الأوراق لبيع منزل العائلة، وقتلها لأمها كما تصور.
في فصل موت البوسطجي سنعرف أن تلك الرسائل قد وصلت بطريقة ما لا يعلمها أحد إلى رجل بريد يعيش في إحدى القرى، وأنه حافظ عليها رغم ظروف الحرب على أمل أن تصل ذات يوم لمن يوصلها إلى أصحابها.
لقد استطاعت “هدى بركات” ببراعة أن تجعل رسائلها تنبض بالحياة وتنطق بالبؤس الإنساني متعدد الأوجه بين القسوة والتعذيب والنفي والغربة والعزلة والوحشة والتسلط الأبوي وتحجر قلب الأم والحرب والدمار والدكتاتورية والثورة والانقلابات- بلغة سهلة متدفقة تزخر بالتفاصيل دون الوقوع في فخ الثرثرة.. لا تعمد “بركات” إلى إحداث حالة من التعاطف مع أبطالها الذين يرتكبون الجرائم لكنهم ليسوا بمجرمين.. إنهم ضحايا واقع مأزوم تفسخ بفعل الفقر والقهر والظروف الصعبة التي يجد الإنسان فيها نفسه وحيدا ضائعا دون وطن يؤويه.. حالة من الضياع الكامل تؤكدها الكاتبة بمحو أسماء الأشخاص والبلاد، فلا حاجة لها على الإطلاق في ظل هذا التيه المستحكم الذي يتلمس مصيره وسط تلك الغابة الموحلة.
تحدث تلك الرسائل الضائعة حالة من التواصل بين شخوص كتّابها الذين لا يعرفون بعضهم، برغم أن الحالة الواقعية التي يؤكدها موت البوسطجي هي العزلة والانقطاع.. وربما حملت لنا الرواية دعوة إلى التواصل الإنساني مجددا بالرسائل الورقية التي كانت تحمل بين سطورها أنفاس الكاتب وبعض روحه.. وهو ما لم يعد موجودا الآن في عصر البريد الإلكتروني.. دعوة للبحث عن أولئك التائهين في صحائف أعمارنا، وفي الذاكرات التي صارت مطموسة بالهم اليومي والكفاح البائس خلف لقمة العيش.. في بريد الليل سنجد مزقا من ذواتنا برغم أن شخوصها لا يشبهون أغلبنا.. أو هكذا نحب أن نظن؟!.